التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (12) وزير التقاليد يحول المعهد إلى قاعة محاضرات

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (12) وزير التقاليد يحول المعهد إلى قاعة محاضرات

العدد 662 صدر بتاريخ 4مايو2020

قرأنا في المقالة السابقة، ما كتبته الطالبة زوزو حمدي الحكيم ضد الفنان يوسف وهبي، وكيف أهانته وسخرت منه، أثناء وجود زكي طليمات في أوروبا لتجهيز ما يحتاجه المعهد في عامه الجديد، وتحديداً شراء أدوات تعليم فن الإضاءة للطلاب، والاتفاق مع معلمة لمادة الرقص التوقيعي من فرنسا، بدلاً من السيدة منيرة صبري، التي هاجمها مفتش الأزهر الشيخ محمود أبو العيون!!
في هذا الوقت، حاول البعض التغطية على ما فعلته الطالبة زوزو، وبدأوا في نشر معلومات لامتصاص غضب الناس، في محاولة لإيهامهم بأن المعهد مستمر، وأن الاستعداد للعام الدراسي الجديد يسير على قدم وساق، فأخبرتنا مجلة الصباح - في يونية 1931 – بوجود تعديل في المناهج سيتم مع العام الدراسي الجديد؛ بحيث يقوم الدكتور طه حسين بتدريس الأدب العام والأدب المسرحي، والأستاذ أحمد أمين سيدرس الثقافة العامة، والأستاذ زكي طليمات سيدرس الإلقاء وحرفية المسرح، والأستاذ جورج أبيض للإلقاء أيضاً، والمسيو ماسياس لدروس اللغة الفرنسية، والميجور مكلور لتعليم السلاح. أما معلمة الرقص الفرنسية؛ فسيحضرها زكي طليمات من فرنسا.
هذه المحاولة لم تنجح، بسبب حدوث ما لم يكن في الحُسبان .. فقد تغير وزير المعارف «مراد سيد أحمد باشا»، الذي افتتح المعهد ووافق على وجوده، بوزير آخر هو «محمد حلمي عيسى باشا»، المشهور باسم «وزير التقاليد»!! ومن المحتمل أن الوزير الجديد أعطي الضوء الأخضر للصحف والمجلات لمهاجمة المعهد، حتى يجد مبرراً لإغلاقه فيما بعد؛ وما أكثر مواطن الضعف في المعهد، مثل صدوره بقرار وزاري، وليس بقرار ملكي، مما يعني أن الوزير يستطيع إلغائه بقرار منه!! كذلك اختلاط الجنسين في المعهد، وهو من الأمور التي لا يجوز إقرارها من قبل وزير التقاليد، وإن وافق عليها، فلن يوافق على تعليم البنات الرقص! وإن وافق على الرقص، فلن يوافق على تصرفات طالبات المعهد، كإهانة الطالبة زوزو حمدي الحكيم ليوسف وهبي .. إلخ!
وبناءً على ذلك، قامت جريدة الصاعقة بالمبادرة الأولى، ونشرت مقالة بعنوان «إلغاء معهد التمثيل»، وعزفت فيه على وترين: الأول أن بعض طلاب المعهد نماذج سيئة لما يضمه المعهد من طلاب وطالبات .. في إشارة إلى زوزو حمدي الحكيم دون ذكر اسمها!! والوتر الآخر كان موقف الإسلام من اختلاط الجنسين، ومن تمثيل المرأة! وحول هذين الأمرين قالت الجريدة: “يوم أنشأت الحكومة معهد التمثيل وأنفقت عليه ما أنفقت، كنا غير واثقين من نجاحه! وكنا نحس بأنها تعجلت في عملها قبل الدراسة الوافية للمشروع من جميع نواحيه، وقبل معرفة أخلاق الذين يلتحقون بالدراسة فيه! ولكننا رغم ما داخلنا من الشك، أبى علينا حُبنا للمصلحة العامة أن نظهر تشاؤمنا، فنتهم بمحاربة المشروعات النافعة، فسكتنا على مضض ننتظر نتيجة العام الأول لهذا المعهد، ونترقب ما تجئ به الأيام من الحوادث. لسنا ندري فائدة لهذا المعهد، ولا نترقب من ورائه نجاحاً لفن التمثيل الجميل! كما أننا نستنكف أن تخرج الفتيات المسلمات على تقاليد المسلمين، فتقف على أعين الناس، تتعلم كيف يضمها رجل أجنبي عنها، وكيف يُحسن تقبيلها على أعين النظارة. وهذا بالطبع من مستلزمات الفن الحديث العاري، الذي يبيح التقبيل بأوقح معانيه”.
