التقمص والمسرح(2-2)

التقمص والمسرح(2-2)

العدد 549 صدر بتاريخ 5مارس2018

«القلب له أسبابه التي لا يعرفها العقل»
 «باسكال»
 «التقمص الجيد لا يمنع الفهم»
 «أوجستو بوال»


  العلاقات المرتبطة بالتقمص: كيف تعمل العواطف
أؤكد أن التقمص يعمل بالارتباط بالعقل، فضلا عن العكس من ذلك. ففي حين يعد التقمص من مسائل العاطفة، وعرضة أن ينوب عن المشاعر والشهية، فإنه يلقى اهتماما أقل باعتباره دافعا للإدراك. ومع ذلك، يدخل التقمص إلى الفهم عن طريق العواطف. فهو في رأي (أرنا يوهان فيتلسين Arna Johan Vetesen) يتضمن بعدا إدراكيا بفضله وحده فقط يتكشف لنا شيئا عن شخص آخر - وهو تحديدا خبرته العاطفية في موقف بعينه؛ إذ من الضروري أن أفهم عواطف الآخر، مع أنني لا أشاركه نفس عواطفه. ورغم ذلك، فإن التقمص ييسر ما تسميه (فيتلسين) «عملية الانفصال»؛ إذ يمكننا أن نقلد شخصا آخر بدون التضحية برد الفعل النقدي. وتعزز عملية الربط هذه فهمنا فضلا عن أنها توقفه. فالانفصال والاتصال المتعلق بالتقمص لا يعني بالضرورة فقدان الذات والهوية والقدرة على الحكم، وتؤكد (مارثا نوسباوم Martha C. Naussbaum) أن التقمص يتعلق بالمشاركة في تجسيد المعاناة؛ إذ يمكننا أن نلاحظ الظروف التراجيدية والكوميدية للشخصية، وربما نجد أنفسنا نشاركهم نفس التجارب، ولكن هذا لا يعني أن نتخلى عن قدرتنا على نقد أفعال الشخصية. ففي التقمص، وفقا لـ(ديفيد وودروف سميث) «أتطابق مع الآخر وأقوم بتجربته وكأني أمر بها، ولكن تظل الحدود بين ذاتي والآخر وبين تجربتي وتجربته واضحة لي». وبالمثل، عندما نشاهد الحدث على خشبة المسرح، لا نجزئ إدراكنا ونفهم الأحداث باعتبارها كلا عضويا بالأحرى. فنحن نفكر ونشعر ونعقل ونتقمص في نفس الوقت. وتزودنا العواطف في المقابل بإطار نرى من خلاله العالم. ويؤكد (روبرت سولومون Robert C Solomon) أن العواطف تتضمن العقل بالفعل، فالعقل العملي مقيد بالعاطفة ويقاوم بها. وعواطفنا تضعنا في العالم، ولذلك لا تقدم لنا سوى دافعا منطقيا أقل بكثير من نقيضها؛ إذ تقدم لنا بالأحرى إطارها الفعلي. فالعواطف تساعد في وصف البنية المفاهيمية لعالمنا وتساعدنا في إيجاد استجابات مؤثرة في مواقف معينة.
