وثائق سرية  للنهوض بالمسرح التونسي عام 1962

وثائق سرية  للنهوض بالمسرح التونسي عام 1962

العدد 565 صدر بتاريخ 25يونيو2018

الهدف في مقالتي هذه؛ دفع الأصدقاء والزملاء في تونس الحبيبة لاستكمال ما بها من قصور، والإجابة عن تساؤلاتي من أجل وضوح الرؤية التاريخية والتوثيقية لأهم مرحلة من مراحل تاريخ المسرح التونسي! هذا بالإضافة إلى كشفي عن وثائق سرية لم تُنشر من قبل عن علاقة المسرح التونسي بالمسرح المصري في أوائل ستينات القرن الماضي، وهي وثائق لم يسمع بها أحد من قبل.. حسب ظني!
(الصادق المقدم):
أهم فترة تاريخية مسرحية مرّت على تونس، كانت المرحلة التي بدأت في أوائل ستينات القرن الماضي، وهي فترة بناء الجمهورية التونسية بعد الاستقلال من الاحتلال الفرنسي، وفيها برزت أسماء وطنية مهمة أسهمت في مجالات كثيرة من أجل الارتقاء بالدولة، ومنهم كان السياسي الشهير (الصادق المقدم 1914 - 1993)، الذي تولى عدة مناصب سياسية، كان من أهمها منصب (كتابة الدولة للشؤون الخارجية التونسية).
هذا السياسي الشهير وجد - في ديسمبر 1961 - أن تونس تحتاج إلى نهضة مسرحية - تتناسب مع تطلعات الحكومة للارتقاء بكل النواحي في الجمهورية التونسية - وهذه النهضة تحتاج إلى خبير مسرحي من خارج تونس ليضع التخطيط السليم لها، والإشراف على تنفيذها. وفي هذه الفترة لم يكن هناك خبراء مسرحيون عرب إلا في مصر، بحكم تاريخها ومكانتها وخبرتها في هذا المجال، لا سيما وأن لتونس تجربة سابقة في التعامل مع خبراء المسرح من المصريين أمثال زكي طليمات، الذي عمل في تونس في منتصف خمسينات القرن الماضي، ولا يستطيع طليمات تكرار التجربة مرة أخرى في تونس؛ لأنه كان في الكويت في هذه الفترة!!
(الخبير المسرحي):
من خلال ما بين يدي من وثائق سرية – لأن بعض الوثائق تحمل كلمة (سري) - أقول إن مراسلات كثيرة تمت بين الصادق المقدم وبين وزارة الثقافة والإرشاد القومي - وتحديدا مع الدكتور علي الراعي رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى – حول اختيار الخبير المسرحي المصري الذي سيُكلف بوضع التخطيط للنهضة المسرحية في تونس والإشراف عليها، ووقع اختيارهم على الفنان المخرج (فتوح نشاطي). فقام وكيل وزارة الثقافة المصرية بإرسال خطاب إلى الخارجية التونسية يستفسر عن بعض الأمور، فردت عليه الخارجية بخطاب يحمل كلمة (سري)، وعنوانه (شروط التعاقد مع خبير المسرح العربي الأستاذ فتوح نشاطي)، جاء فيه الآتي:
“السيد وكيل وزارة الثقافة والإرشاد القومي. إشارة إلى كتاب سيادتكم المؤرخ 2/ 12/ 1961 بخصوص الشروط التي تقدمها حكومة جمهورية تونس من حيث المرتب والمدة التي تستغرقها إعارة أحد خبراء المسرح للعمل بتونس، أتشرف بأن أبعث لسيادتكم رفق هذا صورة مذكرة كتابة الدولة للشؤون الخارجية التونسية رقم 2685 بتاريخ 6 أغسطس سنة 1962 والواردة برفق كتاب سفارة الجمهورية العربية المتحدة في تونس رقم 351 سري بتاريخ 7 أغسطس سنة 1962 بهذا الشأن. رجاء التفضل بالنظر والإفادة بما يستقر عليه الرأي. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. [توقيع] وكيل الخارجية”.