وانضمت مجلة الصباح إلى حملة الهجوم على المعهد، فنشرت كلمة، قالت فيها: “ على أثر تسلم صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا زمام وزارة المعارف، كان معهد التمثيل في مقدمة المسائل التي اهتم معاليه ببحثها؛ ولكنه لم يصدر قراراً بشأن المعهد بعد. أما أسباب اهتمام معالي حلمي باشا ببحث مسألة معهد التمثيل، فمنها ما أشيع عن سلوك بعض الطالبات وسمعتهن، وأن المعهد بصفته الرسمية المعروفة، لا يمكن أن تسمح الوزارة ببقائه، بينما يضم بين جوانبه طالبات تُقال عنهن الأقاويل، ولا تضمن الحكومة ماذا يكون مصيرهن غداً ما دمن اليوم هكذا. هذه هي النقطة الحساسة أو المشكلة الكبرى في موضوع المعهد. وأرجو من الطالبات أن يغفرن لنا ذنب صراحتنا إذا قلنا إن المعهد إذا أصابه تعديل أو إلغاء، فيجب أن يفهمن إنهن المتسببات لا غيرهن وهن أدرى طبعاً بأنفسهن”.
مرحلة التغيير
بدأت وزارة المعارف، تنفذ تعليمات وزير التقاليد، فأرسلت إلى زكي طليمات في أوروبا، بأن يعود سريعاً، ولا يشتري أية أدوات للإضاءة من أجل الدراسة في المعهد، ولا أن يتفق مع معلمة للرقص التوقيعي من فرنسا، حيث سيتم اختيارها من بين الفرنسيات المقيمات في مصر. كما ألغت الوزارة قراراً، صدر بالفعل بإرسال المتفوقين في السنة الأولى من المعهد إلى أوروبا في بعثة استكشافية!! حتى مقر المعهد الجديد، سحبته الوزارة، وألغت فكرة انتقال المعهد من مقره الحالي، إلى مقر آخر أرحب بجوار المتحف المصري!! وأخيراً خفضت الوزارة ميزانية المعهد إلى الثلث .. هكذا أخبرتنا أغلب الدوريات المصرية الصادرة في يوليو 1931.
وفي الأيام الأولى من شهر أغسطس، سارعت الصحف بنشر قرار وزير التقاليد بإلغاء معهد فن التمثيل، وتحويله إلى قاعة للمحاضرات العامة؛ حيث إن وزارة المعارف – كما أخبرتنا جريدة الرشيد - “ فحصت الشكاوى العديدة، التي تلقتها فيما يختص بهذا المعهد ونظامه، وكلها تشير إلى اعتبار العمل فيه بحالته الحاضرة، مخالفاً للتقاليد والعادات المرعية في البيئة المصرية. لذلك رأت الوزارة من الواجب العمل على تلافي هذه العيوب! وانتهت الوزارة بعد البحث إلى النتيجة الآتية: تغيير نظام المعهد الحاضر، واستبداله بنظام الاستماع، الذي يحقق الغاية نفسها، من غير أن يُجر إلى مساوئها؛ فيستطيع الممثلون الحاليون وغيرهم من أعضاء النوادي الفنية، الاختلاف إليه والاستفادة من دروسه، بعد جعله قاعة للمحاضرات في الفنون المسرحية، وهي: تاريخ الأدب المسرحي، الإلقاء وحرفية المسرح، اللغة العربية. ويُلغى تعليم الألعاب الرياضية، والرقص التوقيعي، وحمل السلاح وغيرها من المواد التي أثارت انتقاد الجمهور. وستُعقد للمستمعين في نهاية كل عام مباراة عامة، يمنح الناجح فيها جائزة تكون بمثابة شهادة له بتفوقه في الفن المسرحي”.