وتقر الرؤية العامة للعواطف أنها وظيفة لحالة إدراكية تتطلب اعتقادا في شيء. ويقدم (رونالد دي سوسا Ronald de Sousa) المثال التالي: موضوع خوفي هو أن الأسد يهاجم، وسواء كان الأسد حقيقيا أو متخيلا، فإن الاستجابة في كلتا الحالتين هي الخوف لأنني أعتقد أن الأسد قادم. ولكن كيف يصدق المشاهدون أن الأسد يهاجم الشخصية على خشبة المسرح وهم يعرفون يقينا أن ذلك خيالا؟ إن الخوف الفعلي الذي أمارسه عندما يهاجمني الأسد، والخوف الخيالي الذي يحدث عندما أستجيب إلى لعبة، ليستا متساويين، ولكن هناك تداخلا متعلقا بالخيال. ولذلك، لا تحتاج العواطف دائما إلى تصديق لأنها تحتوي على خبرة متنوعة لا تتضمن التصديق فقط، بل تتضمن أيضا ما اصطلح عليه (نويل كارول Noel Caroll) أفكار وربما أنماط من الانتباه؛ إذ يمكن أن تقودنا أنماط الانتباه إلى هذه الاعتقادات المتنوعة، مثل: قد تكون المرأة الموجودة على خشبة المسرح هي «ميديا» وأن هذه الأحداث تحدث لها، وأن ما تفعله قد يقع فعلا. ونعرف أيضا أنها ليست «ميديا» فعلا وأنها لم تقتل أطفالها، ولكن من خلال التخيل تصبح التجربة كذلك، حيث تؤدي الأحداث إلى نتائج طبيعية. إن الخيال يسد الفجوة ويربط الأحداث الحقيقية بالأحداث الخيالية.
التخيل إذن أساسي لإدراك المشاهد وإقناعه بالعاطفة في المسرح، وأيضا ومن أجل تشجيع مشاعرنا على قبول الخيال باعتباره فعليا. وترى (سوزان فيجين Susan Feagin) أننا نتقمص في المسرح لأننا نصدق أن شيئا قد يحدث للممثل يؤثر فينا عاطفيا في المقابل وكأننا مكانه. والاعتقادات المطلوبة لتقمص المشاهد في المسرح، كما تقول (فيجين)، هي نظام اعتقادات أعلى؛ بمعنى أن التقمص في المسرح هو الوسيلة التي نعدل بها مشاعرنا تجاه آخر عن طريق التخيل والتصديق أيضا، بواسطة ابتكار نظام أعلى لقبولنا للحدث. ويمكن أن تأخذ هذه المشاعر شكل التعاطف أو التقمص، ولكنهما ليستا تجربتين متشابهتين بالضرورة.
التقمص Empathy هو ترجمة للكلمة الألمانية Einfuhlung التي تعني حرفيا «الشعور من الداخل». والتعاطف sympathy وهو مصطلح أقدم يعني في الألمانية «الشعور بشيء Milfuhlung». والتقمص والتعاطف ليس لهما تعريف مشترك، بل يخلقان فائضا في المعنى ويضيفان اضطرابا سيمانطيقيا (اضطراب متعلق بالمعنى). وفي محاولته لتوضيح المصطلحين، يؤكد (تشارلز إدوارد جاوس Charles Edward Gauss) أن التقمص يفترض ذوبان الذات والموضوع، بينما يفترض التعاطف التوازي بينهما، بحيث أعي الفرق بين ذاتي والآخر. وفي تفسير مماثل، يزعم (رودولف أ. ماكريل Rudolf A. Makreel) أن التقمص يسمح للذات أن تتطابق بديهيا مع الآخر، بينما يمثل التعاطف استجابة متخيلة للآخر. ويرى أن التعاطف يتفوق على التقمص لأنه يتنوع بشكل أوسع، وليس فيه زعم الدخول إلى الآخرين أو التطابق معهم. وفي رأي (جاوس وماكريل) يتضمن التعاطف مسافة تمكننا أن نوظف غير مثقلين بالتطابق.
وأقترح أن التقمص، وليس التعاطف، هو الذي يتضمن القدرة على التطابق مع موضوع التأمل المقصود والانفصال عنه في نفس الوقت. وأتفق مع (لورين ويسب Lauren Wisp) التي تؤكد أن التعاطف يشير إلى إدراك متزايد لمعاناة شخص آخر باعتبارها شيئا يجب تخفيفه من خلال إثارة مستويين للشعور: الوعي بالمعاناة، والرغبة في المساعدة. وفي المقابل، يعني التقمص محاولة ذات واعية بنفسها أن تفهم بدون تفكير الخبرات الإيجابية والسلبية لذات أخرى اعتمادا على استخدام طاقات تمثيلية وتخيلية. فالذات في التقمص هي وسيلة نقل الفهم، ولن تفقد هويتها.
