المسرح الفيزيائي.. ورقات تاريخية وتجارب حديثة

 المسرح الفيزيائي.. ورقات تاريخية وتجارب حديثة

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

ما أكثر المدركات التي تنسجها اللغة المنطوقة سواء لضرورات التعامل المنفعي للحياة أو مدركات الفكر، لكن جانبا آخر من التفاسير والأفكار والتعاطي الشعوري والكوني، ربما أعمق وأبعد مدى وأصفى، قد لا يدرك إلا بصمت المنطوق وإفساح الطريق للإصغاء للغة أخرى تحفز التعاطي الكامل للحواس مع المطروح لفهم أكثر عمقا وخصوصية، خصوصا إن كان هذا المطروح غير مألوف باشتباكه مع معنى أو فكرة فلسفية أو عالم نفسي معقد أو ما هو راغب في التركيز على هذه الزوايا في طرحه، هذا تماما ما يذهب إليه “المسرح الفيزيائي Physical Theatre” أو المسرح الجسدي أو الحركي.. ذلك المسرح بعد الحداثي الذي يؤسس للاستغناء عن النص الدرامي بتفعيل الجسد ولغته كأداة رئيسية فاعلة تحمل المضمون الدرامي واستخدام فيزيائية الجسد بشكل غير مألوف يفعل الداخل الإنساني ويستدعي ذاكرته المهملة مستفزا مدركات مختلفة للعقل والنفس مختزلا بذلك معاني معقدة وفلسفات وتجارب قد يصعب على الكلمة المكتوبة التعبير عنها لوجوب آفاق غير مطروقة أو مستهلكة لجعل طرقها مختلفا كما لم يكن من قبل محدثا تواصلا جماليا خاصا بالإصغاء لهذا القص الجسدي والإيمائي وطاقته الجذابة المعتمد على الجسد.. ذلك الجسد الذي يراه المخرج الروسي “فيسفولد مايرهولد” مجالا كهرومغناطيسيا لتقديم خطاب مرئي بمنظومة حركية تلغي المنظومة القرائية، هذا الاتجاه المعاصر في المسرح الحركي يركن إلى الذات الواعية من خلال لا وعيها ووجدانها الخالص، ويستثمر التداعي الحر للجسد طريقا مع الحركة البحتة ذات التجريد العالي خالطا بين الكثير من أنواع الأداء الجسدي وكذلك التمثيل الصامت، وهو الاتجاه الذي بدأ مع نشوء الثورة الصناعية وما تلاها من اكتشافات علمية طالت الوصول لدراسات للحركة التعبيرية والميكانيكية عند الإنسان وظهور علوم دراسة دلالات الحركة الإيمائية ومصطلحات مثل الكريوجراف choreography ويعني التصميم الحركي والبيوميكانيك عند مايرهولد، بهدف ولوج مجال الرقص الدرامي الحر المتمرد المتبني لمجاز حركي وفكري ذي تجريد عال وأداء بحت أي التشكيل المجرد مع الميتاحركة (دلالة الدلالة) لإعطاء سمة أداء ممنهج له خصوصيته وفرادته، كل ذلك في محاولة للتجريب في الصور الذهنية والمجازية بشكل حركي.