الوزير يشرح موقفه
إلغاء المعهد، وتحويله إلى قاعة محاضرات عامة، أحدث انقساماً كبيراً في الرأي العام؛ لذلك حاول الوزير تلطيف الأجواء، من خلال حوار معه – نشرته عدة صحف – في أغسطس 1931، وبدأ الوزير يبرر قراراته بأنه عندما تولى الوزارة، تلقى شكاوى كثيرة بخصوص سلوك بعض طلبة المعهد وطالباته. فاهتم شخصياً بها، وعاد إلى أصل فكرة إنشاء المعهد؛ حيث إن فكرة إنشائه، كانت وسيلة ضمن وسائل عديدة للنهوض بفن التمثيل في مصر! إذن الإساس هو النهوض بالتمثيل من خلال عدة وسائل، كان المعهد وسيلة واحدة منها!! وطالما نستطيع أن نحقق بقية الوسائل، مع تغيير في وسيلة المعهد، إذن نستطيع أن نحقق النهضة المطلوبة، دون الاعتماد على معهد فن التمثيل بصورته القديمة، والاستعاضة عنه بقاعة محاضرات عامة!! كما أكد الوزير على اهتمامه بالوسائل الأخرى لنهضة التمثيل – وهي الوسائل المذكورة في قرار لجنة ترقية التمثيل، التي اقترحت إنشاء المعهد منذ البداية – وهي تشجيع المؤلفين والمترجمين القديرين في مجال المسرح، وإرسال البعثات المسرحية إلى الخارج، ومكافأة المتفوقين من الممثلين والممثلات.
هذا التبرير لم يكن مقنعاً لعموم المهتمين بالموضوع، لذلك توسع الوزير في شرح الأمر، وأبان أن الغرض من تحويل المعهد إلى قاعة للمحاضرات، هو المنفعة العامة، من أجل أن يستفيد من المحاضرات - التي ستُلقى في القاعة – الممثلون العاملون في الفرق المسرحية، والهواة وكل فرد عنده استعداد للاستفادة، بجانب طلاب المعهد وطالباته! وعندما أراد الوزير أن يقلل من شأن الدراسة المنتظمة لفن التمثيل في المعهد، جاء بتبرير غريب، قال فيه: “إن النبوغ في التمثيل، لا يأتي عن طريق الدراسة المنتظمة وحدها. وليس شأن التمثيل شأن غيره من مهن الطب والمحاماة، فنحن الآن لا نجد طبيباً نطمئن إليه إلا إذا كان قد تلقى دراسة في كلية الطب، وحصل على درجتها. فليس التمثيل علماً يُكسب، بل هو موهبة! وأمامنا الآن نبوغ ظاهر مثل الآنسة أم كلثوم والمطرب محمد أفندي عبد الوهاب وغيرهما. لا يمكن أن يقول أحد إن نبوغهم كان نتيجة دراسة منتظمة”.