نتيجة لذلك، يؤثر التقمص في مستويين من الوعي بشكل يختلف عن التعاطف: التطابق والحكم. فالأول يحتاج التخيل والعاطفة، والثاني يحتاج الفكر النقدي والتقييم. التعاطف يهتم بالمشاركة فضلا عن الدقة، ويختزل الوعي بالذات فضلا عن زيادته. وبعكس (جاوس وماكريل) توضح (ويسب) الفرق بين التقمص، باعتباره طريقة في المعرفة، والتعاطف، باعتباره طريقة في المشاركة. ففي حين أنهما يمكن أن يتداخلا – ربما كان التقمص جماعيا، وربما قدم التعاطف شكلا للفهم فيا يتعلق بالآخر – فإن التعاطف، وليس التقمص، هو الذي يقودنا إلى التشويه العاطفي. وعلى الرغم من أن كليهما يتبنى عواطف الآخر كموضوع له، فإنهما عمليتان مختلفتان. وتصف (ويسب) التعاطف بأنه مذعن، بينما يكون التقمص استراتيجية للفهم. ولذلك فإن التعاطف هو اتفاق في المشاعر، بينما يستدعي التقمص التطابق مع مشاعر وأفكار شخص آخر حيث لا تكون الموافقة ضرورية. إذن، قد يتنوع التقمص في مساحة أوسع من مساحة التعاطف، لأنه لا يتضمن مقاومة. إن الهدف في التقمص هو ما يسميه (توماس ناتسولاس Thomas Natsoulas) «دقة التقمص»، فالمتقمص لا يتخذ وضع المشفق الذي يحاول تخفيف المعاناة. فالتقمص يحدد تأكيدات الآخرين بتعاطف محتمل، لكنه يسعى أيضا إلى توضيح دقيق.
   أصل التقمص
في حين أن التقمص في الفلسفة الغربية هو نتيجة بحث أرسطو في الشفقة، فقد امتد تأمله عند فلاسفة القرن الثامن عشر (ديفيد هيوم David Hume) و(آدم سميثAdam Smith). وكلمة تقمص (وفقا لقاموس أوكسفورد 1989) عمرها أقل من قرن؛ إذ صاغ عالم النفس (إدوارد تيتشنر Edward Titchener) المصطلح عام 1909 كترجمة للكلمة الألمانية Einfuhlung من اللغة اليونانية Empathea التي تعني القدرة على إسقاط عواطف شخص على موضوع فكري. وسوف نبحث ثلاثة تصنيفات للتقمص تتطابق مع تطوره الزمني (التاريخي) في الفلسفة الغربية وعلم الجمال (الاستطيقا) خلال القرنين التاسع عشر والعشرين: منهج الدمج، والمنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي) ومنهج التجسيد.
وقد تطور منهج الدمج خلال القرن التاسع عشر باعتباره دراسة للاستجابات الجمالية في علم النفس ونظرية الفن. وهو منهج يزعم أن المراقب يندمج أو يتوحد مع موضوع التأمل أساسا، فيصبح المشاهد والمؤدي شخصا واحدا. وفي كتابه «المعنى البصري للشكل: مساهمة جمالية Das Oplische Formgefuhl: Ein Beintrag Aesthetik»، يرى (روبرت فيشر Robert Vischer) (1847 – 1933) أن التقمص مؤثر على الوعي العضلي والعاطفي أثناء مشاهدة موضوع فني. ويصف هذه التجربة بأنها «شعور انقباضي ينتج صورا ذهنية تؤثر