العدد 671 صدر بتاريخ 6يوليو2020
• الفعل في المسرح :
يرفض العديد من الممثلين ومدرسو التمثيل والمخرجون التظاهر والتقليد علي المسرح . اذ يجب أن يعيش الممثلون أدوارهم بصدق وهم يؤدون أفعال الشخصية . فمثلا، يؤكد كونستاتين ستانسلافسكي أن التمثيل بشكل جيد هو “ التفكير والسعي والشعور والتصرف في انسجام مع دورك “ . ويردد لي ستراسبرج، مؤسس مدرسة المنهج في التمثيل في أمريكا، أصداء ستانسلافسكي :
“علي الرغم من أن الممثل يمكنه أن يفعل الأشياء بسهولة في الحياة، وعندما يجب عليه أن يفعل نفس الأشياء علي خشبة المسرح في ظل ظروف خيالية فانه يجـد صعوبــة ... يجب عليه أن يصدق علي نحو ما. ويجـب أن يكون قادرا أن يقنع نفسه علي نحــو ما بصواب ما يفعــله لكي يفعل الأشياء علي الوجه الأكمل علي خشبة المسرح “ .
أو كما يقول أستاذ التمثيل الأمريكي البارز سانفورد ميزنر: “ أساس التمثيل هو حقيقة الفعل “ .
يرفض كثير من الكتاب والمتخصصين الآخرين، مثل ديدرو و بريخت هذا المثال بشكل صريح، مؤكدين أن الممثلين يجب أن يحافظوا علي مسافة باردة بعيدا عن أفعالهم في المسرحية . وأهتم هنا بتحديد مدى استناد هذا الجدل الى فرق حقيقي. فهل يمكن أن يفعل الممثل شيئا غير تقليد الشخصية ؟ . وهل دعوات الممثلين لأداء أفعال شخصياتهم بشكل حقيقي ذات مغزى ؟ . سوف أحاول أن أحدد كيف يمكن أن يحقق الممثل هذا الهدف، وعند أي نقطة تصبح هناك استحالة منطقية . ولكي أفعل ذلك، أحتاج الي مجموعة من المعايير لتحديد ما الذي ينشئ الفعل الحقيقي لقياس الأفعال علي خشبة المسرح علي أساسه . وسوف أستخدم كنقطة انطلاق المعايير التي تقدمها “ نظرية أفعال الكلام Speech Acts Theory” التي طورها كل من أوستن وسيرل . ورغم ذلك سوف يؤدي تحليلي الي استنتاج مختلف تماما عن الاستنتاج الذي وصل إليه سيرل في تأمل هذا السؤال .
ومن الضروري توضيح الادعاء الذي أقوم بتقييمه . والسؤال هو: الى أي مدى يمكن أن تكون الأفعال التي ننسبها إلى شخصية ما هي الأفعال التي يلتزم بها الممثلون علي خشبة المسرح ؟ . والقدرة علي مزج مستويات الوصف رائعة . فكما يلاحظ سيرل، لا يوجد تناقض أصيل في تقديم تأكيدات حقيقية وفعلية فيما يتعلق بالأفعال الخيالية . فالقدرة علي تقديم هذه التأكيدات لا تنبئ عن شيء فيما يتعلق بأنطولوجية الأحداث الموصوفة . فالتأكيد علي أن هاملت قتل بولونيوس في مسرحية شكسبير لا يلزمني بالادعاء التاريخي فيما يتعلق بهاملت أو بولونيوس . ولا تلزمني بالمثل بالادعاء علي الممثل الذي لعب دور هاملت . فمثل هذه التأكيدات هي عن الأحداث الخيالية الممثلة، وليست عن الوسيط الذي نتواصل مع القصة من خلاله . ويمكنني أن أقدم تأكيدات عن هاملت بناء علي النص المكتوب أو الحبكة أو الأداء المعروض . والتأكيد علي أن الممثل ملتزم بأفعال الشخصية، رغم ذلك ليس تقريرا عن القصة، ولكنه تقرير عن الوسيط . ومن ثم، فان السؤال الذي أتأمله ليس سؤالا حول الخطاب القصصي، بل هو سؤال عن الأداء المسرحي بوجه خاص .
