د.حسن عطية السيرة والبصيرة

د.حسن عطية  السيرة والبصيرة

العدد 676 صدر بتاريخ 10أغسطس2020

ثلاث نقاط  يمكن أن أستهل بها هذه الكتابة المجملة والمختزلة عن الدكتور حسن عطية ، الذى مثل لنا ، حياة وكتابة ، حضورا دائما وفاعلا، وشكل قيمة متجددة وباقية، تبدت فيما استشعرناه جميعا بعد غيابه الأخير من افتقاد  يتنامى مع الوقت ، وأسى شفيف يترامى ضاغطا وعميقا.
النقطة الأولى متصلة بتعدد المجالات والحقول المعرفية التى تحرك فيها وتفاعل معها، باحثا وناقدا ومتحاورا.
إن نظرة مجملة، حتى ولو كانت خاطفة وعابرة على تجربته التى امتدت على مدار عقود متصلة، يمكن أن تكشف لنا تنوع المجالات والانشغالات ، ابتداء من السينما والفنون الشعبية عبورا إلى الشعر والرواية، وإن ظل المسرح  بالطبع هو فنه الأثير الذى توحد به وتماهى بحيث أصبح كل منهما مرآة للآخر، نستطيع استكشاف حسن عطية من خلال المسرح ، وبالكيفية ذاتها، يمكن الاستدلال على المسرح عبر كتاباته واستقصاءاته النقدية، لعبة انعكاس دائمة  بين الناقد والخشبة، أينما يوجد هو، تتكون مشاهد وحوارات ومواقف وتتابعات بصرية على منصة عرض، وحيثما يكون المسرح، يتراءى هو مشاهدا ومتداخلا ومستكملا التجربة فى الوعى النقدى العام.
 قال “ هيدجر” يوما باستشراف موحٍ : القصيدة لقاء، ويمكن لنا أن نستبدل المسرح بالقصيدة حينما نستدعى حسن عطية ، لتصبح العبارة : المسرح لقاء، وهى العبارة التى تشكل فيما أتصور المدخل الفعلى والصائب لعالمه النقدى، فالمسرح كان لديه دائما لقاء يتجدد مع مواسم العروض ولياليها المتعاقبة، ينتهى أداء لتتولد أداءات، وتسقط الإضاءة خافتة على مشهد ختامى فى مسرحية، لتبرق وامضة على مشاهد أخرى، ومع المشاهد المنتهية وتلك المتجددة، يتراءى دائما ، ويمتد ظله على منصات العروض وقاعات المشاهدة، ويتجلى صوته بحضور كثيف عبر سجالات شفهية  واستقصاءات منهجية ومعرفية.
وهكذا ، يفارق المسرح طبيعته النوعية ويتجاوز كونه  فنا ليغدو مجالا لاستجلاء العالم وأداة معرفية لاكتشاف تحولاته وتاريخه وأنساقه المضمرة.
مع المسرح، كما أشرت سابقا، تجاورت مجالات وتداخلت انشغالات وتوازت أطر فنية متعددة، شملت منذ بواكيره الأولى الشعر والسينما والفنون الشعبية، ومع تعدد المساحات، كان طبيعيا ، وتلك هى النقطة الثانية ، أن يصاحبها تنوع مماثل فى أشكال الكتابة والمشاركات والحضور، مابين المقال والبحث المنهجى والدراسات ، فى توازٍ وتداخل مع الحوارات الشفهية والسجالات والتعقيبات المرسلة فى الندوات والمؤتمرات والملتقيات ، وهى الإسهامات التى شهدت حضوره الممتد فى محافظات مصر ومدنها الصغيرة وقراها النائية ، و كذلك العواصم العربية ومراكزها ومنتد ياتها المسرحية المختلفة.
ومجددا ، أينما التقيت مع أحد المشتغلين بالمسرح أو النقد أو غير ذلك من مجالات فنية، سوف تجد أثرا له وعلامة، وكلما تواجدت فى عرض أو حلقة بحثية أو مؤتمر أو ندوة، سوف تراه ماثلا ، طارحا رؤاه باقتدار علمى وحضور آسر، يثير القضايا والاختلافات مستهدفا استجلاء العوالم المتخيلة للأعمال الإبداعية، وعلاقتها بواقعها الاجتماعى وانعكاساته الخفية.
ظهر حسن عطية وتواجد فى المشهد الثقافى المصرى والعربى، كما نعلم ، ابتداء من السبعينيات الأولى بتحولاتها الفاجعة وصدماتها الفجائية المتكررة، ومثل أكثر مبدعى تلك الفترة ومثقفيها، اندمج فى العمل العام والكتابة النقدية متأثرا بتجربة اليسار ورؤيته الاجتماعية ومنهجه المعرفى وآلياته البحثية  وإطاره المرجعى ، ولست أستهدف فى تلك الكتابة المجملة استقصاء تلك النقطة، فهذا يحتاج بالقطع إلى جهد أراه الآن مؤجلا، فما يعنينى هنا هو إشارة مجملة وكاشفة عن المرتكزات المنهجية العميقة فى منجزه العلمى وأعماله النقدية، فقد ظل الناقد الكبير منذ بواكيره الأولى وحتى كتاباته الإخيرة، يرى تجربة المسرح والبناءات المعرفية فى مجملها متولدة - بانعكاس جدلى - عن بنية تحتية وعلاقات وقوى اجتماعية تشكل الأساس المادى الذى تصدر عنه النتاجات والأنظمة المعرفية ومنها الظواهر الأدبية والفنية.
غير أن العلاقة بين البنيتين : الاجتماعية والفنية ، ظلت لديه جدلية وليست خطية أو مرآوية أوسببية ، وذلك ما يفسر كيف أنه فى أعماله اللاحقة والمتتابعة تداخل مع المنهجيات الحديثة ،  واستخدم مصطلحاتها وإجراءاتها، وحاول استكشاف البنية والإشارات والرموز وبناء العلامات وإنتاج الدلالات بأشكالها المتعددة : الصريحة والضمنية والنسقية ، وغير ذلك ، ولكنه ظل فى تصورى يؤكد الوظيفة الاجتماعية للمسرح، وظل على اعتقاداته الراسخة ويقينه المعرفى بوجود علاقة انعكاس جدلى  بين الأساس الاجتماعى المادى، وبين الظواهر الفكرية ، وحاول تبعا لذلك أن يتجاوز الآلية التى وقع فيها التحليل الاجتماعى التقليدى للظاهرة الإبداعية، وذلك لأن العلاقة السببية التى طاما هيمنت على الفكر النقدى فى استقرائه للظاهرة الفنية لم تعد  بالنسبة له كافية للتفسير، فالناتج الثقافى لا يكفى لتفسيره أن نرجعه إلى أصله، لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه ، وبكتسب خلال تطوره دلالات خاصة مستقلة .
 وكما ذكرت وأوضحت، لا أستقصى هنا تلك النقطة وإطاراتها المرجعية ، وإنما هى الإشارة فقط إلى أن حسن عطية لا يرى المسرح منفصلا  عن إطاره الاجتماعى والمعرفى ، وإنما يراه دائما عبر علاقته الجدلية مع العالم والذات والتاريخ، ولم يعتبره أبدا مجرد تقنيات أو أشكال أو صياغات نخبوية مفارقة .
تلك ملاحظة مجملة ربما تحتاج إلى بحث وكشف للاستدلال على التصورات المركزية فى بنائه الفكرى، ولعلى فى كتابة أخرى أحاول استجلاء تلك النقطة مكتفيا الآن بالتأكيد على مركزية العلاقة  لديه بين الأساس الاجتماعى والأبنية الفنية المتولدة عنها والمنعكسة.