على العواطف. فالتقمص يعد التجربة التي تمزج الذات والموضوع من خلال التطابق، وهي الرؤية التي سيطرت على وصف المصطلح آنذاك؛ إذ يصف (فيشر) ثلاث مراحل لهذا النوع من التقمص. يرتبط الأول بالحواس أو الشعور الفوري، ويرتبط الثاني بالحركة، ويفهم باعتباره استجابة بدنية، والثالث وهو الأبرز، التقمص باعتباره وعي المشاهد العميق بالموضوع الذي يتبلور إلى إحساس مرتبط بالتقمص. وهذا الشكل الثالث يتسلل إلى الشكلين الأولين (الحسي والحركي) عندما يرتبط بموضوع، ويخلق تركيبة للجسم وإرادة في موضوع التأمل. ويبرهن (فيشر) أن مثل هذه التركيبة تقوم على باعث وحدة الوجود من أجل الاتحاد مع العالم. فمثلا، يحدث التقمص عندما يملك المشاهد رؤية أوسع للحدث. وقد يتعاطف مع منظر جندي جريح، ولكن التقمص يوسع رؤيتنا فيما وراء الحدث؛ إذ يخلق في التخيل خبرة عاطفية أكثر عمقا من معاناة الجندي، لأنه يتضمن رؤيتنا للذات التي تعاطفنا معها باعتبارها ذاتا إنسانية عامة. فمعاناة الجندي المنفردة تصبح جزءا من تجربة أكبر تحتوي المتلقي. وهذا صحيح ولا سيما في الأشكال الفنية كما أشار (فيشر)، حيث يمكن أن تكون المعاناة معدة حركيا من أجل قيمة عاطفية أكبر. ويقول (فيشر) تظهر على وجه الجندي وحشية الاعتداء وضعف الفرد، وكل معاني التوقف عن القتال.
ورغم ذلك، من الغبن أن نصف رؤية (فيشر) من زاوية ضيقة. فقد غير مع آخرين الآراء حول هذا الموضوع غالبا؛ إذ اتفق عالم النفس الألماني (ثيودور ليبز Theodor Lipps) (1851 - 1914) مع رؤى (فيشر) حول التقمص باعتباره اتحاد الذات مع الموضوع، رغم أنه غير رأيه أيضا في الغالب. عموما، بعد أن برهننا أن التقمص ليس مجرد إحساس في الجسم، بل هو إحساس بشيء، وهو الذات تحديدا في داخل الموضوع الجمالي. ويؤكد (ليبز) أن التقمص ليس هو ذوبان الذات بالكامل في موضوع التأمل، بقدر ما تحاكي الذات الموضوع، وهو ما يسميه «المحاكاة الداخلية» فمثلا، قد تتوتر عضلاتنا عندما نرى شخصا تحت ضغط. يخلق التقمص في رأي (ليبز) شعورا بديلا يتجاوز المتلقي. فإدراك شيء والاستجابة العاطفية له متحدان غريزيا، لأن تجربتنا الواعية تندمج في أجسام الآخرين. فالطفل، على سبيل المثال، يستجيب فورا إلى الابتسامة بدون أن يعتمد على خبرة سابقة في الابتسام. ويؤكد (ليبز) أن التقمص موجود كقوة إيجابية وسلبية: تستنبط الأولى شعورا بالتناغم، وتستنبط الثانية صراعا بين دوافعنا الطبيعية وما يسمى شعور عدائي تجاهي. ويخلص إلى أن التقمص عملية فطرية تتولد في التجربة الإنسانية حيث يمكن أن تتعايش كينونة أو أي شيء آخر مع وعي واحد وتشارك فيه وظيفيا.
