إشكاليات تأصيل المسرح العربي (3)

إشكاليات تأصيل المسرح العربي (3)

العدد 755 صدر بتاريخ 14فبراير2022

ويتساءل (المؤلف): هل يتطلع (ونوس) من وراء إدراج مسالك التاصيل الإبداعي التي حددها ضمن الحركة المسرحية التي رأينا إلى الاستفادة من زخمها وإلى إفنائها في الآن ذاته؟ ويواصل (الكتاب) استعراض أتباع (التوجه الثاني) في رسم نموذج محدد للمسرح المنشود.. إذ يقف (التوجه الثالث) موقف النقيض لهذين التوجهين معا، وأن هذا الموقف ليس غريبا إذا ما اعتبرنا اختلافه الجوهري مع أتباع التوجهين السابقين في مجال حد ماهية الفن إذ أن قول (أدوينيس = علي أحمد سيد) وهو (أبرز ممثل لهذا التيار) عن دحض الأساس التي ارتكزت عليها نظرة أتباع التوجهين السابقين وتنويعاتهم لمسألة (تأصيل المسرح العربي) ورفض اختزال الظاهرة المسرحية عند حد ما في (طرفي) الفرجة وهو المنطلق الأساسي الذي اعتمده أصحاب التوجه الأول، وتمسك.. من ناحية ثانوية.. بالمدى التراجيدي وبدلالاته الفلسفية باعتباره حدا أدنى لا غني عنه لنشأة الفعل المسرحي واكتماله كما في كتاب «فاتحة لنهايات القرن» وهو الأمر الذي سعي أغلب (الاتجاه الأول) خاصة إلى رفضه، وأكد من ناحية ثالثة غياب الشروط التي تضمن توفير هذا المدى التراجيدي في الفكر العربي الإسلامي، وذلك بناءا على أن المسرح (مدنيا) في رأيه أي ناشئا حسب تقديره في (حاضرة) تنظم علاقاتها في تشريع بشري يحدد علاقة الإنسان بالإنسان، والإنسان بالسلطة، وينشأ فيها ثقافة تتمحور حول الإنسان لا حول الغيب، وحول الأرض لا حول السماء، وتدور على الناسوت لا على اللاهوت، أو على الأقل يتساوي فيها الأمران.. في حين لم تنشأ في رأيه (المدينة العربية) المدينة – حتى الآن – لأن المدينة التي أنشأها العربي ليست إلا تنويعا على الخيمة أو تأثرا منها أي أنها كانت في نظره قصرا وجارية وحديقة وليست إلا تنويعات علي الخيمة أو ثأرا منها، ولم تكن وليدة وعي تنظيمي وحضاري وهكذا باتت العلاقات القبلية غالبة على تفكير العربي وحياته وبقيت ثقافته محافظة على طابعها الغيبي.. لهذا يصبح البحث في التراث العربي الإسلامي لا طائل من ورائه.. إذ لم يكن للعرب تاريخيا مسرح وليس لهم في حاضرهم مسرح، ويصبح البحث عن (أصل عراقة) في تراث العرب و(اعتبر بحثهم كان من السهولة في البحث عنه)، وأن هذا مجرد صيغة أيدولوجية تعليمية تجهد في نشر أفكار مسبقة جاهزة، وأنه مسرح أجوبة دون أسئلة، وحلول دون مشكلات، ويري (أدونيس) أن التراث عنصر استلاب وضياع، ولا يمكن أن ينبني عليه إبداع أصيل، وأن هناك مسالك موصلة إلى إبداع مسرحي في مستويين اثنين بدا (الأول) منهما أساسيا ليس منه بد، وذلك رغما عن كونه وثيق الصلة بالممارسة المباشرة لهذا الفن، وتعود أساسية موقفه ذاك إلى ارتباطه بتحقيق الشرط الذي بغيابه انتفت وتنتفي ممارسة هذا الفن، وغابت الحاجة