ومن المخرجين الذين اهتموا ووضعوا أسسا للمسرح الحركي الصامت المخرج الروسي «فيسفولد مايرهولد» الذي أسست أفكاره للمسرح الفيزيائي وأكد على التدريب الفيزيقي لجسم الممثل وصوته وحركته مهتما بالتكنيك كأساس في العملية المسرحية مؤسسا لأسلوب “البايوميكانيك” أو الميكانيكية الحيوية، وهناك أيضا المخرج الروسي «ألكسندر تايروف» الذي يعارض تقليد الحياة وكون الفن عين الكاميرا ملتقيا مع مايرهولد في الاعتماد على الجسد والإشارة، هذا بالإضافة لرائد مسرح القسوة وواحد من أبرز رواد المسرح الفيزيائي المخرج والفيلسوف الفرنسي «أنتونين آرتو» أهم معارضي النص في المسرح والمرتكز على إطلاق الجسد حاملا وموقظا للاوعي الأصدق في الإنسان كما يراه وأحلامه منطلقا بذلك من مفهوم المدرسة السيريالية وهاربا كذلك من تقليدية المسرح الغربي وأرسطيته، كما انطلق «جوردون جريج» في كتابه “فن المسرح” من كون جذور المسرح البدائي تعود إلى الرقص والحركات الصامتة رافضا بذلك الفلسفة الواقعية وداعيا إلى مسرح شامل لا يُبنى على النص بل على المسرحية الصامتة، هذا مع تأثرهم بشكل كبير بالمسرح الشرقي الطقسي والمسرح الياباني تحديدا وتقاليده، بغية نقل الواقع بصورة لا واقعية توصل الانفعال بشكل جمالي جسدي يدرك وجدانيا وحدسيا أي لا يعتمد بالضرورة على المنطق ولا الكلمة بطبيعة الحال أو تلقيها بل على تكثيف شعرية الجسد وآلياته الفيزيائية، كما كان للمخرج البولندي “جروتوفسكي” أثرا بالغا في تطوير هذا المسرح من خلال نظرياته الكثيرة عن فكرة «المسرح الفقير» التي وردت في كتابه الشهير “نحو مسرح فقير” الذي يمكن تلخيص فكرته في ضرورة اعتماد العرض المسرحي على الممثل فقط مع إمكانية الاستغناء عن كل العناصر الأخرى، فهو يرى أن جسد الممثل يستطيع أن يشكل الديكور ويغني عن فنيات الإضاءة مع تحجيم النص وتكثيفه لصالح الممثل وحده وجسده، كل ذلك بالإضافة إلى جهود مصممي الرقص الحديث ورقص ما بعد الحداثة بدءا من «إيزادورا دانكن» و«مارثا جراهام» وصولا إلى الألمانية «بينا باوش» مؤسسة المسرح الراقص (Dance Theatre) والراقصة والمصممة لأعمال تحتوي على الرقص والغناء والتمثيل معا بادئة في ذلك دائما من فكرة صغيرة جدا وطبيعية من الحياة اليومية تطرح بها مجموعة من الأسئلة وتعيد صياغتها بشكل حركي بطريقة تستهدف إصدام المشاهد لتحرك الساكن فيه. أما عن تسمية المسرح الفيزيائي أو مسرح فيزيائية الجسد فنجدها بدأت عام 1986 مع المخرج والمصمم الأسترالي «لويد نيوسن» الذي سمى فرقته DV Physical Theatre معتمدا على المفهوم الجروتوفسكي، فنخلص أن مسرح فيزيائية الجسد مزيج لما بعد الحداثة في فني المسرح والرقص؛ وهو ذلك المسرح المرتكز على تحرير الجسد من خلال العودة إلى الجذور والطقوس الفطرية والبدائية لتكون هذه العودة محورا للتجريب لشكل مسرحي مغاير.
في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر لعام 2016 وجود هذا النوع المسرحي الحديث أي المسرح الفيزيائي في عرضين هامين هما العرض التشيلي Bunker أي “القبو” أو “غرفة محصنة تحت الأرض” والآخر عرض سويدي عراقي بعنوان “ركائز أعمدة الدم Pillars Of Blood”، فكل من العرضين اعتمد تماما في إيصال مضمونه على الجسد وحركته بشكل أساسي وبأسلوب مختلف في كل منهما كما سنرى رغم اتفاق المنهج، ولنبدأ بالعرض الأول التشيلي “القبو” للمخرجة «باولا كالدرون» وقد اعتمد تماما على لغة الجسد والأداء الحركي دون الكلمة المنطوقة لكنه استطاع بكفاءة إيصال معانيه بوضوح من خلال حركة مؤسلبة تقترب لشكل الرقص وإن لم تكن رقصا لكنها تتطلب تدريباته وإيقاعاته ومرونته..