بقدر ما تنقل العروض المسرحية القصص الخيالية، فإنها تسمح للمتفرجين أن يقدموا تأكيدات عن الخيال مثلما تفعل المسرحيات المطبوعة . ولكن، حتى لو قبلنا النصائح التفكيكية بعدم المبالغة في تقدير الاختلافات بين الكتابة والكلام، فان الأداء المسرحي يختلف عن النص المكتوب بطريقة واحدة ملموسة علي الأقل . فأثناء الأداء، هناك ممثلون علي خشبة المسرح، ويمكننا تقديم ادعاءات حول الأفعال التي يلتزمون بها بطريقة لا نستطيع أن نقوم بمثلها في حالة النصوص المكتوبة . واذا اقتبس الكتاب شخصية تقول “ اجلس “، فانه لا يقول هذه الكلمات فعلا . ولكن الممثل يقول ذلك بالفعل . فالكتاب لا يمكنه الجلوس فعلا عندما يمثل دور شخصية تجلس . ولكن الممثل يستطيع ذلك . ولذلك بالنسبة لفئة كبيرة من الأفعال، يكون قولنا أن الممثل يلتزم بأفعال الشخصية هو قول له معنى، بينما قولنا بأن الكتاب يلتزم بهذه الأفعال هو قول ليس له معنى .
ورغم ذلك، في بعض الحالات، ينحرف الوصف الحقيقي لما يفعله الممثل عن وصف ما تمثله الشخصية وهي تفعل . فمثلا، عندما نفترض أن الشخصية تشرب خمرا، فربما يلتقط الممثل زجاجة فارغة ولا يشرب شيئا علي الإطلاق . وأن الممثلة التي تلعب جولييت لا نتوقع أن تقتل نفسها عندما تنتحر الشخصية . وحتى في هذه الحالات كلها، لا توجد مشكلة في أن الممثل هو وسيط الأفعال الحقيقية، لأنه يبدو من المعقول أن نفكر في رجل كوسيط للفعل، اذا كان يمكن وصف ما يفعله في إطار يجعل منه فعلا قصديا . ولذلك فان الممثلة التي تلعب جولييت تدفع بالفعل خنجر من المطاط الي صدرها لكي تمثل الشخصية التي تطعن نفسها بسكين حقيقية .
يؤكد سيرل أن العلاقة بين الفعل الحقيقي والفعل الممثل في مثل هذه الحالات هي علاقة تظاهر . فطبقا لسيرل، السمة العامة للتظاهر هي “ أنه يمكن لنا أن نتظاهر بأداء ترتيب أعلي أو فعل مركب من خلال أداء ترتيب أدني أو أفعال أقل تركيبا والتي تشكل الأجزاء المكونة لترتيب أعلى أو أفعال مركبة “. فعندما يتظاهر الممثلون بأداء فعل ما، فيمكن القول دائما انهم يؤدون أفعالا مختلفة – مثل رفع الزجاجة الي شفاههم، أو دفع أشياء مدببة الي صدورهم – وهو أحد مكونات الفعل الأول بشكل أكثر تفصيلا – مثل الشرب أو الانتحار .
وهذا لا يقدم وصفا شاملا للتظاهر بجميع أشكاله . فهو أولا لا يصرح بتفسير التظاهر بشخص ما ( مثل هاملت أو أرنب عيد الفصح)، أو التظاهر بأن شيئا ما هو الحالة ( أحدهم فوق قمة الجبل مثلا )، ولكنه يقدم التظاهر بأداء فعل ما ( مثل شرب الخمر) . التحديد ليس مشكلة، لأنه، بينما يكون التظاهر في كل معانيه الثلاثة جزء لا يتجزأ من الفعل علي خشبة المسرح، فان القضية الحالية هي مكانة أفعال الممثلين . وحتى لو كان تفسير سيرل هو وصف القيام بفعل، فانه غير كاف، رغم ذلك . فعندما يتظاهر الأطفال بإطلاق النار علي الناس من خلال توجيه أصبع السبابة إلى ضحاياهم ورفع إبهامهم إلى أعلي وهم يصرخون بكلمة “ طاخ”، فان القليل جدا من عناصر فعاليتهم هي جزء لا يتجزأ من نظام فعلهم الأعلى وهو إطلاق النار . وبالتالي يقدم سيرل في أفضل الأحوال طريقة واحدة من عدة طرق التي يمكن أن يؤدي من خلالها الوسيط فعلا واحدا لكي يمثل أداء شخص آخر . ولا داعي لإجراء حصر شامل هنا للطرق التي يحدث فيها فعل ما بدلا من آخر لتأسيس مثال علي التظاهر، أو تأسيس العمليات التي يمكن أن يتأكد المتفرج من خلالها من الفعل الذي يجري تمثيله . ولأن اهتمامي هو تحديد هذه الأفعال التي يتم الالتزام بها فعلا علي خشبة المسرح، فان النقطة ذات الصلة هي أن كل ما يفعله الممثل لتمثيل الفعل المتظاهر به يمكن وصفه في إطار الأفعال التي يلتزم بها الممثل فعلا .