إليه في الحضارة العربية الإسلامية وتغيب، ويتأكد موقعه ذاك في تجلي المستوي (الثاني) من مسالك التأصيل الذي اقُترح في صورة تجسيد فعلي لتحقق ذلك الشرط، فإلي هذا الأخير يعود الكاتب عند عرض مقترحاته التأصيلية فيه وبعناصره يجنح إذ أن (المستوي الأول) ينجم عن التركيز على المدى التراجيدي عند حد ماهية هذا الفن، وعن ذهابه مذهب من يعتبر (الوعي الدرامي) شرطا ضروريا لنشأة المسرح في أي زمان ومكان، ولقد تجلى هذا عندما أعاد (أدونيس) الأمر بوضوح حالة التردي الغالبة على ممارسة العرب لهذا الفن، وإلى فقرهم في الرؤيا المسرحية المتميزة لذا بدا (الإتباع) متجليا في بدء المسرح ضمن المشكالية الدرامية الأوروبية وفي نموه داخل هذه المشكلة وهذا لا يعني أن لا سبيل إلى الخروج عند حالة الإتباع هذه ما لم يتم الوقوف عند الأسباب الحائلة دون توفر الوعي الدرامي العربي القادر وحده على ابتداع المشكلة الدرامية العربية، وما لم يمتد من ناحية ثانية إلى ما به يمكن إزالة هذه العوائق ويري (المؤلف) أن ما بدا حائلا في خطاب (أدونيس) التأصيلي دون نشأة هذا الوعي وهو الذهنية العربية الإسلامية ذاتها فطبيعي من أن يبدو الطريق إلى نشأة هذا الوعي بناءاً على ذلك متمثلا في رفض الأسس التي أنتهت عليها هذه الذهنية ومقاربة هذه سماتها من شأنها أن تجعل فعل التأصيل موجها عند هذا الكاتب لا إلي تعديل أسس هذا الفن تعديلا يسمح له بأن يتناغم مع طبيعة الإنسان العربي وطبيعة ثقافته، وإنما بدا فعل التأصيل موجها عند هذا الكاتب إلى تعديل ذهنية الإنسان العربي وطبيعة نظرته لذاته للكون بشكل تصبحان معه مستجيبتين لمقتضيات هذا الفن ومنسجمتين مع أسسه التي حدد، ويرى (المؤلف) أن (أدونيس) يقف ضد الثقافة العربية الإسلامية في كلتيهما وأنها معطلة لانطلاق الإنسان العربي.. وجعلت من المسألة (المطلقة) مسألة (دينية خالصة – فهي ثقافة لا تمزق فيها، وجعلت من عقل الإنسان العربي.. عقلا قابلاً لا ناقداً.. بينما المسرح قائم جوهريا على قلق كيان وقلق مصير.. بينما يحتفي بالتراجيديا وبخلفياتها الفكرية والفلسفية.. لذا يكمن (التناقض) في خطاب (أدونيس) التأصيلي في اقتصار بيانه على بيان مظاهر التعارض بين الذهنيتين العربية والغربية وتمسكه في الأن ذاته بالحاجة إلى ممارسة هذا الفن ممارسة فعلية دون الحسم حسما واضحا في مسألة توفر الدواعي الوجودية إلى ممارسة هذا الفن رغم عدم توفرها.. وذلك على خلاف ما دعا إليه (روجيه عساف) وما ذهب إليه (محمد عزيزة) اللذين التقيا معه في حد جوهر هذا الفن دون أن يقعا في ما وقع فيه من مفارقات، وعلى ما بين تقويمهما لهذا الفن من صور التناقض، ودون الخوض في تقويم الوجهة التي رأي أن يتخذ كل منهما في مجال التأصيل الإبداعي لهذا الفن، فلقد نزل (روجيه عساف) بالوعي (النزاعي) منزلة الجوهر بالنسبة إلى المسرح وأقرب بغياب مثل هذا