هناك أسرة محافظة تختبئ في حصن عسكري قديم أو قبو تحت الأرض كمكان آمن منعزل يناسب اختياراتها، تحيا كما لو كان أعضاؤها أفراد معسكر حربي.. كل شيء يسير بشكل منظم إلى تتسرب منه انسيابية الحياة بما يحمل ظلال حكم فاشي أو تأثر به، أب هو سيد البيت والأمور وأم ظل له تعمل كدينامو تطيعه وتخدمه وتقلده وكذلك الأبناء وهم ولدان وفتاة، شيئا فشيئا مع استمرار هذه الحياة يبدأ التنفيس بالاعوجاج في شكل عنف بين الأبناء وفساد في العلاقات والطبائع وخلل أخلاقي بعكس المرجو من هذه العزلة المحافظة فتلوح بداية علاقة محرمة بين الأخ وأخته وحتى العلاقة الخاصة بين الزوجين تبدو آلية ميكانيكية، لينجح العرض في تقديم فكرته ببساطة شديدة ووضوح رغم استغنائه عن الكلمة مع إمتاع كبير بإثارته الضحك بكوميديا ولدها ذهن المتلقي الذي يرى تروسا بشرية تبدو كالبشر من خلال أداء متقن سريع منضبط يعزل التعبيرات الداخلية تماما لتبدو شكلية فقط لكنها تحمل كل عبء المعنى وأعماقه كنماذج صورية متحركة بما يناسب آلات بشرية، مما يو لد نقدا تلقائيا لدى المشاهد دون إملاءات لفظية، بأداء بدني مختزل بعمق سريع الإيقاع يعكس عنفا وقسوة مقصودة عالي الكفاءة والتوافق بين الجميع؛ فأغلب الحركات تتم بأداء جماعي متشابه أو متكامل كما المجندين الذين يؤدون مهاما لا يعيشون حياة، وبالطبع فعرض يعتمد على الممثل جسدا وذهنا لا بد أن يتم اختيار فريقه بكفاءة عالية وهو ما حدث بالفعل فاتسم الفريق كاملا بحرفية عالية لافتة نجحوا معها في حجب ذواتهم والذات الطبيعية بشكل كبير للذات الصورية المقصودة.
أما عرض “ركائز أعمدة الدم” فيعتمد في لغة جسده على مسرح القسوة للمخرج لأنتونين آرتو ذلك الباعث للمسرح الطقسي والطقوس البدائية كلغة يراها شديدة الارتباط بالوعي الأولي للإنسان صارت مكونا أساسيا للاوعيه دامجا إياها باللاوعي الحالي للإنسان من خلال أحلامه التي تعد انعكاسا بدورها للواقع.. لذا سيبدو هذا المسرح مشفرا لكن إنصات الحواس واستحضار لا وعيك سيفكك شفرته؛ فموضوعاته لا تحمل السرد المعتاد أو التقليدي ولا الحبكة التقليدية ولا شديدة الاتساق والمنطقية في ثوب حداثي كما في العرض الأول بل ستبدو كرموز الأحلام التي تلمسك بقسوة، هذا العرض وهو عراقي سويدي إخراج وسينوغرافيا وإضاءة المخرج العراقي أنمار طه، لم يعتمد مطلقا على نص مكتوب أو حوار فيما عدا مونولوجين كل منهما عبارة عن نص أدبي أو شعري فلسفي عن فكرة الوجود، فهو يتألف من مجموعة من المشاهد المنفصلة لكنها جميعا ترتبط بموضوع واحد يصب في جوهر الواقع العراقي الحالي كالتطرف الديني والديكتاتورية العسكرية والترحيل أو الهجرة الإجبارية وفكرة السطوة الذكورية على المرأة وغيرها وهو ما يصلح تماما أن يعبر عن قضايا الإنسان في مجتمعات متعددة، لكن العرض اعتمد الترشيد الشديد في صياغة كل العناصر ليتخذ صبغة تجريدية وتشكيلية مؤثرة في آن واحد خاصة باستخدام الإضاءة التي تظل مع قوة تأثيرها مقتصدة ومؤثرات صوتية طفيفة لكنها غير معتادة تعبر عن عالم باطني لا يستدعي التجسيد تماما كعالم اللاوعي ليبقى الاعتماد الأساسي على أداء وجسد الممثل الذي ظل مرتديا «بيرسونا» تجعلك تتأمل الأمر والحالة لا تندمج معها، بأداء مميز عالي المهارة والعمق من الممثلين الثلاثة وخصوصا أنمار طه مخرج وبطل العرض.


أمل ممدوح