التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (1) زكي طليمات المسئول الأول

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (1) زكي طليمات المسئول الأول

العدد 651 صدر بتاريخ 17فبراير2020

أثناء سفرنا ضمن وفد مصر المشارك في تدشين المسرح الوطني السعودي يوم 28 يناير الماضي، دار بيني وبين الأستاذ الدكتور مدحت الكاشف - عميد المعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون – حوار، علمت منه أن المعهد سيقيم هذا العام أول مؤتمر علمي له، بمناسبة مرور 75 سنة على افتتاح المعهد في العام الدراسي 1944/ 1945. فوعدته بأنني سأكتب مجموعة مقالات تاريخية حول هذه المناسبة .. وعندما شرعت في الكتابة .. تعجبت!!
فأول إعلان عن المعهد تم نشره في مارس 1944، كانت فيه أمور غريبة، منها أن دراستين بالمعهد واحدة نظامية، والأخرى حرة! ورغم ذلك لم أجد ردود أفعال حول هاتين الدراستين!! والأغرب أن الإعلان اشترط حصول طالب الالتحاق على شهادة الدراسة الثانوية أو ما يعادلها، وإعفاء الطالبات من هذا الشرط، على أن تحسن الطالبة الكتابة والقراءة!! ورغم غرابة هذه الشروط وتناقضها، إلا أنني لم أجد أي رد فعل حولها!! بل ونص الإعلان على أن الوزارة ستمنح كل طالبة مكافأة شهرية قدرها أربعة جنيهات!! ورغم غرابة المكافأة إلا أنني أيضاً لم أجد ردود أفعال حولها!! وأخيراً وجدت الإعلان ينص على أن الدراسة ستكون يومية من الساعة الخامسة إلى الثامنة مساء؛ أي إن الدراسة ليلية!! ورغم ذلك لم أجد ردود أفعال حول هذا الموعد الغريب!!
وبالرغم من كل هذا – مع عدم وجود ردود أفعال - بلغ عدد المتقدمين 1280 طالباً وطالبة!! وبعد تصفيتهم، تم قبول 40 طالباً وطالبة؛ منهم على سبيل المثال: نعيمة وصفي، وأمينة الصاوي، وزينب عبد الهادي، وسونيا توفيق، ونادية السبع، وفايزة شكري، وصلاح منصور، وصلاح سرحان، وخليل الرحيمي .. إلخ، وأقيمت بدار الأوبرا الملكية حفلة كبرى بمناسبة افتتاح المعهد، ثم حفلة أخرى بمقر المعهد بمناسبة انتهاء العام الدراسي الأول في يوليو 1945. مما يعني أن المعهد كانت بدايته هادئة ومتوقعة ومقبولة من الجميع!! فلم أجد اعتراضاً على وجود دراستين، ولم أجد أي استهجان لاختلاط الجنسين في الدراسة، ولم يعترض مخلوق على دراسة التمثيل، ولم أجد مقالة حول حرمانية الاختلاط بين الجنسين داخل المعهد، أو حول طبيعة الدراسة وتعليم التمثيل .. إلخ هذه الأمور المتوقعة، والتي تحدث من أي جديد يظهر!!
فكرت كثيراً في تفسير هذه الظاهرة الغريبة، وقررت أن أعود بالزمن إلى عام 1930، عندما تم افتتاح هذا المعهد لأول مرة؛ وتم إغلاقه في أول أعوامه، ثم تحوله إلى قاعة محاضرات في العام الثاني، ثم أغلق نهائياً بعد ذلك، وظلت مصر بلا معهد حتى تم افتتاح المعهد العالي عام 1944. هذه هي خلاصة الموضوع، وهي الخلاصة التي سنجدها منشورة في الكتب والمذكرات، والجميع يعرفها، ولا أظن جديداً يُمكن أن يُضاف عليها!!