ويؤكد (هوسرل) في كتابه «الأفكار Ideas» أننا محبوسون داخل وعينا. بمعنى أنني لا أستطيع أن أشعر بما يشعر به آخر، ورغم ذلك نتعايش في الحياة ونتصل بالعالم من خلال ما يعرف بأنه «الذاتية المشتركة intersubjectivity»؛ بمعنى أننا نرتبط بجماعية لا نهائية في مختلف موضوعات العالم؛ إذ يتم توسيط الجماعية والذاتية المشتركة في التجارب – الأخذ والعطاء من خلال الاتصال الحي - عن طريق التقمص. فأنا أستطيع أن أفهم، من خلال التقمص، ما يمر به الممثل في المسرحية بدرجة ما، ورغم أنني لن أعرف مشاعره بدقة، يمكنني أن أفهم بديهيا أفكار وعواطف الشخصية التي يؤديها. إذن، التقمص هنا هو العملية التي نحاول بواسطتها أن نفهم الآخر، بمقارنة خبراتنا مع خبرات الممثلين. وفي الجزء الثاني من كتاب «الأفكار» يصف (هوسرل) عملية التقمص بأنها العملية التي نواجه فيها العالم المادي للأجسام الأخرى المحيطة بنا من خلال التقمص، وأننا ندرك هذه الأجسام باعتبارها الموضوع المماثل للأنا ولكنها ليست ذاتي. فنحن نلاحظ الكينونة الأخرى ونفهمها باعتبارها مناظرة لذواتنا في التقمص فقط. وهذه العلاقة لن تتجاوز وعيي، لأن الجسم الآخر موجود أمامي هناك زمنيا ومكانيا، وليس موجودا داخل عقلي وجسمي. وهذا واضح لأنني هنا وهو هناك. ولكن (هوسرل) يثير هذه النقطة لأنه يريد أن يؤكد أن التقمص لن يسمح للأنا أن تستوعب بواسطة الآخر: مظاهري تنتمي لي ومظاهره تنتمي له. ومن خلال ما يسميه «المظاهر Apprasenz» أو وعي الذات الاستبطاني الذي يعني وضع البديهة والفهم، نستطيع أن نفهم الحياة النفسية والكينونة النفسية للآخر في نوع من وحدة وعي الذات الاستبطاني، بمعنى أنني أفهم الآخر ولكن بدون أن اعتبره ذاتي، بل باعتباره شخصا في نفس الظروف والشروط.
يستنتج (هوسرل) نموذجا مركبا في فهمه للتقمص، مع أنه لم يتمسك به دائما. يكفي أن نقول إننا بالتقمص نؤكد أن الأشياء لا تقدم لنا مباشرة، بل تُفهم بواسطة ملاحظتنا عن طريق وعي الذات الاستبطاني. ويؤكد (هوسرل) أن وعي الذات الاستبطاني ليس استنتاجا وليس فعلا تأمليا. بل يشير بالأحرى إلى تأسيس مبدئي ينشأ من خلاله الشيء عن طريق التحويل التناظري، فبينما يستوعب الشيء ويقيم، فإنه لا يندمج أبدا، فمثلا، يمكننا أن نحسب شكل ومظهر خلفية البنية بمشاهدتها من الأمام، فنحن لا نستطيع أن نعرف شكل خلفية المبنى، ولكننا نعرف على وجه اليقين ما هو شكل خلفية المبنى تسليما بخبرتنا السابقة والتخيل والبديهة لأننا نكوّن ما يسميه (هوسرل) مفهوما مناظرا. وبالمثل، رغم أننا لا نستطيع أن نفهم أفكار الآخر ومشاعره وعواطفه فورا، يمكننا أن نفهم الآخر من خلال التوظيف التناظري لوعي الذات الاستبطاني، ونكوّن روابط وأحكاما بواسطة بديهتنا وخبرتنا السابقة. فبالنسبة لـ(هوسرل) يشكل التخيل والبديهة والخبرة وعيا ذاتيا استبطانيا موحدا.