ترتبط  بالنقطتين السابقتين وتتصل بهما، نقطة ثالثة، وأعنى  بها التجدد، فالمتابع  لكتاباته وحركته وإسهاماته  يمكن أن يلاحظ  التجدد الذى كان ينمو ببطء وعمق معا، تجدد أتاح له أن يتجاوز بشكل منهجى مفاهيم ظلت مهيمنة طويلا  وشائعة، أكتفى استدلالا على ذلك بتجاوزه لتصور مركزى يعتبر المسرح تجليا لخطاب أو رسالة، بكل ما ارتبط بذلك من صياغات راسخة مثل الوحدة العضوية ومركزية النص والدور الاجتماعى ، وغير ذلك من أفكار ، بدا حسن عطية  بدرجة ما متأثرا ومستغرقا فى سياق تلك الأطر والتصورات، ولكنه كان عقلا متسائلا  خارج سلطة المعرفة المتوارثة، ولهذا عبر جدل دائم مع الأشكال والتجارب  وتاريخ المسرح  وأسئلته، تجاوز سكونية هذه المفاهيم وإطاراتها الجامدة، لنلتقى به  فى كتاباته المتعددة  متصلا بالمنهجيات الحديثة والتحولات النوعية التى شهدتها  تجارب المسرح  وفضاءاته ،ولكنه اتصال العارف لا المقلد والمحاكى، تأثر وتفاعل وتجدد ولكن دون استخذاء معرفى واستنساخ منهجى، وفق هذا يمكن لنا أن نرصد بشكل عام هذه النزعات الدائمة لديه للتجدد والكشف، وهذا الطموح القلق للتجاوز ونقض القوالب المصمتة والأنماط الثابتة.
 
ما حاولت هنا كان طوافا حول سطوح لا أكثر، و ما كتبت كان نوعا من التلامس مع الحواف : حواف الحياة، وحواف التجربة ، وحواف الكتابة، وهى الثلاثية التى شكلت ما يكاد أن يكون مشروعا نقديا له مرتكزاته الفكرية وآلياته البحثية وتحولاته العميقة وسؤاله المعرفى  وأثره المتجدد والدائم.
حسن عطية ليس مرورا عابرا علينا، وليس زائرا طرق بابا ذات حياة ، وحينما انفتحت  لخطوته مداخل وتهيأت له غرفة ، سكن المنزل  زمنا ، ثم غادر حينما تلاشى الضوء من على المسرح، وحلت عتمات شفيفة على العتبات.
حسن عطية ليس عابرا وليس زائرا، ولكنه صاحب الطريق والمكان، قد يتغير ضيوف المنزل وساكنوه، ولكن صاحبه سوف يظل موجودا وحاضرا، يطل علينا حتى ولو كان من صورة على جدار، باسما - كما اعتاد -  وحيا .


محمود نسيم