الوعي عن النظرة الإسلامية للعالم، وبتعارضها العميق مع أسسها.. ولكنه ذهب مذهب المستنقص من شأن هذه النظرة للعالم المبنية على التمزق والنزاع.. فشوه جذورها وابعادها بعد أن زين للقارئ النظرة الإسلامية للعالم المتعارضة مع هذين المبدأين، وخلص من خلال ما ذهب إليه إلى أن لا حاجة للمؤمنين بهذا الفن مُعللاً ذلك بهذا التعارض التكويني العميق وبالتماسك بميزات الفطرة الإسلامية الحاوية لسمات الهوية فكانت استنتاجاته ومواقفه متناغمة مع المقومات التي اعتمد عليها في خطابه ومع المنطلقات التي بني عليها منطقه .. وأما (محمد عزيزة) فإنه لم يشاطر (أدونيس) الرأي في ما ذهب إليه عندما حد ماهية هذا الفن فحسب، ولكنه التقى معه كذلك في الإقرار بعلو منزلة الوعي الدرامي المنشئ وحده لهذا الجنس من التعبير، وذهب مذهبه في بيان سر غياب مسرح عربي فعلي واستفحال حال الإتباع عند من رام ممارسة هذا الفن من بين العرب، فأعاد الأمر إلى الأسباب التي حددها (أدونيس) واعتبرها حائلة دون نشأة وعي درامي، وبالتالي مسرح عربي ما دام الاثنان قد نهلا من المعين ذاته .. إلا أن (محمد عزيزة) أشار بشكل صريح إلى أن ممارسة هذا الفن من لدن العرب في عصر النهضة العربية الحديثة لم تكن من باب الصدفة،ولم تنشأ عن مجرد الرغبة في تقليد الغربيين، وإنما نشأت ممارسة العرب لهذا الفن في تلك الفترة بالذات نتيجة ظروف محددة ولدت ضروبا من الوعي النزاعي لا تخلو من شعور بالتمزق،وتتمثل هذه الظروف في حال الاستعمار وما نشأ عنها من وعي لدي العربي بمنزلته في هذا العالم خاصة وقد تصور حال الاستعمار بمثابة خطأ نشأ عنه في رأيه وعي حاد بالمسئولية.. هذا الخطأ أشبه ما يكون بالوعي الدرامي، وذهب إلى أن ممارسة العرب للمسرح على الطريقة الغربية (شر لا بد منه).. لكنه التقى مع الباحثين عن العمق المفقود في إشكال الفرجة الشعبية، ولم يقع في المفارقة التي وقع فيها (أدونيس)، واكتفى بوضع الإطار الذي يمكن في رأيه أن يندرج ضمنه مسعي البحث عن مسرح عربي فعلي، مُوكلاً أمر تدقيق المسالك الموصلة إليه إلى ممارسة رجال المسرح العرب اللاحقة، وفي إطار هذا المستوي (الثاني) في التأصيل عند (أدونيس) بأن ذلك رهين بممارسة هذا الفن ممارسة فعلية، وأنه لا يمكن أن نخلق مسرحا إلا حين نخلق مسرحياتنا.. فهو يشير إلى بعده عن الممارسة الإبداعية المسرحية ويقرر أنه قارئ للمسرح (ولست كاتبا مسرحيا)، ويطالب بإعلان وعي درامي عربي ينبني على أساسه المسرح العربي المنشود، وتتمثل هذه المحاور في التأصيل والرؤية الشعرية والنص لا الكتابة، وعمد إلى التنبيه إلى أن لا أصول عربية قديمة أو حديثة لهذا الفن يمكنهم الإتكاء عليها مُشيراً إلى أن (سفوكليس وشكسبير) أقرب إلينا مسرحيا، من (الهمذاني أو الحريري )، و(بريخت أو تشيكوف) أقرب إلينا من (مارون النقاش أو أبي خليل القباني) وأن دعوته