والمذكرة المرفقة لهذا الخطاب، تُعدّ أهم وثيقة في هذا الموضوع، لأن كاتبها هو الصادق المقدم إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة بتونس يوم 6/ 8/ 1962، وهذا نصها: «تهدي كتابة الدولة للشؤون الخارجية التونسية أطيب تحياتها إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة في تونس، وبالإشارة إلى مذكرتها رقم 236 ملف 1/ 4/ 9 بتاريخ 18 يوليو (تموز) سنة 1962 بشأن موافاتها بشروط انتداب الخبير العربي في شؤون المسرح، تتشرف بإفادتها أن مهمة الأستاذ فتوح نشاطي الذي قبلت ترشيحه مؤسسة فنون المسرح والموسيقى بالجمهورية العربية المتحدة تنحصر في الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة بالجمهورية التونسية وله إلى جانب ذلك أن يستفيد بإلقاء دروس ومحاضرات في مدرسة التمثيل وفي الإذاعة الوطنية التونسية. أما بخصوص الضمانات المادية التي سيتمتع بها الأستاذ فتوح نشاطي فإن التعاقد معه يكون على سنة كاملة مع إمكان التجديد بمرتب لا يتجاوز 150 دينارا وله معلوم سفره قدوما وإيابا ورخصة شهر مع تسديد المرتب. وتنتهز كتابة الدولة للشؤون الخارجية هذه الفرصة لتعرب لسفارة الجمهورية العربية المتحدة من جديد عن فائق احترامها وعظيم تقديرها.
(بين الحلم والحقيقة):
سنتوقف قليلا أمام بعض العبارات التي وردت في هذه المذكرة، ومنها وصف فتوح نشاطي بالخبير العربي في شؤون المسرح!! وهذا وصف يعكس مكانة مصر وقيمة رموزها المسرحية في هذه الفترة – فترة الستينات – لعل الجيل الحالي يتخذ من رموز الستينات نبراسا لهم، ومصباحا ينير لهم طريق المستقبل!!
أما العبارة الثانية، فتتمثل في مهمة فتوح نشاطي في تونس؛ بوصفه خبيرا عربيا مسرحيا، وهي (الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة بالجمهورية التونسية)!! وهذه العبارة غريبة وعجيبة؛ حيث إنني لم أقرأ عن وجود ما يُسمى بالمسارح الشعبية التونسية في هذه الفترة؛ إلا إذا كان المقصود بها فرق الهواة، وهذه الفرق لا يجوز إطلاق اسم (مسارح) عليها، لا سيما وأن العبارة واردة في خطابات رسمية وعلى أعلى مستوى وزاري وسياسي وتحمل صفة السرية، أي لا يجوز أن تشتمل هذه المخاطبات على كلمات أو عبارات تحمل أكثر من معنى!!
وهذا الأمر ينطبق أيضا على عبارة (المسارح المتنقلة)!! فلأول مرة أسمع بها في وثائق مسرحية غير كويتية؛ حيث إن فكرة المسارح المتنقلة عربيا، تختص بزكي طليمات، عندما كتبها في مذكرة رسمية – ضمن مقترحاته لتطوير المسرح في الكويت – وأطلق على مشروعه اسم (المسرح المعدني المتنقل)، وعرفه قائلا: «... والمسرح المذكور سيجري تصميمه بحيث يقام في أي مكان ويطوى في أقصر وقت، ثم يحمل في سيارات تجري نقله، هذا مع وفائه بأهم الإمكانيات الفنية الخاصة بالإخراج المسرحي. وبهذا المسرح يمكن إقامة حفلات تمثيلية خارج دولة الكويت وفي الإمارات العربية التي لم تنشئ بعد دورا للتمثيل».
وعندما شعرت بالحيرة أمام هذه العبارة طلبت من صديقي الدكتور محمد عبازة تفسيرها، فقال لي: «بالنسبة للفرق المسرحية الشعبية كانت تقدم عروضا داخل البلاد في فضاءات مختلفة وليست مسارح». وهذا التفسير زاد من حيرتي؛ لأنه أكد على أن المقصود فرقا وليست مسارح! والعبارة مذكورة في خطاب رسمي بأنها مسارح وليست فرقا! كما أن الفرق المسرحية الشعبية التونسية – في هذه الفترة – لم تكن أهم من الفرقة الوطنية أو القومية أو المحترفة للدولة، والتي تحتاج إلى خبير!! كما أن من غير المعقول إن تقوم الجمهورية التونسية في هذه الفترة بإحضار خبير مسرحي من أجل التخطيط لنهضة مسرحية والإشراف عليها من أجل الفرق المسرحية الشعبية التي تُقدم عروضها في الفضاءات وليست في المسارح!