هكذا كنت أظن .. وعندما عدت إلى عام 1930، وما قبله، وبدأت أنبش حول المعهد القديم، وجدت جديداً لا نعلمه، مع تفاصيل التفاصيل، التي لا تخطر على بالنا، ولو شرعت في كتابة مجموعة مقالات حول تاريخ المعهد القديم، ستشكل هذه المقالات كتاباً ضخماً لا يقل عن 400 صفحة!! نعم عزيزي القارئ 400 صفحة؛ لأنك ستقرأ فيه تفاصيل التفاصيل حول تاريخ هذا المعهد!! وزيادة في التشويق، أقول لك من الآن: إن هذه المقالات سأنشرها بمناسبتين: الأولى، بمناسبة مرور 90 سنة على أول معهد مسرحي عملي في مصر تم افتتاحه عام 1930! والأخرى، بمناسبة مرور 90 سنة أيضاً على بداية المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي افتتح في العام الدراسي 1944/1945؛ حيث إن المعهد القديم كان بداية للمعهد العالي، وربما نقتنع – في نهاية المقالات - بأن المعهد العالي للفنون المسرحية، هو امتداد لمعهد فن التمثيل القديم!! وأزيدك تشويقاً عزيزي القارئ، وأقول: إن المعهد القديم عام 1930، لم يُغلق، بل كان موجوداً تحت مسميات أخرى، وظل موجوداً ومستمراً لسنوات طويلة، تكاد تكون متصلة، لدرجة أنك لن تشعر بأن المعهد العالي جاء فجأة عام 1944، بل جاء استمراراً للمعهد القديم، وهذا هو التفسير المنطقي لعدم وجود أي رد فعل لافتتاح المعهد العالي عام 1944!!
تمهيد
قبل أن أبدأ حديثي عن “ معهد فن التمثيل”؛ بوصفه أول معهد مسرحي تم افتتاحه بالفعل عام 1930، يجب أن أشير إلى المحاولات الرسمية، التي سبقت افتتاح هذا المعهد. وتفاصيل هذه المحاولات، كتبت عنها مقالة بعنوان “ المعاهد المسرحية الأولى في مصر”، نشرتها في مجلة (المسرح) المصرية في العدد الرابع بتاريخ ديسمبر 2019. فمن يريد الاطلاع على تفاصيل هذه المحاولات، فعليه قراءة المقالة، وألخصها في الفقرة التالية:
في مارس 1872، قام محمد أنسي، بالاشتراك مع لويس فاروجيه بتقديم مشروع بإنشاء مسرح عربي في مصر، تحت اسم “مشروع مسرح قومي”، وقدما المشروع إلى الخديوي إسماعيل. والمشروع عبارة عن تكوين فرقة مسرحية مصرية قومية، مع مدرسة لتعليم التمثيل المسرحي. وبكل أسف لم يتم تنفيذ هذا المشروع. وفي عام 1910 قدم جورج أبيض طلباً إلى الخديوي عباس حلمي الثاني، من أجل إنشاء مدرسة للتمثيل، قال فيه: “ صاحب السمو عباس حلمي الثاني خديوي مصر المعظم: أتشرف بأن أوضح بإجلال شديد لسموكم، أنه من أجل إنشاء مدرسة الدراما المصرية التي أنوي تنفيذها بفضل الرعاية السامية والكريمة جداً لسموكم، أقدم هذا الطلب من أجل تحديد التدابير اللازمة لهذا المشروع ... إلخ”، وللأسف لم ينفذ هذا المشروع أيضاً!! وفي عام 1923، قرر عبد الرحمن رشدي إنشاء معهد تمثيلي، وكتب له لائحة كاملة في عدة صفحات، ورفع هذه اللائحة إلى الملك فؤاد، من أجل إقرارها، والموافقة عليها، وعلى إنشاء هذا المعهد، وللأسف لم يُنفذ هذا المشروع. وفي عام 1924 قدم محمود مراد اقتراحاً للحكومة المصرية بإنشاء المعهد الملكي للفنون التمثيلية، ولم يتم تنفيذ هذا الاقتراح.