إلى العزوف عن الموروث باعتباره متعارضا مع حرية الإنسان ومع تحقيقه ذاته وأبعاده.. إذ أنه في نفيه وجود موروث عربي يمكن أن تجسد أصولا للمسرح العربي المنشود، ولم يقتصر موقفه ذاك على الموروث المسرحي أو الفرجوي فحسب وإنما تجاوز ذلك إلى الموروث العربي الإسلامي في مجمله فاعتبره قاصرا عن توفير الشروط المناسبة لنشأة ممارسة فعلية للمسرح، والح على فكرة الوعي الدرامي وأنها رهينة تغيير النظرة للكون وللذات والمطلق تغييرا يُبني على أساسه موقف أخر من الوجود يتعارض مع مواقف التسليم والقبول والايمان، وأن الرؤية الشعرية كفيلة دون غيرها بذلك وليس المقصود هنا كتاب «فن الشعر» الشعر بذاته كنوع أو كشكل متميز، وإنما الشعر بمعناه الواسع كونها تخييلية درامية أو مأساوية للحياة والإنسان بما يتطلب الفهم العميق الجديد لمشكلة الحياة والإنسان والحضاراة العربية وأن هذا هو جوهر الإبداع في نظر (أدونيس).. إذ لا يجوز أن يعرض المسرح مذهبا فكريا بقدر ما يتوجب عليه أن يعرض مشاهد حية تحاصر من يراها وتدفعه إلي الخيار الحاسم في اتجاه الخروج من الحصار، وهو ما يتعارض مع دعاة المسرح (التسييسي) القائم على التعليمية والتحريض الذي يؤدي إلى التمذهب بمذهب سياسي معين، ويطلق عليه صفة (مذهبي) وعلى الموروث والأفكار الجاهزة، ولا يتم الإبداع إلا خارج هذه الثقافة، وأنه ليس منشغلا بهذا الأمر بقدر انشغاله بتحقيق جوهر هذا الفن وماهيته.
وعن السمات المميزة للأدوات التعبيرية المسرحية فيشير (المؤلف) في (المحور الثالث) في دراسته إلى سمة التركيب الغالبة على الفن المسرحي ,أقرب بتعدد الفواعل فيه والأبعاد.. فأكد تكوين قيام المسرح تكوينيا على أبعاد الكلمة (الكاتب) والمسرحية (المخرج)، والحركة (الممثل) وأن الأولوية (للنص) فهو الذي يعطيه سمته الأولى وهو رهين بتجاوز (الخطابة) والتحول إلى الكتابة ومشروط بالقدرة على تمييز اللغة المسرحية عن اللغة الأدبية وأنه من الداعين إلى عزل المسرح عن الأدب واعتباره فنا قائما بذاته له أدوات تعبيره المخصوصة لا يتحقق دون التوسل فيها، وهو ما ذهب إليه أغلب المسرحيين (الغربيين المتمردين) على السائد، وبدأ (أدونيس) في مسعاه لتأصيل المسرح العربي مع مسعى المسرحيين الغربيين إلى إعادة اكتساب المسرح هويته، وإلى لغة التناقض ولغة الحوار المشحون توترا وصراعا عوضا عن لغة الخطابة والتعليم (لغة الأيديولوجيا) السائدة في المسرح العربي، وربط أثره بالدهشة والإدهاش، بل يصبح فعلا يزلزلنا، وهو ما يذكرنا بما تميز به خطاب (أرتو) الذي مل من المشاعر الزخرفية التي لا تهدف إلى شيء، وينادي بإلغاء المسافة بين الكلمة والشيء وعن الفعل الذي يبتغي تفجيره وكشفه وإضاءته، ويذهب (إدونيس) إلي أبعد من ذلك عند بيان طبيعة (الدرامية) بما يعني التوحد بين الكلمة والشيء، وعلى العلاقة التي تتأسس بين الكاتب والممثل