وعلى الرغم من هذا التفسير المنطقي، فإن التفكير العكسي من الممكن أن يأتي بنتائج مهمة؛ بمعنى: ماذا لو أخذنا بوجهة نظر الدكتور محمد عبازة، وفرضنا أن الحكومة التونسية أرادت بالفعل إحداث نهضة مسرحية للفرق الشعبية الجوالة الموجودة في تونس في هذه الفترة، لا سيما وأن وثائق هذا الموضوع غير مكتملة بين يدي، وربما باحث تونسي يحصل على بقية الوثائق في تونس، أو يجدها في كتابات الصادق المقدم، أو في مذكرات بعض المسرحيين القدامى، أو يجدها في حكاوي وقصص المسرحيين من كبار السن.. إلخ، ماذا يحدث لو وجدنا ما يثبت بأن تونس أرادت أن تقيم نهضة مسرحية للفرق الشعبية المسرحية الجوالة والمتنقلة، والتي كانت تقدم أعمالها في الفضاءات؟؟ سؤال يحتاج إلى جهود الباحثين في تونس!
وقبل أن أغلق النقاش حول هذا الأمر، تواصلت مع صديقي الدكتور محمد عبازة – مرة أخرى - وأكد لي إنه لم يسمع بالمسارح الشعبية في تونس، وقال لعلها كانت حلما أو مشروعا لم يُنفذ على أرض الواقع! وبناء على هذا الاحتمال، أقول: ماذا لو كانت (المسارح الشعبية) في تونس حلما أو مشروعا على الورق فقط عام 1962، ألم يحن الوقت لأن يصبح الحلم حقيقة؟!
(أول مدرس مصري):
بالعودة إلى مهمة الخبير فتوح نشاطي في تونس، كما وصفها الصادق المقدم: أنه بجانب الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة، له «أن يستفيد بإلقاء دروس ومحاضرات في مدرسة التمثيل». وهذا الأمر لو حدث في هذا الوقت، لأصبح فتوح نشاطي أول مسرحي مصري يقوم بالتدريس وإلقاء المحاضرات في مدرسة التمثيل بتونس. ولعل القارئ سيتعجب من قولي هذا؛ لأنه يتناقض مع ما هو معروف بأن زكي طليمات هو من أسس معهد التمثيل في تونس وقام بالتدريس فيه!! ولحُسن الحظ أن هذا الأمر أثير في هذه المقالة، لأقول: إنني لم أجد دليلا واضحا – أو مرجعا موثقا – يثبت أن زكي طليمات أنشأ المعهد المسرحي في تونس، أو قام بالتدريس فيه، بل ما وجدته ينفي ذلك تماما!! وقد كتبت في هذا الشأن فقرة، أنقلها لكم من كتابي (قراءة في تاريخ المسرح الكويتي من خلال وثائق غير منشورة) الصادر في الكويت عام 2015، قلت فيها الآتي:
“كل ما وجدته يدل أن جهود زكي طليمات – بالنسبة للمعهد في تونس - لم تتعدّ المقترحات، أو تقديم المخططات النظرية لهذا المعهد! أي لم تكن جهودا كبيرة كالجهود التي بذلها طليمات في إنشاء معهد التمثيل العربي في القاهرة، أو في الكويت! ومثال لما وجدته؛ كلمة لزكي طليمات نشرتها جريدة (القاهرة) بتاريخ 17/ 1/ 1955 – بعد إنشائه الفرقة القومية التونسية - تحت عنوان (مصري يرسي قواعد المسرح في تونس)، قال فيها: قيام الفرقة القومية التونسية يعتبر حجر الزاوية في بناء المسرح التونسي الحديث، إذ يفتح أبواب الاحتراف للهواة لأول مرة، كما يؤلف المجال الحيوي لخريجي (مدرسة التمثيل التونسية)، التي وضعت أساسها الأول مع إدارة التعليم التونسية عام 1950، حينما جئت تونس لأول مرة مع (الفرقة المصرية)، وألقيت محاضرات في وجوب إنشاء هذه المدرسة.... وهذه المدرسة تعمل منذ عام 1951 بإدارة أديب معروف هو السيد (حسن الزمرلي). وهذا القول يثبت أن زكي طليمات لم يقم بإنشاء أول مدرسة للتمثيل في تونس – كما يُقال - بل ألقى محاضرات نظرية فقط عام 1950، اقترح فيها إنشاء هذه المدرسة! كما أن افتتاح هذه المدرسة تم في عام 1951؛ أثناء وجود زكي طليمات في القاهرة!! وهناك دليل آخر، وهو تسجيل صوتي لزكي طليمات، قال فيه: أثناء عملي في تونس، تقابلت مع المراقب ووكيل الوزارة (مسيو كيتي)، واقترحت عليه إنشاء معهد التمثيل في تونس! وبالفعل تم إنشاء المعهد وأضافوا إليه الموسيقى! ولم أقم بالتدريس في هذا المعهد”.
