مسرح المهمشين في الولايات المتحدة ما بعد 1968

مسرح المهمشين في الولايات المتحدة ما بعد 1968

العدد 666 صدر بتاريخ 1يونيو2020

المؤلف: د. حاتم حافظ
الناشر: إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي 2019
إن صياغة مفهوم محدد للأنا يستلزم دائما لا نفي الآخر فحسب بل استيعابه أيضا، بمعنى أن الأنا كمفهوم لا يمكن صياغته فحسب بنفي الآخر وإنما استنادا عليه أيضا، فصياغة الأنا “الغربي” لم تكن فحسب وليدة الاعتقاد بأنه ثمة آخر يجب نفيه وإنما أيضا وليدة التفكير في أن ثمة “شرقي” في مكان ما يجب تعريف الأنا “الغربي” بإزائه وليس بعيدا عنه.
ومن جهة أخرى فإن الخطاب المهيمن يجنح دائما في أثناء تعريفه للأنا إلى تعمد التعريف بألف ولام التعريف، أو بمعنى آخر بالإيحاء دائما بأن الأنا ليست أنا بإزاء آخر وإنما أنا مستوعبة آخر، كالقول مثلا بأن ما حدث في أوروبا أعوام (1918 ــ 1924) حربا عالمية رغم أن الحرب لم تتجاوز حدود القارة، ما يعني أن صياغة مفهوم الحرب العالمية كان يقدم الإنسان الأوروبي باعتباره الإنسان العالمي، أو باعتباره “الإنسان”. كما أن استخدام المفردة “Man” كدال على الرجل والإنسان أيضا في الثقافة الغربية كان يعني تقديم الأنا/المذكر باعتبارها الأنا/العالمي في الخطاب الذكوري للثقافة الأنجلو ساكسونية. وأيضا تعريف العقل في الثقافة الغربية كان يعني العقل بالمفهوم الأوروبي فحسب ومع هذا كان يعتمد في تعريفه على تقديمه باعتباره تعريفا عالميا. وربما لهذا السبب قال هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel (1770 ــ 1831) إن التاريخ ليس مفهوما إنسانيا وإنما هو مفهوم غربي.
ومن ثم فإن ثنائية (الأنا ــ الآخر) تظل هي الثنائية الأهم في صياغة الخطاب المهيمن (وفي صياغة الخطاب المهمش أيضا) لأنه لولاها لما أمكنه صياغة فكرته عن الأنا باعتبارها أنا عالمية. بل إنها تصبح الثنائية الأهم إذا ما فكرنا في أن الحضارة البشرية في مجملها محاولة لتعريف/لتسمية الهوية، محاولة من الإنسان لتعريف هويته بإزاء الأغيار، فثمة كائنات علوية في السماء وكائنات حيوانية في الأرض وبينهما يظل الإنسان يبحث عن هويته باعتباره كائنا ينتمي للسماء بحكم الأساطير وحسب نصوص مقدسة سماوية وينتمي للأرض بحكم الطبيعة والأمر الواقع وبحسب نصوص لدارون وفرويد وماركس.
والسؤال الذي شغل الباحث إذا ما كانت الخطابات المُهيمَن عليها أو الخطابات المهمشة تتخذ نفس الاجراءات التي تتخذها الخطابات المهيمِنة أم لا في تعريفها للأنا، ذلك أن الإجابة بالاثبات يجعل منها خطابات مهمشة تسعى للهيمنة وتسعى مثل الخطابات المهيمنة إلى صياغة مفهومها عن الأنا باعتباره عالميا هي الأخرى، بينما الإجابة بالنفي يعني أن لها آليات بديلة لا لتقديم تعريف للـ “أنا” بإزاء “آخر” وإنما لتقديم تعريف للـ “أنا” بإزاء نفسها، غير مستبعدة الآخر وغير مقصية إياه.
ثم بدأ الباحث يفرد فصول الكتاب بالشكل التالي
• في الفصل الأول الإطار الثقافي الذي تشكلت ضمنه ثنائية الأنا والآخر، فيما أسماه الباحث “حفريات التأسيس” فناقش التباس التسمية التي وسمت مرحلة التأسيس في العالم الجديد، وميتافيزيقيا الاستعمار التي دشنت علاقات القوة بين المركز والهامش، وثنائية التاجر والراهب التي زاوجت بين الأخلاق البروتستانتية وعالم التجارة، ثم القومية الأمريكية المصطنعة بسبب تعدد العرقيات وتراتبيتها اجتماعيا في الوقت نفسه، ثم العولمة وأزمة الهوية وانتفاضة الطلاب في 1968، ثم الأصولية المتبادلة بين المركز والهامش الأمريكي. وهو فصل تأسيسي لمعرفة الإطار الثقافي الذي جعل من الأبيض ـ الأسود والرجل ـ المرأة مسألة إشكالية.
ثم ناقش الباحث خطاب مسرح المهمشين من خلال ثلاثة فضاءات سماهم ميشيل فوكو: المعرفة، السلطة، الأخلاق. ولعلها فضاءات موازية ـ ومعدلة ـ لمشكلات الفلسفة التقليدية: المعرفة، الأخلاق، الجمال. فإن كان فوكو قد استبدل السلطة بالجمال فإن مناقشة الفضاءات الثلاثة جماليا في هذه الدراسة تجعل مشكلة الجمال مشكلة عَرْضية وموزعة على الفضاءات الثلاثة إلى حد كبير.