علاوة علي ذلك – وهذه النقطة مضمرة في مفهوم سيرل للتظاهر – أنه في كثر من الحالات التي لا يلتزم فيها الممثل بالفعل وفقا للوصف، فانه يلتزم به بوصف آخر . فمثلا لو كان من المفترض أن تشرب الشخصية الخمر فعلا، فان الممثل غالبا يشرب عصيرا . ويمكننا أن نقول ان الممثل يشرب، كما يفترض أن تفعل الشخصية، ولكننا لا نستطيع أن نقول إن الممثل يشرب الخمر فعلا . أو أن القاتل يخنق ضحيته، بل إن الممثل يتظاهر بأنه يخنق ممثل آخر، أو أن الطبيب الذي يفحص الغدد الليمفاوية يمكن أن يؤدي فعل وضع يديه حول رقبة شخص آخر. للتأكيد “ يؤدي الممثل أفعال الشخصية بالفعل لكي تكون ذات معنى، ثم، يجب أن يعني أكثر من ذلك، وهو أن هناك وصفا واحد ينطبق علي الفعلين . علي الأقل، يجب أن يكون كل وصف متعمد لفعل الشخصية هو وصف حقيقي لفعل الممثل .
وسوف يخضع أي فعل لعدد من الأوصاف القصدية الفعلية، وبالتالي يسمح معيار مقارنة الشخصية وأفعال الممثل بدرجات من التظاهر حتى في أبسط الأفعال. وقد اقترحت علي سبيل المثال أن الجلوس هو فعل يؤديه الممثل علي خشبة المسرح. ورغم ذلك، يمكن تمثيل الشخصية وهي تجلس لتريح قدميها . ويمكننا أن نتجاهل أي ذكر صريح للجلوس في وصف حقيقي لهذا الفعل ونقول فقط “الشخصية تريح قدميها “ . من المهم أن نؤكد أن “ الجلوس “ و” إراحة قدميه المتعبتين” لا يصفان فعلين منفصلين، ولكنهما وصفين لفعل واحد ؛ الشخصية تريح قدميها المتعبتين بالجلوس . وعادة تسمى ظاهرة الفعل الذي يسمح بمستويات عديدة “ تأثير الطي the accordion effect” . والآن من الممكن أن يجلس الممثل الذي يؤدي فعل الشخصية، ولكن ساقيه لن تكون أقل إرهاقا، وبالتالي لن يريحهما . وبالمثل يمكن للشخصية أن تروي عطشها بشرب الماء، بينما يشرب الممثل الذي لا يشعر بالعطش علي الإطلاق . في كلى الحالتين، يؤدي الممثل والشخصية نفس الفعل في ظل وصف قصدي واحد، وليس في ظل وصف آخر . ورغم ذلك، لا تكشف هذه التناقضات المحتملة عن أي قيود علي قدرات الممثل علي أداء أفعال الشخصية علي خشبة المسرح، لأنه يمكن للممثل أيضا أن يلتزم بأفعال “إراحة ساقيه المتعبتين”، و”يروي عطشه “ علي خشبة المسرح . وقد يتعمد الممثل المهتم بالحيوية تجنب شرب أي شيء قبل العرض لكي يؤدي أفعاله بصدق . أو ربما يتصادف أن يكون الممثل عطشانا في أحد الليالي، ولذلك يؤدي أفعال الشخصية بصدق بالصدفة البحتة .