بعثة المسئول عن المعهد
في عام 1925، أقامت الحكومة المصرية أول مسابقة للتمثيل، وقررت أن الفائز فيها، سيُرسل في بعثة إلى أوروبا لدراسة المسرح دراسة أكاديمية، ليعود منها ويتولى تطوير المسرح المصري من خلال توليه إدارة أول معهد تمثيلي حكومي رسمي. وكان هذا الفائز هو زكي طليمات!! هذا الأمر يعرفه الجميع؛ ولكن لا أظن أن الجميع يعرف تفاصيل هذه البعثة!! والحمد لله إنني استطعت الاطلاع على وثائق الملف الوظيفي الخاص بزكي طليمات، والمحفوظ حتى الآن في دار المحفوظات العمومية بالقلعة، وكذلك بعض الوثائق المحفوظة حتى الآن بدار الوثائق القومية، ومن خلال هذه الوثائق، أقول:
في إبريل 1925، أرسل السكرتير العام مذكرة رسمية بعنوان (إيفاد حضرة زكي أفندي طليمات في بعثة لتلقي فن التمثيل “الدرامه”)، أرسلها إلى حضرة صاحب المعالي رئيس اللجنة الوزارية الاستشارية لبعثات التعليم المصرية، قال فيها: “أتشرف بإحاطة معاليكم علماً أن الحكومة قد اتجهت نيتها أخيراً إلى تشجيع التمثيل العربي، ومكافأة من يتفوقون فيه من أهل الفن. وقد رأت تحقيقاً لهذه الغاية إجراء مباراة عامة بين أهل الفن بدار الأوبرا الملكية. وكان ضمن المتقدمين لهذه المباراة حضرة زكي أفندي طليمات، الموظف بحدائق الحيوانات التابعة لمصلحة التنظيم، والذي حاز الجائزة الثانية في الدرامه. وحيث إن أنظمة التمثيل في مصر تحتاج إلى الكثير لبلوغ درجة الكمال. ولا يتسنى ذلك إلا بدراسة طريقة التمثيل الحديثة وأنظمته الغربية، فتقترح هذه الوزارة إيفاد حضرة زكي أفندي طليمات في بعثة وزارة المعارف والأشغال إلى فرنسا لتلقي فن التمثيل من نوع الدرامه في معاهدها، وعلى كبار أهل الفن فيها. فالرجاء من معاليكم النظر في هذه المسألة، والتكرم بالإفادة بقرار اللجنة الوزارية الاستشارية لاتخاذ الإجراءات التمهيدية لذلك”.
مرّ ما يقرب من الشهرين، وطليمات في انتظار قرار اللجنة، ومن الواضح أنه بذل مجهوداً كبيراً حتى وصل إلى حسن باشا نشأت رئيس ديوان الملك فؤاد، فكتب له خطاباً في يونية 1925. ولأهمية هذا الخطاب، بما فيه من تفاصيل وحقائق، سأنقله بنصه، لأنه وثيقة تاريخية مهمة، وفيه يقول طليمات: “حضرة صاحب السعادة الدكتور حسن باشا نشأت رئيس الديوان العالي الملكي. احتراماً إلى شخصكم الكريم وبعد، يجرأ رافع هذا إلى سعادتكم زكي طليمات الموظف بمصلحة وقاية الحيوانات، والممثل سابقاً والحائز للجائزة الثانية في (الدرامه) في المبارات التمثيلية التي عقدتها وزارة الأشغال بدار الأوبرا الملكية في مارس 1925. يجرأ أن يكتب إليكم مستلباً برهة من وقتكم الثمين، يحدو به جميل ظن في أريحيتكم وسعة صدركم. يا سيدي الباشا، لا أشرح طويلاً لأن وقتكم غال. أنا ممن عصفت بمستقبلهم المادي وثبة التمثيل العربي الأخيرة، وقد تركت قاعة الدرس بكلية المعلمين العليا إلى خشبة المسرح، متخطياً كل قيد اجتماعي، بل وكل اضطهاد عائلي لنصرة فن جميل، ما برحت أعتقد بجليل أثره في تهذيب الجماعات، وترقيق الشعور، وامتهنت التمثيل مدة عام ونصف عام، اضطررت في نهايتها أن أهجر المسرح على مضض مني ليأسي من عملي. أي إصلاح فيه تتحكم أصحاب الأجواق في شأنه تحكماً يعرفه كل متصل بالمسرح العربي. ثم التحقت بخدمة الحكومة عام 1919، ولي الآن ست سنوات في وظيفتي الكتابية بحديقة الحيوانات أعيش حبيس الشعور والموهبة. وأخيراً اتجهت عناية حكومتنا السنية وعلى رأسها جلالة مليكنا المفدى نحو تشجيع التمثيل العربي، وقررت له إعانة مالية فأحيت في نفس ميت الأماني، وقد تقدمت في