كلام الوزير فتح شهية الصحافة لأن تمطره بوابل من الأسئلة المحرجة، فكانت إجاباته صادمة لهم، ومنها على سبيل المثال: سؤال، لماذا لم تنتظر الوزارة انتهاء الثلاث سنوات المقررة للدراسة في المعهد، ومن ثم يأتي تقييم الوزارة للتجربة بعد تخريج أولى دفعاته؟ فأجاب الوزير بأن الوزارة لن تتحمل مسئولية نتائج سلوك طلبة المعهد وطالباته طوال السنتين المتبقيتين! والسؤال الآخر، يقول: ما رأيك فيما يقال بإن التمثيل يحتاج إلى نوع من الحرية، أكثر من أية مهنة أخرى، نظراً لطبيعة عمل الممثلين؟ فأجاب الوزير قائلاً: “فليكن هذا خارجاً عن الحكومة؛ ولكن لا أن الحكومة تخالف التقاليد القومية، والآداب الإسلامية، وأن تعد الحكومة بإشرافها ومالها لهذه الحرية”. والسؤال الثالث، يقول: لماذا ألغت الوزارة الرقص التوقيعي” فأجاب الوزير قائلاً: “إذا كان الرقص لازماً في التمثيل فليتعلمه من يشاء في أماكنه، وعلى نفقته، لا في دور الحكومة وعلى نفقتها”.
حملة للأقلام المتشددة
إلغاء معهد التمثيل، وتحويله إلى قاعة محاضرات، أثلج صدور بعض المتشددين، فبدأوا حملة لا مثيل لها في تاريخ التشدد في مصر ضد أي فن من الفنون؛ حيث نشر أمين إبراهيم الأزهري مقالة في جريدة «الدفاع الوطني»، نقتبس منها هذه العبارات، حيث قال: “ كنا أول من أهاب بوزارة المعارف أن تنشئ معهداً للتمثيل، تقبل فيه طالبات مصريات تعلمهن ذلك النوع من الرقص التوقيعي، وتلك الألعاب الرياضية وحمل السلاح. وقلنا إن وزارة المعارف المسيطرة على التعليم والتربية وصيانة الأخلاق، لا يصح أن تتجاوز بمثل هذا المعهد تقاليد البلاد الإسلامية، والمحافظة على الروح الدينية. وقد عززنا أقوالنا بكثير من الحجج. ومن أخص ما ذكرناه إن مسألة المسرح في عرفنا لا تزال غاية شهوانية. وأن في بيوت التمثيل ما لا يسع أدب المتأدبين، ولا احتشام المحتشمين. إذ كثيراً ما يتحكم بالمسارح أرباب الأهواء والغوايات الدنيئة. إن الذين أسند إليهم تدريس طلبة هذا المعهد هم الممثلون والممثلات عندنا، ونحن على علم من مسارحنا الحالية، ولا نزال نرى فيها ومنها ما يخالف ديننا مقصوداً وغير مقصود. ونقول غير مقصود في حق أناس ربما يذهبون إلى تلك المسارح بنسائهم وبناتهم للتسلية مع حسن قصد، ولكن بمجرد جلوسهم تتوجه إليهم الأنظار، وقد منعت الشريعة الغراء ذلك صريحاً قال تعالى: “قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم”. لقد كنا في عجب ودهش، حين أعلنت وزارة المعارف أسماء الناجحات، وفخرت بإقبال الآنسات على هذا الفن ولا سيما اللائي تتعلمن الرقص التوقيعي. وخشينا أن تتمادى هذه الوزارة في الترغيب، فيطمع الذين في قلوبهم مرض، ويدخلون في فن التمثيل أفواجاً، فتنصرف البيئة المصرية من الدين إلى اللهو واللعب، الذي يتحكم به كما قلنا أرباب الغايات السافلة والشهوات الدنيئة. إلا أن وزارة المعارف الحالية كانت عند حسن ظننا فألغته”.