والمشاهد في بؤرة واحدة، وبضرورة الرغبة في خلخلة الراهن وتخطيه فيتجلى الحضور الملح على شرطي المعايشة والمعاناة في صيرورة الفعل المسرحي بمختلف حواس هذه الأجساد.. لذا فإن على المسرح العربي ألا يكتفي بمخاطبة المشاهدين فكريا وإنما يجب أن يخاطبهم حسيا وحركيا عن طريق تجاوز جزئيات الواقع إلى دوامته والفعل المزلزل، ونشوة الجسد، ويري (المؤلف) أن رأي (أدونيس) هذا هو أصداء لحماسة (أرتو) الشاعرية وهواجسه الحالمة بمسرح جديد، ويشير إلى اهتمامه بتواتر حضور مسألة اللغة، وأن فصل الإخراج والميتافيزيقيا في كتابه و»المسرح وقرينه» ترجمة (د. سامية أسعد) عندما ضرب المثال بقراءة لوحة القط وبنات أحد الرسامين القدامي وأن هذه اللوحة هي ما يجب أن يكون عليه المسرح إذا عرف كيف يتكلم اللغة الخاصة به، وأن هناك شعر الحواس كما يقول (أرتو).. لكن (أدونيس) بدت في خطابه اللغة المسيحية مقصورة على لغة الحوار.. لا تكاد تتعداها، وبدا الفاعل الرئيسي إنما هو الكاتب الشاعر لا غير.. رغم أن الغربيين سعوا إلى نقض الموقع الذي احتله النص الأدبي.. بل حتى إلي الاستغناء عنه وإعلان (موت المؤلف) وتنزيل الفرجة منزلة الأساس وجوهر فن المسرح،وأن الكتابة لا تقتصر على العلامات اللسانية بالعودة إلى(فردينان سوسيبر) والتمييز بين اللغة والكلام مُفضلا الكلام على اللغة وحدها، وإنما تتسع لتشمل ضروبا أخرى من العلامات في إطار لغة مركبة مُعتبرا أن فنون الفرجة المنتشرة في الشرق الأقصى نموذجا يجب أن يقتدي به والقائم على لغة مكونة من الحركات وضرورة قلب قوانين المسرح المعتادة، وأن (للإخراج) الدور الأساسي على أساس أنه المبدع الحقيقي باعتباره الممسك باللغة المسرحية.. فليس غريبا إذن أن (أدونيس) قد تأثر بـ (أرتو) في خطابه التأصيلي، ويري (المؤلف) أن الأولوية التي أولاها عند (أدونيس) للنص ترجع إلى عدم درايته بالمسائل التقنية المتعلقة بالإنجاز الفعلي وإلى أن شاغلة هو تقويم الموروث العربي الإسلامي، ولم ينتبه إلى التمييز بين اللغة الأدبية واللغة المسرحية وطبيعة الاختلاف بينهما والتمييز بين مستويات اللغة، وأن اهتمامه يقوم على أن اللغة العربية الحالية تجسد الإتباع وتفرضه، وأن ذلك يمثل صعوبة وعائقا أمام الكاتب المسرحي العربي، ويري المؤلف أن أدونيس قد وجد في نصه التأصيلي فرصة ليدعو من جديد إلى ما دعا إليه، وإلا كيف نفسر تجاهله لممارسة المسرحية ذاتها، وتنزيله مسألة اللغة المسرحية المخصوصة في إطار أعم يمس كنة الإنسان العربي وثقافته.. فيدعوا إلى إعادة النظرية الجذرية في هذا الإنسان العربي وفي تراثه؟ أفلم يخلص في خاتمة تعرضه لمسألة اللغة المسرحية تلك في أنه لا يمكن التوصل إلى لغة مسرحية حديثة دون إعادة نظر جذرية في الموروث.. أي دون إعادة نظر في مفهوم اللغة ومفهوم الكلام دون فهم جديد للإنسان العربي والواقع العربي!!..