يلتزم الممثلون بأفعال حقيقية، وغالبا ما تكون تلك الأفعال هي نفس الأفعال التي يبدو أنهم يفعلونها في الحقيقة . فعندما ترفع الشخصية ذراعها، يرفع الممثل ذراعه فعلا، وعند تصل الشخصية، برفع ذراعها، إلى الكوب، فان الممثل يصل الي الكوب . وفي بعض الأحيان، ربما يلتزم الممثل بأداء فعل وفقا لبعض أوصافه. ولكن في حالة الأفعال غير اللائقة أو غير العملية علي المسرح، مثل القتل، فلا بد أن يلجأ الممثل إلى أداء فعل يختلف جذريا عن فعل الشخصية . فهل هذه الصورة تمثل ما يقترحه ستانسلافسكي عندما طلب من الممثلين أن يمثلوا بصدق علي خشبة المسرح ؟ . إن كان الأمر كذلك، فلماذا كل هذا الضجيج ؟ في النهاية، سوف يعيش الممثل الدور مع سنوات من التدريب علي منهج خاص أو بدونه . فما هي الصعوبة إذن في المشروع المثير للجدل حول التمثيل بالتوافق مع الشخصية ؟
• الأفعال الأدائية في المسرح :
هناك فئة كبيرة من الأفعال تغفلها هذه الصورة . إذا قال ممثل يرتدي ثياب كاهن لزوجين من الممثلين “ احدهما في بفستان زفاف والآخر يرتدي حلة سهرة “ بموجب سلطتي أعلنكما زوجا وزوجة “، ويلتزم الممثل بفعل أداء الكلمات، مثلما يفعل الكاهن الحقيقي . ولكن الكاهن، في التزامه بفعل قول الكلمات، يمكن أن يلتزم أيضا بفعل كلام، فعل له قوة متفق عليها يمكن أن تنشئ قران الزوجين اللذين يخاطبهما . بوضوح، لم يرتكب الممثل الذي يرتدي ثياب الكاهن هذا الفعل، ولن يكون الممثلان متزوجين في نهاية المسرحية . وباستخدام مصطلحات نظرية فعل الكلام، يفتقر فعل الممثل إلى القوة الأدائية في فعل الكاهن .
جزء من الأسباب التي تجعل الممثل الذي يلعب دور الكاهن لا يمكنه إتمام مراسم الزواج علي الوجه الصحيح هي أنه ليس كاهنا . فمراسم الزواج هي إحدى تلك الأفعال التي يمكن القيام بها بنجاح فقط ( أو بشكل مناسب، وفقا لعبارة أوستن) بواسطة شخص لدية سلطة ممنوحة من خلال تقاليد مؤسساتية رسمية . اذ افتقر إعلان الممثل عن الزواج الى القوة فقط لأن الممثل ليس كاهنا، فسوف يكون الزواج ببساطة أحد تلك الأفعال التي لا يقوم بها الممثلون عمليا، مثل انتحار جولييت، ولكنه ممكن من حيث المبدأ . ويمكن للمخرج في النهاية أن يعهد بدور الكاهن إلى كاهن فعلا . ولكن المشكلة هنا أعمق من ذلك بكثير . وحتى لو كان الممثل كاهنا حقيقيا، فلن يؤدي فعل الكلام إلى زواج إذا تم تنفيذه في سياق المسرحية .
تمتد هذه المشكلة إلى كل الأفعال الأدائية، وكل الأفعال التي يلتزم بها الناس في النطق، مثل الأمر والقسم والمجاملة والتهديد . وإذا قطع الممثل علي نفسه عهدا علي خشبة المسرح، فلن نلزم الممثل أن يفي بوعده بمجرد عند انتهاء المسرحية . وإذا أهان ممثل ممثلا آخر في سياق المسرحية، فمن غير المرجح أن يحملها الممثل ضد الممثل الأول في صباح اليوم التالي . فكما لاحظ سيرل، في سياق خيالي مثل المسرحية، تستدعي أفعال الكلام “ تقاليد أفقية “ تعلق التزامات نطق الأفعال الأدائية العادية . هذا التعليق لالتزامات نطق أفعال الأداء يمتد إلى كل العروض المسرحية، بداية من الأداء البريختي الأكثر اغترابا وصولا إلى أشد العروض المنهجية حماسة . إن تأثير تعليق الأدائية كامل لدرجة أنه يمنع الممثل من أن يؤدي بنجاح أبسط أفعال الكلام علي خشبة المسرح . فإذا قال الممثل “ شعري أشقر “، فلا يمكننا أن نقول أنه قدم تأكيدا صحيحا حتى لو كان شعره أشقر فعلا . وإذا قام الممثل في وقت لاحق أثناء إنزال الستارة بإزالة الشعر الأشقر المستعار ليكشف عن شعره الأسود، فلا يمكننا اتهامه بالكذب . الهدف من الـتأكيد الحقيقي هو إلزام المتحدث بحقيقة الاقتراح، وعادة لا نحمل الممثلين مسئولية حقيقة أي تأكيدات يقومون بها علي مدار المسرحية . لا تقتصر مشكلة الأفعال الأدائية علي الألفاظ المنطوقة فقط، ولكن أي فعل له قوة متفق عليها، مثل إيماءة الممثل بالموافقة، أو التلويح بالتحية، أو يشير بدعوة إلي الجلوس . لا يلتزم الممثل في أي من هذه الحالات بالعمل الذي يقوم به لأنه لن يكون خارج خشبة المسرح . ان عدم القدرة علي الالتزام بأفعال أدائية حقيقية علي خشبة المسرح يؤثر فعليا علي أداء الممثل بالكامل، وليس فقط علي أمثلة مثل انتحار جولييت .