المبارات التمثيلية البادية الذكر، ورغم هجري الطويل للمسرح حزت الجائزة الثانية في نوع الدرام. وكانت نتيجة هذا الفوز أن كتبت وزارة الأشغال إلى لجنة البعثات الاستشارية بوزارة المعارف بإرسالي في بعثة إلى باريس للتخصص في دراسة فن التمثيل. يا سيدي الباشا .. سعادتكم أدرى الناس بما يمكن أن تلاقيه هذه البعثة من معارضات في اللجنة، لأنها الأولى في نوعها، ولأن فن التمثيل ما برح ويا للأسف يرمق بازدراء من بعض الناس، سيما أولئك الذين يحملون الطابع القديم من التربية الشرقية. فإذا راقتكم هذه البعثة – الأمر الذي لا أشك فيه مطلقاً لما هو مشهور عنكم بحبكم كل جديد نافع – فإنني ألتمس جاثياً أن تكسبوا مثوبة الله والفن الجميل والوطن المتعطش إلى إحياء نهضة حقة للفنون الجميلة بمساعدتي على تحقيق هذه البعثة، وتسفيري في أقرب وقت إلى باريس حتى أستعد لتمضية امتحان الدخول في الكونسيرفتوار الأهلي. يا سيدي الباشا .. لقد كان من حظ فن التمثيل أن شرفتم حفلة توزيع الجوائز بدار الأوبرا الملكية. وكان لي الشرف العظيم بأن مثلت أمامكم المنظر الثالث من رواية (فيدورا). وقد حمل إليّ صديقي الدكتور محمد عبد السلام الجندي بك ارتياحكم لمشاهدتي في الدور الذي لعبته .. بل لقد حمل إليّ أكثر من ذلك .. حمل إليّ وعداً منكم. يا سيدي الباشا .. ليس من حقي أن أطلب إنجاز الوعود .. غير إني ألفت نظر سعادتكم إني رجل مسجون المواهب، وفي وسع هذا البلد الأمين أن يستفيد من وراء مواهبي إذا أصقلها التهذيب أكثر مما يستنفع من أصابعي التي تنتقل فوق الآلة الكاتبة بحديقة الحيوانات. عفواً يا سيدي الباشا وألف معذرة لاستلابكم كل هذا الوقت في قراءة هذا الخطاب الطويل، وإني أغتنم هذه الفرصة لأقدم إلى شخصكم الكريم أسمى آيات الإعجاب والاحترام”.
مرّت الأيام والأسابيع، ولا يعلم طليمات شيئاً عن مصيره، فقد ظهرت مشكلة أخرى، وهي أن زكي طليمات يتبع - حسب وظيفته بحديقة الحيوان – وزارة الأشغال العمومية، والبعثة التي يريد الالتحاق بها، تتبع وزارة المعارف، فما كان من وكيل وزارة الأشغال إلا أن كتب خطاباً في أغسطس 1925 إلى وكيل وزارة المعارف، قال فيه: “ حضرة صاحب العزة وكيل وزارة المعارف العمومية المساعد، أتشرف بإحاطة عزتكم علماً أنه لما كانت نهضة التمثيل في مصر، تحتاج إلى الكثير لبلوغ درجة الكمال، ولا يتيسر ذلك إلا بدراسة طرق التمثيل الحديثة وأنظمته الغربية، فقد اقترحت هذه الوزارة إيفاد حضرة زكي أفندي طليمات الموظف بمصلحة التنظيم في بعثة إلى فرنسا لتلقي فن التمثيل من نوع الدراسة في معاهدها، وعلى كبار أهل الفن فيها. وحيث إنه لم يصدر للآن قرار نهائي في هذا الموضوع، فالمرجو من عزتكم التكرم بموافاتنا بموافقة اللجنة الوزارية الاستشارية على إيفاد حضرة زكي أفندي طليمات في بعثة لتلقي فن التمثيل. على أنه لا مانع لدى هذه الوزارة من أن يُتبع لوزارة المعارف العمومية إذا ما رغبت ذلك”.
وبناء على ما سبق، نستطيع أن نقول: إن أغلب المشاكل التي كانت تعرقل بعثة طليمات أوشكت على الانتهاء، ولم يبق إلا القرار النهائي للجنة البعثات، التي ستجتمع يوم 14 سبتمبر 1925، لذلك أرسل طليمات تلغرافاً - قبل اجتماع اللجنة بيوم واحد - إلى حسن باشا نشأت رئيس الديوان الملكي، قال فيه: “ستنظر غداً لجنة البعثات في إرسالية التمثيل، فهل لكم أن تكتسبوا مثوبة تشجيع الفن الجميل بتسفير هذه البعثة فلتشمل برعايتكم أيضاً من التمثيل. لقد أنشأ إسماعيل الكبير دار الأوبرا وسيعمرها المليك المفدى بفنانين مصريين”.