يشير (هوسرل) إلى عملية التقمص هذه باعتبارها ازدواجا، ويزعم أن هذا الازدواج أو ظاهرة التزاوج هي الشكل البدائي لهذه الخلاصة الخاملة التي نسميها «التداعي»، في مفارقة مع الخلاصة الخاملة التي نسميها «التطابق». وبشكل مبسط، فإنني أتابع الممثل أو الشخصية فضلا عن أني أتطابق معه من خلال مدخلات الملاحظة والتداعي ونصل (أنا والممثل) إلى وحدة في التشابه، وأرضية مشتركة أستطيع من خلالها أن أفهم وأتقمص. ففي هذه المزاوجة تحلل الذات الموضوع، وعن طريق التقمص تنشئ خبرات تبادلية. يقطع مفهوم الازدواج شوطا طويلا في تطوير التقمص، والآن أصبح التقمص مفيدا في زيادة تخيل المشاهد. ويستطيع المشاهدون استخدام خيالهم بتأكيد شرط «وكأنه...» على خشبة المسرح: أنا لست موجودا على خشبة المسرح، لكنني ربما أكون هناك إذا حدثت لي شروط معينة. فأنا كمشاهد جالس على مقعدي أشاهد ولا أشارك في الأداء. ولكن من خلال استخدامي التخيلي للإسقاط والبديهة والتقمص، يمكنني أن أكون هناك على خشبة المسرح. فأنا أفهم الأحداث التي تدور على خشبة المسرح باعتبارها خبرات كامنة في خبراتي. ولكنني لست منجرفا مع الحدث، بل احتفظ بأفكاري وموضوعيتي وأحكامي، مع أنني ما زلت متأثرا بالأحداث التي تدور على خشبة المسرح.
ورغم ذلك، يفشل تأكيد (هوسرل) على الذات الأنانية (الفرد المتقوقع داخل عقله)، وما يسميه «مجال السيطرة التامة على الحواس، في تفسير كيف نحقق فهما إدراكيا فعليا من خلال التقمص؛ إذ كيف يمكنني عبور حدود نفسي لفهم عالم شخص آخر، وفقا لملاحظة (ألفريد شوتزِ Alfred Shutz)، إذا كنت أبني عالمي لنفسي فقط، وليس من أجل الذوات الأخرى أيضا؟ وطبقا لكلام (هوسرل)، إذا لم تقدم كينونة أخرى شيئا جديدا ضد الذات، بمعنى شيء يفوق طريقة تفكيري، وتقدم لي شيئا جديدا، فكيف يمكنني أن أزعم أنني أفهم شخصا آخر، إذا كان هذا الآخر يمارس شيئا غريبا عني؟ إن لم أكن مأخوذا بهذا الآخر أو اندمج مع تجربته، وما الذي أتعلمه وكيف يمكنني أن أعبر الحدود التي تفصلنا؟ لم يفسر (هوسرل) بشكل مقنع كيف يمكن أن ينجح التقمص كظاهرة لمعرفة شخص آخر داخل وعيي في فهم أو حتى تقريب أفكار شخص آخر ومعانيه ونياته. فماذا لو فشلت ذاتي في أن تفقد فرديتها المكتفية بذاتها وجوهرها الذاتي ومجالها المغلق، عندئذ تبدو عملية فهم الآخر مستحيلة.
ولعل أحد أساليب الخروج من مشكلة الانغلاق الذاتي هذه – «أنا في عالمي وأنت في عالمك» – هو التقارب المجسد: القدرة على التأكيد حركيا فضلا عن التضمين الذهني فقط. ويمكن للمسرح والرقص أن يحتلا مكانهما في مجال التقمص، بينما لا تستطيع ذلك فنون أخرى. فالمسرح والرقص يقدمان الجسم كموضوع للتأمل. وجسم الآخر الذي يؤدي (يمثل ويجسد شخصية ويقدم تسلية) هو لحم ودم، وأشاركه في التماثل بفضل وجوده. ولذلك، أستطيع بشكل تخيلي وإدراكي أن أنقل ذاتي (دون أن أفقد إحساسي بها) عندما أشاهد ممثلا يؤدي على خشبة المسرح. ويبحث (موريس ميرلوبونتي Maurice Merleau - Ponty) و(إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas) لغز الذات المنغلقة على نفسها وغير القادرة على كسر انغلاقها عند (هوسرل)؛ إذ طورا وجسدا منهج الذاتية المشتركة. فأثار (ميرلوبونتي) نفس السؤال المتعلق الانكفاء على الذات عندما يقول كيف يمكن أن توضع كلمة «أنا» في صيغة الجمع، تسليما بالذوات الأخرى؟ بمعنى آخر، كيف أتحرر من عالمي المغلق: كيف يستطيع الوعي الذي يعد وعيا ملما بطبيعته، وهو في صيغة «الأنا»، أن يفهم في صيغة «أنتم»، ومن خلالها في عالم الفرد؟ ويرى أن الوعي لا يوجد في العقل فقط، بل إنه مجسد، فلكي أفهم شخصا آخر أحتاج أن أعرف كيف ينفصل القصد والفكر والانعكاس عن الذات الشخصية ويصبحون مرئيين من خارجها في شكل الجسم وفي البيئة (السياق) التي يبنيها لنفسه. وتقع الذاتية المشتركة عند (هوسرل) داخل سياق العزلة أو ما يسمى «النزعة الذاتية الديكارتية» (وهي تعني أنني موجود في عقلي ولا يمكنني أن أهرب من عالمي)، لأن مجال الذاتية عند (هوسرل) فطري وأساسي وغير خاضع. ويعدل (ميرلوبونتي) مقولة (هوسرل) بتأكيد انتقال الوجود المجسد بحيث لا تكون ذاتي ووعيي سلسلة من حالات الوعي المغلقة بشكل صارم وليست متاحة لأحد غيري. فضلا عن ذلك، يتحول وعيي مبدئيا نحو العالم ويتجه إلى الأشياء، إنه في النهاية في علاقة مع العالم. فالعلاقات المادية مع العالم تشكل الوعي، وتعطي وتأخذ من حياة وتأثيرات «من أنا وكيف أفكر». وفي سياق ما يسميه مخالطة متفاوتة، والمد والجزر في الحياة الاجتماعية، استوعب الآخرين في وعيي من خلال حقيقة أنهم يعيشون في بيئتي. فالجسم عند (ميرلوبونتي) ليس فقط في العالم المرئي، لكنه أيضا في مكانية الموقف، وكينونة موجودة تشاركني في المكان، وليست مختفية في مجال خاص كما يراها (هوسرل). فالجسم المعاش le corp vecu كما يقترحه (ميرلوبونتي) يمارس البنيات في مختلف المواقف. وإدراك البيئة، كما يراه (ميرلوبونتي) يعني أن نعيشها ونتبناها ونضطلع بها ونكتشف مغزاها الواضح. فنحن نحك كوعنا في الحياة، وفي المسرح نمد هذه الفكرة ذات التفاعل الاجتماعي على امتدادها.
الجسم المعاش له مغزى في المسرح، فالممثل على خشبة المسرح ليس تجريدا، بل كائن حي يعبر عن العواطف والأفعال والإيماءات والحركات والأصوات. فالممثل يتطور، ويسمح للمشاهدين بتقييم التغيرات في الخبرات خلال مسار المسرحية. فأنا موجود كمشاهد بين المشاهدين، ولكنني أوجد كجسم أيضا، يتأمل أفعال وحركات جسم آخر. ونحن لسنا آلات مبرمجة بطريقة أو بأخرى. فنحن في حالة اتصال، والممثل والمشاهدون نماذج حية تعدل وتضبط بيئة وظروف المسرحية والأماكن التي نوجد فيها. وأنا أتقمص الممثلين، ليس لكي أفقد ذاتي فيهم، أو أسمح لنفسي أن تكون ألعوبة لهم، بل لكي أستوعب تجاربهم التي تساعدني في المقابل في فهم وتسويغ معنى المسرحية ومعنى حياتي في المقابل أيضا. فالتعاون بيننا ليس بعدا واحدا، وليس له بعد أحادي، بل هو أخذ وعطاء تفاعلي يسمح للتجارب والوعي أن يتواصلا عبر أضواء مقدمة خشبة المسرح.