يقترح سيرل أن الممثلين يتظاهرون فقط بأداء أفعال أدائية علي المسرح كما يتظاهرون بشرب النبيذ والانتحار . وتماشيا مع فكرة سيرل العامة في التظاهر فان الممثلين يتظاهرون بالالتزام بأفعال أدائية من خلال أداء أكبر من أفعال ( الكلام)، ان جاز التعبير سطور النص، أو كما يقول سيرل أداء النطق .
يفسر هذا الاقتراح بالتأكيد فشل الممثلين خارج خشبة المسرح في تبني الالتزام المتضمن في أفعال شخصياتهم علي خشبة المسرح، ويجب علي أي تحليل ملائم أن يفعل ذلك . إذن يصف تحليل سيرل علي الأقل نوع واحد من الأفعال أن الممثلين يمكنهم أن يؤدوا علي خشبة المسرح . ومع ذلك، فان تحديد طريقة واحدة يتجنب فيها الممثل التزامات ما بعد الأداء لا يعنى بالضرورة تحديد طريقة واحدة فقط . ربما يرسم تفسير سيرل خطا بين الممثل وأفعال الشخصية أوسع من الضروري . ولاسيما أن تفسيره يفشل في التمييز بين :
1 - مجموعة من غير المتحدثين بالانجليزية يقرأون مسرحية انجليزية بصوت عال كتمرين علي النطق .
2 - محامي يقرأ خلال محاكمة يقرأ جزءا من مسرحية مؤكدا علي خبث المتهم، مشددا علي اشمئزازه من النص أثناء القراءة .
3 - الممثلين المنسوبين الي ستانسلافسكي الذين يتطابقون مع شخصيات المسرحية .
في كل هذه الحالات الثلاثة، يؤدي المتحدثون أفعال نطق، أو ما يسميه أوستن أفعال صوتية وتأكيدية . ورغم ذلك، في الحالة الثانية يلتزم المتحدث بأفعال النطق لكي ينقل معناها ( أي معناها وإشارتها) . وبالتالي، يلتزم أيضا بما يسميه أوستن أفعال خطابية rhetic acts، وما يسميه سيرل أفعال مقترحة propositional acts . ورغم ذلك في في الحالة الثانية، مثل الحالة الأولى، يفتقر النطق إلي قوته الأدائية المعتادة . بمعنى آخر، إذا اقتبس المحامي سطرا هو تأكيد صريح، فانه لا يعني أن يلزم نفسه بالمحتوى المقترح لهذا التأكيد بأي حال . ورغم ذلك، لا يريد من المستمعين أن يفهموا أن النطق هو مضمون مقترح بأي حال . فالمحامي يدلي ببيان مكثف طبقا لتفسير سيرل للأفعال القصدية : فالسطور تحتفظ بمعانيها الحرفية، “ ولكن هذه المعاني تحدد المضمون المقترح وليس القوة الأدائية . اذ لن تتكرر القوة الأدائية للأصل، ولكن يتم نقلها “.