• في الفصل الثاني وتحت عنوان المعرفة ناقش الباحث النوع والجنس والسياسة باعتبارها الأيديولوجية التي تأسس عليها مسرح المهمشين، والحكاية الأنثوية والحكاية السوداء أو كيف تصنع المرأة والسود حكايتهما عن العالم، ثم ناقش مفاهيم الشخصية والهوية والدور الاجتماعي من خلال قراءة طبيعة الشخصية في مسرح المهشمين، وأخيرا ناقش  قضية التمثيل المعرفي وعلاقات المكان والزمان في هذا المسرح.
• في الفصل الثالث وتحت عنوان السلطة ناقش الباحث طبيعة الصراع الدرامي في ضوء ثنائيتي (الدراما ـ السرد) (التعرف ـ التحول)، وناقش علاقات السلطة والهامش في ضوء ثنائيتي (الذكر ـ الأنثى) (الأبيض ـ الأسود)، وأخيرا الوعي بالموضع الخطابي وتمظهرات الأنا كأنا والأنا كآخر في مسرح المهمشين.
• في الفصل الرابع وتحت عنوان الأخلاق ناقش الباحث الأنا المتعالي وعلاقة الدين بالمهمشين، ثم الأسرة والأسرة البديلة أو الأخوية/ الأختية، وأخيرا العنف وتمظهراته.
اهم نتائج الدراسة
1 - تتجنب مسرحيات المهمشون التلميح الذي كانت مسرحيات البيض البرجوازية تتورط به. و”تمثيلاتها في الصور والقصص تقوم بأي شيء غير أن تكون محايدة”   كما لو كانت ـ أي مسرحيات المهمشون ـ تتعمد أن تكون واضحة بما يكفي. ثمّ تجنُب لمستويات القراءة. صحيح أن قراءة وحيدة غير كافية لأي من المسرحيات لكن صحيح أيضا أن العقل الذي كُتب به مسرح المهمشين لا ينشغل بأن يكون لما يقدمه مستويات متعددة للقراءة قد تعطّل القراءة المتحيزة التي يرغب هذا المسرح في قراءته بها. يقول بول هاريسون في كتابه “المسرح الأسود”
2 - لا يمكن نظريا الفصل بين المسرح النسوي والمسرح الأسود، خصوصا في بلد مثل الولايات المتحدة، ومع هذا ـ ورغم أن كثيرا من الكاتبات النسويات هن مناهضات للتمييز اللوني ـ فإن الكاتبات البيضاوات يمِلن للكتابة بوعي النوع أكثر من أي شيء آخر. ولعل الفارق بين مسرحيتي مارشا نورمان “تصبحين على خير يا أمي” وسوزان سينومان “غرفة قياس الملابس” وبين باقي المسرحيات محل الدراسة دال على ذلك الميل.
3 - تلح مسرحيات المهمشون على تأسيس العالم بين مركز خارجي (خارج الذات النسوية والسوداء) وهامش داخلي. إنها تعترف ببنية العالم الثنائية المفروضة من قِبل السلطة (مركز ـ هامش)، ولكنها تقلب مصدر التهديد. بالنسبة للمركز كل ما هو آخر هو مصدر تهديد لهويته. لكن بالنسبة للهامش كل ما هو مركز هو مصدر تهديد لهوية الهامش. لهذا يؤسس الهامش عالمه مع اعترافه ببنية العالم حسب قصة السلطة على الاحساس بالاغتراب والشتات. الهوية المزدوجة للسود
4 - الحوار عادة ما يكتب على طريقة أوبرا الصابون فالكاتبات لا يتحرجن من إظهار شخصياتهن بطريقة مقفرة كدليل ـ لا على إقفار هذه الشخصيات ـ ولكن كدليل على أن المجتمع لا يسمح لهن بغير ذلك. الحوار مثله مثل الحدث الدرامي لا يؤدي إلى شيء، في الغالب لا نجد غير شخصيات تلتقي لتُفرغ ما لديها من كلام لا يمكن وصفه بالدرامي ثم تنصرف، كالمسافة بين إعلان جيسي قرارها قتل نفسها وقتل نفسها فعلا، مسافة ممتلئة بفراغ التفاصيل اليومية تغيير البياضات، طلاء الأظافر، طريقة عمل الكاكاو، طريقة صنع فطيرة التفاح، النميمة على الآخرين، تنظيم أدوات المائدة.
5 - مسرحيات المهمشين لا تقدم لنا العالم، أي لا تمثله، ولكنها تقدم انحيازها لهذا الجانب من العالم. إن أي من الشخصيات لن يمثل السود، ولا النساء، بقدر ما سوف يمثل السود والنساء في انحيازهم لأنفسهم. بمعنى آخر فإن مسرح المهمشين لن يكون ممثلا للعالم بقدر ما سوف يكون ممثلا لانحيازه لجانبه من العالم. صحيح أن الرؤية التي يعرّف بها الباحث المسرح في هذه الدراسة هي رؤية تدّعي عدم وجود مسرح غير منحاز لكن الصحيح أيضا أن مسرح المهمشين ـ وعلى عكس المسرح السائد ـ لا ينفي عن نفسه الانحياز، فإن كان المسرح السائد يدعي تمثيله للعالم فإن مسرح المهمشين يقدم تمثيله لانحيازه، بل إنه يقدم انحيازه قبل عملية التمثيل نفسها. يقول هاريسون “الفارق ما بين المسرح الأبيض والمسرح الأسود هو فارق بين التمثيلات المعرفية لكل منهما، وهو فارق لا يمكن اختزاله فقط في مجرد اختلاف في النمط أو الشكل. هو فارق بين رؤيتين للعالم. فارق بين رؤية تتسم بالوحدة والتماسك وأخرى تتسم بالإبداع والديالكتيك.
نحن امام كتاب جيد لمؤلف وباحث اكاديمي يعرف مفردات لعبه جيداً.


محمود سعيد