وقد اعتبر (ليفيناس) بالاشتراك مع (ميرلوبونتي) أن فلسفة (هوسرل) الفينومينولوجية مجردة جدا. فالحياة المادية عند (ليفيناس) ليست انغلاقا أنانيا. والذاتية المشتركة هي جزء من جوهر الواقع، وليست شيئا استبطانيا، بمعنى أنها مغلقة في عقلي وليست متاحة للتفاعل. وإذا ظللنا مرتبطين بذواتنا، فسوف يصبح الآخر تجريد فارغ. ويقول، يجب أن نكمل عمل البديهة الفلسفية للذاتية المشتركة بإدراك الآخر، من خلال قبول حضورنا في العالم باعتبارنا نعيش فيه. فحضورنا وجها لوجه مع الآخرين بدون حدود أو ذوات مغلقة. فأنا كمراقب أتناول أفعال الآخر كمادة لمستويات أو معايير عالم الذات. وبذلك أضع نفسي بشكل خيالي في موقف الآخر. وأنا كمشاهد تتعلق تجربة التقمص بتشكيل حضور ذاتي في تجربة حية مع الآخرين.
  الخلاصة: التقمص والعناية
يوسع التناول المجسد استخدام وتعريف التقمص بدمج المعنى اللا محدود للمجتمع ويقوي قدرة المشاهدين علي الاهتمام بالأحداث علي خشبة المسرح. فالعناية كعاطفة يمكن أن تكون إيحاء له معنى في التغير الاجتماعي، ليس بالمعنى الذي يراه (بريخت)، باعتباره قوة تعطيل وتعجيز. وبدون درجة ما من التقمص والعناية بالممثل أو الشخصية، يؤدي النشاط الذهني في الفراغ. فالتقمص يضع المشاهدين في مكانة يمكنهم أن يهتموا، وعندما يفعلون ذلك بشكل محتمل يعيدون توجيه منظورهم ويزيدون من فهمهم. وتؤكد (جيل دولان) أن ضعف استعداد الممثل قد يساعد استعدادنا ويدفعنا نحو العاطفة والمزيد من الفهم. وتزعم أن هذا التعاطف الذي يمكن أن يحرك مشاعرنا ويؤثر فينا عاطفيا، سابق على الاتجاه السياسي. فالعناية والتقمص مرتبطان بشكل لا ينفصم بالتفاعل الاجتماعي والإدراك المتزايد، واللذين يعدان مكونين ضروريين للوعي النقدي والتقييم الموضوعي.
التقمص كما يسعى هذا المقال لتفسيره، لا يمكن اختزاله إلى انقسام سطحي بين العقل والعاطفة، ولا يمكن رفضه باعتباره فقدانا للذات يؤدي إلى الخمول. إنه جزء من التفاعل المركب للتجربة المسرحية التي توظف مع العقل والفهم والتحليل (وتضيف إليهم)، وأنه يساعد في المقابل في الوعي الاجتماعي. وبدون بعض الاهتمام والعناية بالشخصية في المسرحية (بغض النظر عن متابعتنا للقصة من عدمه)، فالبيئة الاجتماعية الخالية من التقمص هي دعاية فارغة. فالتقمص يزود فهمنا في المسرح ويخلق استجابة متعددة الوجوه توسع وظائفنا الإدركية وتثري تجربة مشاهدتنا للمسرح. ولذلك لا نستطيع أن نقبل النقد أحادي الجانب للتقمص بدون أن تأخذ في اعتبارنا تاريخ التقمص ومناهجه المختلفة وقيمته شديدة التنوع.

العنوان الأصلي لهذه الدراسة هو «Empathy and Theater»، وهي تمثل الفصل الثالث عشر من كتاب «Staging Philosophy: intersections of theater، performance and philosophy والذي صدر عن جامعة ميتشجان عام 2009 - وهي تقع في الفصل الثالث عشر (الصفحات 255 - 277)
ديفيد كريزنر David Krasner: هو مؤلف كتاب الدراما الأمريكية (1945 - 2000). وشارك في تحرير عدة كتب مع جامعة ميتشجان عدة منها الكتاب الحالي مع (ديفيد سولتز) وكتاب «المسرح: النظرية/ النص/ الأداء theater: theory / text / performance) مع الناقدة (أينوش براتر Enoch Brater). ويعكف الآن على تأليف كتاب «تاريخ الدراما History of Drama مع جامعة يال.
 


ترجمة أحمد عبد الفتاح