كانت هذه أولى مقالات الأزهري المنشورة في جريدة «الدفاع الوطني»، راعية الحملة المتشددة المؤيدة لإلغاء المعهد؛ حيث نشرت الجريدة المقالة الثانية للأزهري، تحت عنوان عام «حول إلغاء معهد التمثيل»، وعنوان خاص «الملحدون ينفثون سمومهم فاحذروهم». وفيها هاجم الأزهري محاولات البعض لإلغاء قرار الوزير، وإعادة المعهد مرة أخرى!! وبعد عدة أيام نشرت الجريدة مقالة ثالثة موقعة باسم «مسرحي»، تحت عنوان «وأيضاً الشيخ زكي مبارك»، هاجم فيها المسرحي زكي مبارك، لأن الأخير ناصر المعهد ورفض إلغاءه!! فقام المسرحي بالسخرية من زكي مبارك، وعيّره بأنه كان فلاحاً أزهرياً، فأصبح هيولياً - أي لا صفة له ولا صورة - لأنه سافر في بعثة إلى فرنسا!! ونقتبس من هذه المقالة، هذه العبارات:
“اليوم يجئ إلينا شيخ الأمس زكي مبارك، وأفندي اليوم زكي مبارك، وهو هو هيولي لم تتغير سحنتها، وإن تغيرت طباعها وتقاليدها. هذه الهيولي كانت مصرية أزهرية بالأمس القريب، والقريب جداً، فأصبحت اليوم متفرنسة، لا يروق لها إلا الخروج على تقاليد البيئة وقواعد دين الأمة الرسمي، بقيام معهد التمثيل بين ظهرانيها، ليشبع طلاب وطالبات المعهد التمثيلي عواطفهم، على الطريقة الباريسية، وهي طريقة الشيخ مبارك ابن الأزهر وسليل عنصر الفلاحين. ولم هذا؟ لأن الشيخ زكي مبارك، سمحت له الظروف السيئة بالذهاب إلى باريس، والتمتع بمظاهر الخلاعة فيها، ومناظر خشبة المسرح الآدمية، فعاد إلى مصر يرطن بالفرنسية وهو لم يمكنه أن يحسن لغته العربية، فأنحى على إلغاء معهد التمثيل ووزير الإسلام وزير التقاليد معالي حلمي عيسى باشا. لقد كنا نحسن الظن بالشيخ زكي مبارك لو أنه تمسك بشيء من اللياقة .. بصفته فيه شيء قديم من معنى الثقافة الأزهرية .. وإن كان معهد التمثيل كما يشهد الأستاذ الشيخ زكي مبارك بأن فيه إشباعاً للعواطف من المناظر المسرحية، فلا كان هذا المعهد، ولا كانت فكرته، مادام الغرض من إنشائه استئصال التقاليد والسفور من حجاب الفضيلة، تجتمع الفنيات هناك وحولهن الفتيان (على عينك يا تاجر) وعلى عين الشيخ زكي مبارك المتفرنس، الذي أصبح فرنسياً أكثر من الفرنسيين، باريسياً أكثر من الباريسيين. لا حول ولا قوة إلا بالله، تغير الشيخ زكي مبارك فخلناه أوروبياً بعدما خلناه مصرياً، واعتقدناه إباحياً، بعد ما اعتقدناه أزهرياً متديناً، ولا يدوم على حالة واحدة إلا الله، فسبحان مقلب الأحوال”.
لم تتوقف جريدة «الدفاع الوطني» عند هذا الحد، بل واصلت حملتها ضد كل المدافعين عن المعهد، والرافضين لإلغائه، فنشرت في أغسطس وسبتمبر 1931، أكثر من عشر مقالات - من يجمعها، يستطيع أن يكتب بحثاً كبيراً عما فيها من أساليب الحجاج من قبل بعض المتشددين، ضد المسرح والتمثيل والمعهد - وهذه بعض عناوينها: بكاء الماديين الأليم حول إلغاء معهد التمثيل، وتهويش الماديين وتلبيسهم حول الذكر الحكيم، وقتل الماديين الخراصون ما أضلهم عن الحق، وهل هذا مسلم، وحتام يبكي الماديون على معهد التمثيل؟، وغنم الماديين من محاربة الدين الإسلامي .. إلخ!! وأطرف مقالة وجدتها وسط هذه المقالات، كان عنوانها «الماديون يحتجون علينا برأي الحاخام في التمثيل والرقص التوقيعي»!!