وفي خاتمة هذا الكاتب الهام في فصل (مسالك التأصيل – المنطق والآفاق والحدود) يتناول (المؤلف) مظاهر الاختلاف بين أصحاب الخطاب التأصيلي وقد تبلورت في شكل مقاربات للممارسة المسرحية اختلفت تجاه طبيعية النظرة لهذا الفن وأن كل توجه من التوجهات الثلاثة الرئيسية لها تصوراتها للمسالك الموصلة إلى تحقيق المسرح العربي المنشود.. إلا أن ممعن النظر لا يقدم صورا من الالتقاء في نصوص أتباع هذه الاتجاهات.. على ما بين تصوراتهم تلك من تباعد وتباين، ويتبدي الالتقاء في خضوع الخطاب التأصيلي إلى ترسيمه واحدة) هي التجسيد الظاهر للمنطق الخفي الواحد الذي احتكم نصوص هذه الخطابات كلها، على ما بينها من تباين في المنطلقات وتعارض في الرؤى التي أشرنا إليها، ولقد ارتكزت (الترسيمة) على عنصرين اثنين يتمثل (الأول) منهما في العمل على ترجمة التطلعات المعبر عنها في الدعوات التأصيلية إلى مسائل محددة ترتبط بالممارسة العملية، ويتجلي العنصر (الثاني) في حد مقاربة عملية كفيلة بإنجاز تلك المهام، وتعدد الشواغل والمساءلات الناجمة عن طبيعة الجدل القائمة عليه المهمة المحددة لدى أتباع هذا التوجه أو ذاك، وإن المنطق الخفي الذي يجمع بين هذه النصوص لا يخلو من أبعاد سياسية وأيديولوجية والمقارنة بنصوص الخطاب التنظيري الحديثة لرجال المسرح الغربي المعاصرين وبدت المناحي المقترحة لتحقيق تطلعات الخطاب التأصيلي مرتبطة فيما بينها من حيث اختلافها ذاته فالاتجاه للأول بدا مستوحي من التراث الشعبي وأنه قادر على استيعاب مختلف التعابير الفنية عند (توفيق الحكيم) أو في شكل بنية محددة للعرض والفرجة الشعبيين عند (شريف خزندار) ولم يتردد (عبد الكريم برشيد) في إعلانه أن الكلمة هي روح الثقافة العربية، وإن الإنسان العربي يسمع أولا، وأن الأذن هي الأداة الأساسية في التلقي، ويعتمد (خزندار) الأسلوب ذاته مختزلا الشرح على الطريقة المبنية على الطريقة الإيطالية .. بينما بدا عند البعض الآخر التطلع إلى التناغم مع العصر والتفاعل مع سمات التنوع في المسرح الغربي، وإنهم مالوا في نهايات نصوصهم إلى اتصال الممارسة المسرحية العربية القائمة على النموذج الغربي، وطرحهم أسئلة حول حقيقة الهوية ويشير (المؤلف) إلى صور من التداخل بين المقاربات الثلاث المتعارضة وأنها أشبه ما تكون بالمساحات المشتركة التي يصعب الفصل بينها فصلا قاطعا بين تنويعات هذه المقاربات.. رغم التعاون الظاهر، ويشير إلى المنحي الذي اتخذه أتباع التوجه الثاني الذين عزفوا عن بناء النموذج المضاد وعدم اكتراثهم بالتدقيق في الصورة النهائية للنتاج وبذا لم يكونوا مقطوعي الصلة ببحث عدد من أتباع (الاتجاه الأول)، وأن انحيازهم إلى شواغل الجماهير الشعبية والتناغم مع ثقافتها، وحسم التوجه الثاني الأمر عنده قدموا شاغل التاريخية عن شاغل العراقة وفي هذا تجسد تمايزهم الجوهري عن أتباع التوجه الأول الذين كادت مهمتهم غرس هذا الفن في حاضر الجماهير الشعبية العربية حتى تصبح ممارسته نابعة عن حاجة اجتماعية فعلية، وبذا لم يعد البحث عن بناء النموذج المضاد ما يبرره في منطق خطابهم والإقرار بالحركة والتحول لرسم المسلكية المؤدية إلى الإبداع المسرحي المنشود، والتي تتجلي في مبدأ الصيرورة التي يقوم عليها المنحي التاريخي في النظر إلى الظواهر، وأن هذا التوجه قد ميز التاريخية عن شاغل (العراقة) والتركيز على الوظيفة الاجتماعية السياسية لهذا الفن وهم يعلنون انحيازهم الطبقي وتركيزهم على الوظيفة التسييسية للمسرح وإلحاحهم من ناحية أخرى على ربط الممارسة العملية المتفاعلة، وأنه بذلك يحقق امتلاك هذا الفن للاشكال الفنية المناسبة ودون اشتراط مسبق يقضي بتطابقها مع شكل تراثي محدد، وأن المقياس الوحيد للتمييز بين أنواع النتاجات المسرحية غربية أو غير غربية، وهو ما وقف عليه المؤلف في خطاب (فرحان بلبل) التأسيسي بشكل خاص، وكذا لم يخلو خطاب (سعد الله ونوس) من إشارات إلى المسرح ومداه السحري في هذا الفن.. رغم أنهما لا يرتبطان بالضرورة بالانحياز إلى طبقة اجتماعية معينة ولا وظيفة سياسية بما يؤكد سمة (الجدل) في خطابهما.