ربما توظف أفعال عروض مسرحية بعينها بنفس الطريقة . فمثلا، تخيل ممثل كوميدي يرتدي قناع ويقلد بشكل كاريكاتيري رونالد ريجان وهو يهتف “ وقت اجتماع مجلس الوزراء ! في موعده المناسب ؛ يمكنني أن أغفو قليلا “ . من المحتمل ألا يبذل الممثل الكوميدي جهدا في التطابق مع ريجان . ورغم ذلك لاحظ أنه ربما يكون له هنا معنى قبوله أو رفضه . فربما يصرخ مشاهد من الحزب الديمقراطي “ هذا صحيح . لقد نام ريجان طوال ثمان سنوات في البيت الأبيض !” وربما يصرخ مشاهد من الحزب الجمهوري “ هذا ظلم ! لقد كان ريجان قائدا عظيما !” . تقترح ملائمة مثل هذه الاستجابات أن الممثل الكوميدي يقدم ادعاءا عن ريجان لا يتضمن محتواه معلومات لغوية فقط بل أيضا معلومات عامة من خلال سلوك الممثل الكوميدي . فإذا ألقى الجملة مثل رجل عجوز ضعيف، فانه يقترح أن ريجان ضعيف وعجوز . ويوظف هذا النطق بنفس الطريقة بالضبط مثل التأكيد الذي يقدمه شخص ما خارج خشبة المسرح : “ قبل كل اجتماع، أراهن أن الرئيس ريجان يمكن أن يقول “ موعد اجتماع مجلس الوزراء ...” ( لاحظ أن طريقة إلقاء هذا التأكيد تنقل معلومات غير لغوية ) . فقناع ريجان ينسب القول لريجان وهكذا يهب المقدمة اللفظية “ أراهن أن الرئيس ريجان سوف يقول “ غير ضروري” . يبدو أن هذا التفسير للتمثيل يصف مفهوم بريخت للأداء الملحمي، حيث يتم التخلي عن فكرة التحول الكلي ويؤدي الممثل دوره وكأنه يرتجلها بنفسه وليس كأنها اقتباس .
والآن ننتقل إلى حالة الأداء المنسوب الي ستانسلافسكي . وفي هذه الحالة، مثل الحالة السابقة، كل من أفعال النطق وأفعال الاقتراح يتم أدائها . ولكن يبدو الممثلين أكثر التزاما بأفعال شخصياتهم أكثر مما يفعلون في الحالة الثانية . ومن المحتمل أن يكون هذا المظهر إيهاما، وأننا لا يمكن أن نمضي إلى أبعد في الالتزام بالفعل علي خشبة المسرح أكثر من التزامنا بالفعل المقترح . ومع ذلك يمكن للمرْ أن يدعم الحدس القائل بان الممثلين في هذا المثال الثالث أكثر انخراطا في تصرفاتهم الشخصية من أولئك في المثال الثاني إذا كان يمكننا أن يكتسب سلوك الممثلين قوة أدائية أثناء المسرحية، في حين تفسر لماذا لا تبقى هذه الالتزامات بعد نزول الستارة . ومثل هذا التفسير يدعم التمييز بين العرض والفعل الذي يعرف الموقفين البريختي والمنسوب الي ستانسلافسكي .
وجوهر المسألة هو : هل الأفعال الأدائية علي خشبة المسرح تشبه بالضرورة الأفعال التي يتظاهر الممثلون بأدائها، مثل الانتحار أو الأفعال التي تشبهه والتي يمكن أن يؤدوها، مثل تحطيم كرسي؟ . لاحظ أن التظاهر في كلتا الحالتين يتعلق علي نحو ما بالممثل الذي يتظاهر أنه الشخصية . وبالتالي فان مقولة ان “الممثل يتظاهر بأنه شخصية تلتزم بفعل “ هي مقولة صحيحة في كلى الحالتين، ولكن لأن الحالة غامضة فيما يتعلق بمقدار التظاهر. وفي حالة الانتحار “يتظاهر الممثل بأنه شخصية وأنه يتظاهر بالانتحار. وفي حالة الكرسي المكسور “يكسر الممثل الكرسي” . إذن، هل من المحتمل أن يتظاهر الممثل بأنه شخصية ويؤدي فعلا فعل الكلام؟. لاحظ أنا في حالتي الكرسي المكسور وفعل الكلام، لا يتحمل الممثل مسئولية الفعل حتى لو تم تنفيذه خارج خشبة المسرح . اذا دعت المسرحية الممثل أن يكسر الكرسي في نوبة غضب، فلن يقاضي أحد الممثل من أجل ثمن الكرسي بعد العرض . ومع ذلك، فانه مسئول كممثل عن تحطيم الكرسي، وبالطبع يكون مسئولا عن الفشل في تحقيق ذلك . وبالمثل، إذا تم استدعاء الممثل لطلب سيجارة بأدب، وبدلا من ذلك يصدر تهديدا عنيفا باستخدام نفس الكلمات، فقد يتهمه زملاؤه الممثلون بعدم الوفاء بمسئوليته . ولكن هل هذه مسئولية التظاهر بتقديم طلب، أم أنها يمكن أن تكون تقديم طلب ؟ .