وبالفعل وافقت لجنة البعثات على سفر طليمات إلى فرنسا، وحسب الوثائق الموجودة في ملفه الوظيفي، نعلم إنه سافر من ميناء الإسكندرية يوم 3 نوفمبر سنة 1925 على الباخرة (لوتس) التابعة لشركة ماسيجيرى مارتييم إلى فرنسا، وأن راتبه كان 11 جنيهاً!! وفي ليلة السفر يوم الثاني من نوفمبر، ودع طليمات أصحابه وأحبابه في حفلة خاصة، أقامها له أصحابه في صالة سانتي بالأزبكية، وقد أرسلوا تلغرافاً إلى صاحب المعالي كبير الأمناء بديوان جلالة الملك، هذا نصه: “المحتفلون اليوم بصالة (سانتي) بحديقة الأزبكية فريقاً من أنصار الأدب والتمثيل وأرباب الأقلام في مصر لتكريم الأستاذ زكي أفندي طليمات، الذي انتدبته حكومة الملك لدراسة فنون التمثيل بمعاهد أوروبا، يرجون معالي كبير الأمناء أن يرفع إلى جلالة مولانا الملك فؤاد الأول أخلص عبارات ولائنا وشكرنا لجلالته، لشموله التمثيل وفنونه العالية بعنايته الملوكانية وتعضيده. ويبتهلون إليه تعالى أن يديم على الوطن نعمة حكمه السعيد، حتى يراه في المقام العالي اللايق بعظمة الشعب المصري التاريخية، وجلالة ملكه المفدى المحبوب. [توقيع] عن المحتفلين: محمد خالد حسنين، مصطفى رضا، جورج أبيض، عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، إبراهيم رمزي، محمد لطفي جمعة، أحمد رامي، روز اليوسف، دولة قصبجي [دولت أبيض] كاتبه بالنيابة عنهم أحمد حسين”.
وكم كنت أتمنى أن أذكر جهود زكي طليمات المسرحية، وما قدمه إلى مصر أثناء وجوده في البعثة بفرنسا، إلا أنني سأحتفظ بهذه المعلومات لفرصة أخرى، أكتب فيها عن هذه البعثة بصفة خاصة، أو أكتب عن جهود زكي طليمات المسرحية بصفة عامة؛ وذلك حتى لا أخرج عن الموضوع الأساسي الخاص بمعهد فن التمثيل!!
عاد زكي طليمات من بعثته في أكتوبر 1928، بعد أن قضى ثلاث سنوات في دراسة المسرح بفرنسا، وأخبرتنا مجلة المصور في ديسمبر، إنه درس طُرق الإخراج، وما يتعلق بفن الديكور – المعروف بترتيب المناظر – على يد الأستاذ كانار. واندمج في سلك طلاب المدرسة التكنيكية لفنون المسرح، التي يقوم عليها الأستاذ MEDGYES وكذلك فن الإضاءة، وفن الحركة المسرحية. ثم رأى أن يدرس فن التمثيل، فعمل مع المسيو دني دينيس DENIS DENES العضو بمسرح الكوميدي فرانسيز، حيث زوده بمحاضرات قيمة في فن الإلقاء، عمد بعدها إلى الالتحاق بالمعهد الوطنى CONSERVATOIRE NATIONAL بصفته مستمعاً ممتازاً لمدة عامين. وفي إحدى الوثائق الرسمية لوزارة المالية، وجدت مذكرة موقعة من رئيس الوزراء، وموجهة إلى وزارة المالية، تفيد بأن زكي طليمات حصل على ثلاث شهادات من الأساتذة الذين تلقى على يديهم فن الدرامه أثناء بعثته في فرنسا، والتي عاد منها يوم 28 أكتوبر سنة 1928. لذلك تقترح الوزارة ترقيته إلى الدرجة حرف (ب)!!