وعلى أساس الشروط التي انبنت عليها والمساءلات التي ارتبطت بها قام (التوجه الثالث) وتجزرت مقاربة أتباعه في حد مسالك التأصيل الإبداعي والتي بدا فيها تثوير الذهنية العربية واستيعابه للأسس الفلسفية والدلالات الميتافيزيقية التي تقوم عليها أشكال هذا الفن، والمطالبة بنظرة أخرى قائمة على التساؤل والمواجهة والنزاع، وضرورة تثوير اللغة الغالبة، وبناء لغة لا تقوم على البيان وإنما لغة جسدية حية، وبذا التقي أتباع هذه المقاربة مع أتباع المقاربة الأولى في النظر إلى الهوية العربية، وركزوا فعل التأصيل على تثوير هذه الهوية القائمة في نظرهم على ذهنية دينية تسليمية وتقويض أركانها بفضل ممارسة الفن ممارسة أصيلة، وكذا التقى أتباع هذه (المقاربة الثالثة) مع أتباع المقاربة الثانية في الإلحاح على ربط مسعى التأصيل بفعل التغيير إلا أنهم تعارضوا مع هؤلاء في مجالات التغيير وكيفيات تحقيقه فقد بدا لهم أن المنحي (التسييسي) للمسرح منحني متناقضا مع جوهر هذا الفن نافيا له، متأكدا كما يري (المؤلف) من خلال صور الالتقاء والتباعد بين الأسس التي قامت عليها مختلف المقاربات، سمات التداخل والجدل التي ميزت خطاب تأصيل المسرح العربي.. مُشيرا إلى تركيز (المقاربة الثالثة) على شرط توفر الوعي الدرامي لدي ممارسي هذا الفن فهو التجسيد الواضح لأهمية الوقوف على الدواعي البعيدة لممارسة هذا الفن.. إذ هي الوحيدة التي تضفي على الممارسة العربية للمسرح مشروعيتها العميقة، ويلاحظ أن المقاربة الأولى واقعة موقع المقاربة الأصل في حين تبدو المقاربتان الثانية والثالثة ناجمتين عنها ويبدو خطابهما متفاعلين مع خطابها، ويشير أيضا إلى الصلات الوثيقة بين مرتكزات هذه الخطابات وبين أهم التيارات المسرحية الغربية المتمردة أن إمعان النظر في نصوص الخطاب التأصيلي للمسرح العربي أنها على اختلاف توجهات أصحابها.. فيما تلتقي كلها حول رفض عدد من المقولات التي يقوم عليها المسرح الغربي، وهذا يفسر الإجماع في مستوي الخطاب حول عدد من المطلقات في النظر لهذا الفن ولممارسته التي تصب كلها في نقض عدد من الأسس الجمالية والفكرية التي قام عليها هذا المسرح الغربي السائد، وأن ما بدا في إجماع هؤلاء هو إبراز المدى الفرجوي كمدى أساسي في هذا الفن كما أشار (يوسف إدريس) في مقالاته الثلاث،.. وبتناظر التمثيل في نظر (عز الدين المدني) والنحت والتيامن بين المنظور والمسموع والمنطوق، وأن (التمثيل) في نظر (سلمان قطاية) هو الشرط الأساسي والضروري للمسرح فإذا كان الاستغناء عن العناصر الأخرى فليس بالإمكان الاستغناء عن التمثيل، كما يقول (قطاية)، وأن التمثيل يؤكد على الألفة والحميمية التي يجب أن تقيمها بنية العرض والفضاء الذي يتم فيه كما يقول (خزندار)، ويقول (المؤلف) إذا ما أردنا تصنيف أهم المقولات التي تفاعل معها أصحاب الخطاب التأصيلي فقد انحصرت في تيارات مسرحية عربية ثلاثة (أولها) المسرح الشامل، وعدم التقيد