هل من الممكن أن يتحمل الممثلون الالتزامات التي تنطوي عليها الأفعال التي يقومون بها علي خشبة المسرح خلال مدة بقائهم علي خشبة المسرح ؟ . هذا السؤال مستحيل الإجابة عليه بدون فهم أدق لما يعنيه أداء الفعل الأدائي . ولنتأمل مثالا بعينه لفعل الكلام ونرى بالضبط أين يبدأ في مواجهة المتاعب علي خشبة المسرح :
“ جون يطلب من ليزا سيجارة بقوله الكلمات التالية “ من فضلك أعطني سيجارة”
ما هو الضروري لكي تنشيء كلمات جون طلبا لسيجارة ؟ . وفقا لصيغة سيرل في نظرية فعل الكلام، المطلب الأساسي هو ببساطة أن جون يقصد أن يكون نطقه طلبا وأن ليزا تدرك هذا القصد . تحديدا، أن نقول إن جون يقصد أنه لكي يكون نطقه طلبا فانه يقصد أن : ( النطق فيه شرط الرضا عن الاتجاه المناسب لكل كلمة لأن تعطيه ليزا سيجارة وأنها أعطتها له لأن الكلام به شرط الرضا هذا .
سوف يسمي سيرل هذا القصد “ قصد التمثيل representation intention” ؛ بمعنى آخر، انه قصد جون أن يمثل نفسه باعتبار أنه وضع لنفسه شروط قبول علي نطقه . ببساطة، يجب أن يقصد جون أن تصدق ليزا أنه سوف يعتبر نطقه ناجحا اذا أعطته السيجارة . بهذا المعنى، يمثل جون نفسه باعتباره يريد سيجارة . عموما، طبقا لسيرل، يتضمن كل فعل كلام حالة قصدية مطابقة لها نفس شروط الرضا مثل الفعل نفسه . بالطبع من الممكن أن يضلل المتحدثون مستمعيهم وأن يمثلوا أنفسهم علي أنهم لديهم معتقدات أو رغبات ليست لديهم في الواقع . فمثلا، ربما لا يريد جون من ليزا أن تعطيه سيجارة ؛ فربما يبحث عن عذر أن يغضب منها ويطلب سيجارة بالتحديد لأنه يعلم أنها سترفض. ويمكن أن يظل لفعله قوة أدائية كطلب، ولكنه لن يكون غير صادق . عموما، عندما لا يكون للمتحدثين الحالة القصدية التي تنطوي عليها تصريحاتهم، فانهم ينتهكون ما يسميه سيرل شرط الصدق .
ولذلك وفقا لسيرل، يجب استيفاء شرطين أساسيين لكي يؤدي جون هذا الكلام بصدق ونجاح :
1 - يجب أن يملك الحالة القصدية الملائمة لاستيفاء شرط الصدق ؛ أي أنه يجب أن تريد ليزا أن تعطيه سيجارة .
2 - يجب أن تكون لديه النية وأن يتواصل مع المحتوى الموصوف بقصد التمثيل .
وإذا كان جون وليزا ممثلين علي خشبة المسرح، فهل هناك أي شيء يمنع جون من استيفاء أي من الشرطين ؟ . فربما كان الممثل الذي يلعب دةر جون مدخنا ويتوق الي سيجارة، ويستوفي شرط الصدق . ولكن ربما يكره الممثل السجائر أيضا، وفي الواقع، في الغالبية العظمى للحالات، فان الأشياء التي تطلبها الشخصيات في المسرحية ليست أشياء ذات أهمية جوهرية للممثلين الذين يؤدون أدوارهم . وبشكل أعمق، ماذا لو كان النص يقضي بأن ترفض ليزا طلب جون، وهذا الرفض يحفز الأحداث الرئيسية في المسرحية ؟ . يكون لدى الممثل الذي يلعب دور جون سببا وجيها لعدم رغبته في منح طلبه، حتى لو كان متحدثا متعطشا.