وكما احتفل أصدقاء طليمات بسفره، احتفلوا أيضاً بعودته في صالة جروبي الجديدة بشارع سليمان باشا، وحضر الاحتفال كل من: أمير الشعراء أحمد شوقي، وإسماعيل شيرين بك، ووحيد الأيوبي، ومصطفى رضا، والدكتور فريد رفاعي، والدكتور عبد السلام الجندي، وإبراهيم رمزي، والشيخ عبد العزيز البشري، وعبد القادر حمزة، وأنطون يزبك، وسامي الشوا، وبديع خيري، والمطرب محمد عبد الوهاب. وفي هذه الحفلة ألقى أمير الشعراء قصيدة، وعزف الشوا لحناً جميلاً، وغنى محمد عبد الوهاب، ناهيك عن الكلمات التي ألقيت في هذا اليوم، وكافة تفاصيل هذا اليوم نشرتها مجلة المصور في ديسمبر 1928.
منذ وصول طليمات، وهو يفكر في إقامة معهد التمثيل!! ففي نوفمبر 1928 – أي بعد أيام من وصوله – نشرت جريدة الأهرام حواراً معه، خصصه للحديث عن إقامة معهد لفن التمثيل، يتم فيه تدريس صناعات المسرح - حتى يتكون الممثل الكفء - مثل تدريس فن الإلقاء لضبط مخارج الأصوات والتنفس وتركيز الصوت، وتلوين الجُمل وإبرازها. كذلك تدريس فن الإشارة والحركة، وتعليم الممثل حمل الأسلحة واستعمالها. هذا بالإضافة إلى تعليم الفن الدرامي من خلال دراسة العصر وتصور الرواية والملابس الخاصة بذلك العصر، وعاداته، وفن تخطيط الوجه (المكياج)، وما يتطلب من دراسة عضلات الوجه ... إلخ
حديث طليمات عن المعهد، وكونه أول مبعوث للحكومة، ومتخصصاً أكاديمياً، أوغر صدور الآخرين، وبالأخص أصحاب الفرق المسرحية العاملة، وأشعل نار الغيرة في نفوس بعض الموظفين والمسئولين، فوضعوا أمام طموحاته العراقيل، وعينوه في وظيفة معاون بدار الأوبرا الملكية، وهي الوظيفية الموصوفة في وثيقة رسمية، بهذا الوصف: “ يقوم حضرته بالأعمال التالية تحت إشراف جناب مدير الأوبرا، وهي: المخزن والملابس والمناظر وسائر الأدوات المسرحية. وعلى العموم ما يتعلق بتجهيز المسرح، وبفن الإخراج، وذلك لمساعدة حضرة منصور أفندي غانم في جميع أعماله، في أوقات العمل الرسمية، أو الحلول محله عند الحاجة”.
ظل طليمات في وظيفة أمين مخازن الأوبرا سنة كاملة، حتى زارت فرقة الكوميدي فرانسيز مصر، وعلى رأسها دني دنيس – أستاذ طليمات أثناء بعثته بفرنسا – وقد أدلى بحديث – نشرته مجلة روز اليوسف في ديسمبر 1929 – أبان فيه عن رأيه في المسرح المصري؛ كونه يعتمد على الترجمة والاقتباس مع تشويه المسرحيات العالمية أثناء نقلها، وأن أغلب الممثلين المصريين يحاولون تقليد الممثلين العالميين، الذين زاروا مصر!! وفي نهاية حديثه، قدم حلولاً للمسرح المصري، قائلاً: “خير الحلول لتدعيم المسرح المصري الناشئ، هو: إيجاد معهد لتعليم فنون التمثيل حتى يضع أساساً معيناً لثقافة الممثل وشحذ استعداده، وإنشاء فرقة أهلية تحت إشراف الحكومة، وإرسال البعثات إلى أوروبا من شباب متعلم لجمع المؤهلات لدراسة فن التمثيل”.
وهذا الحوار، بما فيه من تخطيط للارتقاء بالمسرح المصري، لاقى ترحيباً كبيراً من قبل المسئولين، وتحديداً من لجنة ترقية التمثيل – وطليمات أحد أعضائها – وبدأ التفكير الجدي في تبني فكرة إنشاء معهد التمثيل، لتخريج الممثل المثقف المتخصص، الذي سيشكل الفرقة المسرحية الحكومية، ومن يتفوق فيه، سيتم إرساله في بعثة لدراسة المسرح بصورة متخصصة .. إلخ!! هذا هو التخطيط النظري، أو حلم طليمات في ترقية المسرح المصري .. فهل تحقق هذا الحلم بصورة فعلية؟؟ هذا ما سنبدأ في تتبعه ابتداءً من المقالة التالية في الأسبوع القادم .. فتابعونا!!


سيد علي إسماعيل