بقوانين الكتابة المسرحية الأرسطية، والتياران الآخران هما (تيار المسرح السياسي) الذي يمثله (أرفين بسكاتور) و(برتولد برخت) وتيار (المسرح الخالص) أو التمسرح الذي يمثله (أنتونان أرتو) وأتباعه، وكما رأينا تأثر (ونوس) (ببسكاتور وبريخت) أما (أدونيس) فقد تأثر بـ (أرتو) وأهمية الصلة السحرية الواجب إقامتها مع المتفرج اللذين أقاما خطابهما على ممارسة مسرحية وسياسية محددة.. بينما اكتفي (ونوس) بالبيانات. وأن المقاربات على اختلاف توجهاتها ترزح تحت مقولات المسرح العربي ولا تقوى على تجاوزها، ويقول: إن الانغراس في أرضية ثقافية واجتماعية عربية حية، وفي ربط ممارسة هذا الفن بالداعي العميق إليها والغرض منها يصنع انفتاحا على الموروث الغربي والغربي في ذات الآن، واحتفاءا بالممارسة وخوضا في متطلباتها، ومواجهةَ لمسائلها الفعلية، وفي كل ذلك تحويل لمركز الثقل، في خطاب تأصيل المسرح العربي، من خطاب الهوية العرقية إلى خطاب الهوية نجاعة، ويقرر (المؤلف) في النهاية وفي سطوره الأخيرة التي يعينونها (بمثابة خاتمة) متسائلا أليس ما أشار إليه في هذا الكتاب ما يدفع إلى الإقرار بأن في المسار الذي اتخذه خطاب تأصيل المسرح العربي ما يبشر بتحول هام في النص النقدي والتنظيري للمسرح العربي، وهو سؤال يُطرح الآن وبعد نشر هذا الكتاب الهام عام 1993م أي بعد ثمانية وعشرين عاما لتظل الإجابة عنه غائبة بحثاً عن التجارب الفعلية التي خاضها المسرح العربي وبحثاً عن هوية هذا المسرح، حيث جرت في النهر مياه كثيرة في المسرح الغربي، ومازال المسرح العربي يقاوم مختنقاً التبعية والشعور بالدونية في غياب مناخ الحرية اليومي مع (جمهور) هذه الطبقات، وهو لا يتناول مثلا طبيعة التعامل مع المسرح الغربي باعتبارها مسألة نظرية، وإنما يعالجها من حيث صلتها بصيرورة الممارسة الإبداعية العملية، فيبدو البت فيها بمثابة علامة من العلامات الراسمة للنهج الذي على رجل المسرح أن يسلكه لتحقيق مسرح أصيل ومتطور، ولا ينظر إلى القوالب المسرحية الغربية الجاهزة في تعطيل عملية البحث عن (العلاقة المسرحية) المبنية على تفاعل حقيقي مع الجمهور الذي إليه يتوجه رجال المسرح.. إذا ما كانت هذه القوالب الجاهزة مُسلما بها، وأن معالجة هذا الأمر تمر بمرحلتين تمثلان مستويين في النظر، وأن على الباحث عن مسرح أصيل ومتطور أن يخلص ذهنه قبل كل شيء من كل التصورات الجاهزة المسبقة لممارسة هذا الفن، وينفتح على الممكن من خلال المعايشة اليومية لجمهور الطبقات الكادحة، ويترك جانبا الصيغ الجاهزة لئلا يعود فيسقط في دوامة الحدود النهائية لعدة اتجاهات، ويُجبر على اختيار واحدا منها أو كلها .. دون فهم للأرضية التي سيجرب فيها اختياره، ودون اعتبار لشروطها ومتطلباتها كما عند (إدريس) الذي أشار إلى أن ننسي مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن (أرسطو وشكسبير) وغيرهما ونقاد المسرح الكبار!


عبد الغنى داوود