ربما لا يهم أن يستوفي الممثل شرط الصدق . فهل يمكن أن يلتزم الممثل بأفعال غير صادقة ؟ . لسوء الحظ ليس من السهل الخروج . فلكي يكون للأفعال عير الصادقة قوة، يجب أن يقصد المتحدثين تضليل مستمعيهم، مقترحين بأن لديهم حالة قصدية ليست لدى المستمعين . فإذا كان لا بد لجون أن يقول “ أعطني سيجارة، لا أريدك أن تعطيني إياها “ فربما كان يرسل رسالة مختلطة في أفضل الأحوال . وبالمثل، إذا استدعى النص رفضها، عندئذ سوف تكون الممثلة التي تلعب دور ليزا مدركة تماما أن جون قد ينزعج – يندهش – إذا أعطته سيجارة . فكيف يمكن أن يأمل الممثل في إقناعها بأن طلبه صادق ؟ .
المشكلة الأساسية هي أننا إذا كان لنا أن نأخذ إمكانية أن يلتزم الممثل بالأفعال الأدائية للشخصية فعلا، فيجب أن يملك الممثل بصدق نفس الاهتمامات التي يفترض أن تكون عند الشخصية . بمعنى آخر،لاستيفاء شرط الصدق، ولو بحد أدنى، فيجب تحديد تقاليد الأداء بحيث يمكن للممثل أن يتصور أن تعطيه الممثلة السيجارة . وقد تستتبع هذه التقاليد التالي :
1 - أن الممثل لديه سبب لكي يريد من الممثلة أن تعطيه سيجارة، وعموما، أن الممثل لديه سبب للالتزام بأي فعل يتطلب أن تؤديه الشخصية .
2 - أن هذه الأسباب لها أولوية علي شرط أن يتبع الأداء مساره المنصوص عليه والمتدرب عليه في حالة ماذا كان النص يفرض أن الفعل ليس ناجحا .
يستدعي هذان الشرطان هدم مستويين للحقيقة : مستوى القصة ومستوى الأداء. وهذا الخلط في المستويين متضمن فعلا في مطلب ستانسلافسكي بأن الممثل يعيش الدور . وإذا تحقق هذا الهدم، فلن يكون المسرح وسيطا آخرا نمثل من خلاله قصة خيالية فقط، بل انه يقدم طريقة لتقديم تلك القصة فعلا . وغالبا ما يتم تقديم مثل هذا الادعاء حول الدراما، ولكنه بلاغة فارغة، إلا إذا استطعنا تفسير العلاقة الصادقة بين الممثل واهتمامات الشخصية . ورغم ذلك، لا داعي أن تكون العلاقة بين المستويين متناغمة . إذ يجب أن يكون لدي الممثل سببا لكي يلتزم بصدق بأفعال الشخصية، لا يوجد سبب يجعل الشخصية تلتزم بكل أفعال الممثل . فمثلا، رغبة الممثل في الحفاظ علي وجهه في اتجاه الجمهور لن تمنعه من تقديم طلب صادق علي الرغم من وجود الرغبة الأكيدة في رفضه .
• قصد التمثيل:
يتضمن شرط الصدق نصف قصد التمثيل فعلا: يمتلك النطق شرط الاستيفاء مع ملائمة اتجاه كل كلمة “ تعطي الممثلة سيجارة للممثل“. وإذا كان الفعل صادقا فسوف يستوفى إذا حصل الممثل علي السيجارة . والنصف الثاني من القصد – أنه يحصل علي السيجارة لأن النطق فيه شرط الاستيفاء – يقدم مشكلات جديدة . في المسرحية، إذا قدمت الممثلة سيجارة، فإنها لا تفعل ذلك لأنها سئلت، بل لأن النص يخبرها أن تفعل . وبالتالي يبدو أن المسرحية تنشئ سلسلة سببية منحرفة : المتحدث يطلب سيجارة، والمستمع يعطيه واحدة، ولكن الحدث الأول لا يسبب الحدث الثاني . إذ يبدو أن قوة النطق كفعل حقيقي تنكسر عند هذه النقطة تحديدا.
...........................................................................................
• ديفيد سولتز يعمل رئيسا لقسم دراسات المسرح والسينما في جامعة الينوي .
وقد سبق أن قدمنا له عدة مقالات في جريدة مسرحنا .
• نشرت هذه المقالة في Journal of Aesthetics and Art Criticism 49:1