(الخبير يتنصل من المهمة):
وبناء على ما بين أيدينا من وثائق مصرية في هذا الشأن، وجدت خطابا مؤرخا في 6/ 10/ 1962 تحت أهمية (سري)، أرسله الدكتور على الراعي - رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى بوزارة الثقافة والإرشاد القومي – إلى فتوح نشاطي، هذا نصه: “ورد إلينا من وزارة الخارجية الكتاب المرفق صورته طيه بشأن شروط التعاقد معكم لتنفيذ الاقتراح الخاص بإعارتكم لحكومة تونس لوضع برنامج للنهوض بالمسرح بها. رجاء دراسة الموضوع بصفة عاجلة وموافاتنا برأيكم الأخير في العمل المقترح لإبلاغه للمسؤولين. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام”.
هذا الخطاب يثبت وجود مراسلات مفقودة في هذا الشأن؛ حيث إن هذا الخطاب يشير إلى أن تونس أرادت من فتوح نشاطي؛ بوصفه خبيرا عربيا مسرحيا أن يضع برنامجا للنهوض بالمسرح في تونس، دون تحديد المهمة السابقة وهي الإشراف على حركة المسارح الشعبية المتنقلة أو إلقاء محاضرات في مدرسة التمثيل والإذاعة!! ولعل وضع برنامج النهضة المسرحية كان من اجتهاد د.علي الراعي، أو إنها عبارة عامة وشاملة للمهمة بكافة تفاصيلها!!
بعد أيام قليلة، أرسل فتوح نشاطي خطابا إلى الدكتور علي الراعي في 18 / 10 / 1962، قال فيه الآتي: «حضرة السيد الدكتور علي الراعي رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى. تحية وإجلالا وبعد: ردا على خطابكم الكريم الخاص بإعارتي لحكومة تونس للنهوض بالمسرح هناك وذلك لمدة سنة قابلة للتجديد. أتشرف بإخباركم أن مرض السكر لم يعد يسمح لي بالتغيب عن بلدي لمثل هذه المدة الطويلة، وإني على استعداد لتمضية ثلاثة أشهر بتونس العزيزة (من يونيو (حزيران) إلى نهاية أغسطس) أخرج خلالها مسرحية أو اثنتين يتفق عليهما قبل سفري من مصر بالشروط المادية التي عرضتها الحكومة التونسية زائد نفقات السكن والطعام والتنقلات داخل تونس. وتفضلوا يا سيدي الدكتور بقبول فائق الاحترام».
هذا الرد كان رفضا للمهمة بصورة مهذبة؛ لأن اختيار فتوح نشاطي لم يكن فجائيا ولم يحدث بين يوم وليلة؛ حيث كان ترشيحه بناء على رغبته وموافقته منذ البداية كما تقول الوثائق!! كما أن مرض السكر لم يظهر فجأة بالنسبة للخبير، بل كان مريضا به من قبل ذلك بسنوات، كما أن الإعارة لمدة سنة قابلة للتجديد ولم تكن ثلاثة أشهر!! إذن ما السبب الحقيقي وراء هذا الرفض؟!
(الخبير البديل؟؟):
الحقيقة إنني لم أجد إجابة على هذا السؤال، وقد يجده أحد الباحثين في تونس مستقبلا!! ولكن ما يهمني هو سؤال آخر: من كان البديل لهذا الخبير؟ وبمعنى أوضح: إذا كان فتوح نشاطي رفض هذا العرض، أو لأسباب معينة لم يقم بالمهمة، فمن هو الخبير المسرحي العربي الذي سافر إلى تونس، وقام بالمهمة المطلوبة، ووضع تخطيطا لنهضة المسرح في تونس؟!! بكل أسف لم أجد وثيقة تجيب على هذا السؤال، وقد يجدها غيري، وإن كنت أشك في وجودها! ورغم ذلك هناك إجابة منطقية لهذا السؤال، تقول: إن الجمهورية التونسية، عندما أرادت أن تضع تخطيطا لنهضة مسرحية تونسية في أوائل ستينات القرن الماضي، لم تجد من الخبراء العرب المسرحيين سوى الفنان المخرج فتوح نشاطي، الذي لم يقبل بالمهمة لسبب أو لآخر، مما جعلها تبحث عن البديل، فلم تجد بديلا عن هذا الخبير المسرحي المصري سوى خبير آخر نجح في مهمته نجاحا كبيرا، وصنع لتونس مجدا مسرحيا كبيرا.. إنه الفنان الوطني التونسي.. (علي بن عياد) الذي تولى إدارة فرقة بلدية تونس عام 1963، والذي على يديه بدأت تونس نهضة مسرحية ما أظن خبيرا مسرحيا، كان سيحققها مثلما حققها علي بن عياد.
 


سيد علي إسماعيل