إذا كانت جريدة «الدفاع الوطني»، تبنت حملة الكتابات المتشددة ضد من يعارض قرار إلغاء المعهد، فهناك صحف أخرى كتبت في هذه الحملة وبالأسلوب المتشدد أيضاً، مثل جريدة «المساء» التي نشرت مقالتين – في أغسطس 1931 – الأولى عنوانها «المرأة لم تُخلق للرقص والتمثيل وإنما خُلقت لتكون مربية الشعب»، وفيها استخدم الكاتب أدلة كثيرة من الآيات القرآنية – وبالأخص سورة النور – تتوافق مع عنوان المقالة، للدلالة على أن غلق المعهد، كان أمراً محموداً دينياً. أما المقالة الأخرى، فكانت بعنوان «ليست وظيفة المرأة الرقص والتمثيل وإنما هي لتربية الشعب»، وفيها استكمل الكاتب فكرته السابقة، مع ذكر الآيات القرآنية الدالة على ما يقول.
هذه الحملة المتشددة، عارضها كثيرون – من السهل قراءة ما كتبوه بصحف ومجلات هذه الفترة – ولكنني سأتوقف عند معارضين اثنين، لا أعرف اسمهما!! الأول نشر مقالة كبيرة – بدون توقيع - في مجلة الصرخة، رداً على الكتابات المتشددة - باسم الأخلاق والدين – اختتمها بهذا السؤال: “هل من الأخلاق والدين في بلد كمصر دينه الرسمي الإسلام، أن تبيح الحكومة رسمياً (الدعارة)! وأن يكون بين موظفيها من لا عمل له سوى الترخيص بمزاولة هذه الرذيلة البائسة؟ وهل من الأخلاق والدين في بلد كمصر دينه الرسمي الإسلام، أن تتناول الحكومة أجراً على الترخيص بالدعارة، وأن يدخل هذا الأجر خزانتها، ومن هذه الخزانة تصرف المرتبات للموظف الكبير والصغير، ولعلماء الدين؟ ما أكثر الذين يتحدثون في مصر عن الأخلاق، وما أفقر نصيب مصر في الأخلاق .. أيتها الأخلاق، كم نقاسي من النفاق باسمك ومن أجلك!”.
أما المعترض الآخر، فكتب ثلاث مقالات، نشرتها جريدة «كوكب الشرق»، ووقع عليها بعبارة «طالب بمعهد التمثيل» - دون ذكر اسمه - منشورة تحت عنوان عام «بعد إلغاء معهد التمثيل»، أما العنوان الخاص للمقالة الأولى فكان «الفوضى الفنية في مصر»، وعنوان الثانية «فوضى التمثيل والإخراج .. آمال معهد التمثيل»، وعنوان الأخيرة «إلى اللقاء أيها المعهد المحبوب»، والعنوان الأخير كان آخر عبارة كتبها الطالب في ختام المقالة الثالثة؛ حيث كتبها مؤمناً بأن المعهد سيُعاد افتتاحه مرة أخرى، وكان أسلوبه مؤثراً جداً، وأجدني مضطر إلى ذكرها، حيث قال فيها: “.. وبعد، فيا معهد التمثيل! لئن اغتصبت منك (التقاليد) سنة من سني حياتك، ولئن عاكسك القدر، وأنت في مهدك. فما ذلك إلا لكي تعود أصلب عوداً وأقوى من أن تقهرك التقاليد مرة أخرى. ولئن غاب اسمك فإن صميم معناك بات يصرخ بين سطور النهضة يريد أن يقفز إلى الوجود فالنهضة المصرية الحديثة غير حقيقة بأن تسمي نهضة إذا لم تهزأ في وقت قصير بأولئك الذين يحاولون صد تيارها وحجب سناها وإذا لم تسخرهم جميعاً لخدمتها والعمل لنشرها. وإلى اللقاء أيها المعهد المحبوب”.


سيد علي إسماعيل