التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (3) كازينو سان أستفانو

التاريخ المجهول لمسارح روض الفرج (3) كازينو سان أستفانو

العدد 794 صدر بتاريخ 14نوفمبر2022

رغم الهجوم المقبول نوعاً ما – رغم شرسته وابتذاله – من مندوب جريدة الشباب تجاه فرقة «يوسف عز الدين» الذي عرضناه في المقالة السابقة، إلا أن الفرقة استمرت وتألقت في صيف عام 1926! بفضل ظهور الناقد «محمود طاهر العربي»، وهو الناقد الفني لجريدة «ألف صنف وصنف»، والذي كتب سلسلة مقالات عن كازينو سان أستفانو، الذي يعمل عليه يوسف عز الدين وفرقته في روض الفرج، بالرغم من أن الناقد هاجم الفرقة في مقالاته!! والناقد محمود الطاهر العربي أعدّه الناقد الأول والأهم في تاريخ مسارح روض الفرج، مع تحفظي على كلمة «ناقد» التي أذكرها مضطراً - من باب التاريخ - كما سنرى من كتاباته وأسلوبه في بقية المقالات!!
بدأ الناقد مقالاته في مايو 1926 بوصف روض الفرج بالجسم المريض الذي يحتاج إلى العلاج، ويدعو القارئ لأن يرافقه في رحلة إلى روض الفرج ليتعرف بنفسه على أحواله! وبدأ يصف الرحلة منذ أن استقل الترام واصفاً زحام عرباته الشديد – وتحديداً يومي الأحد والخميس من كل أسبوع – وكم هاله عدد الركاب الكبير القاصدين روض الفرج وهم غافلون عن الخطر الذي ينتظرهم! ثم يقول: «وما كادت أقدامنا تطأ الأرض حتى هاجمتنا جيوش من الناموس تحلق فوق رؤوسنا وتنهال على وجوهنا كأنما هي تقول لنا أرجعوا من حيث جئتم، أو كأنما الله تعالى جعل من الناموس جنودا «ولا يعلم جنود ربك إلا هو» ... وها هم موزعو الإعلانات ينادون: «يوسف أفندي عز الدين مجاناً .. الست فاطمة قدري بلبلة مصر والدخول مجاناً .. هنا في كازينو سان أستيفانو»! وآخر ينادي: «عبد اللطيف أفندي جمجوم .. الممثل الكشكشاوي العظيم .. الست شفيقة المصرية .. ما فيش تذاكر .. الدخول مجاناً» .. إلخ.
وبعد اجتياز هذا الصخب دخلنا أول محل وجدناه وهو «كازينو سان أستفانو» «لصاحبه الخواجة «خريستو» .. نعم أنه خريستو، وهل تنتظر أن يكون غير الخواجة خريستو أو كاستوبولو أو ما شابه ذلك من أسماء الأروام! الخواجة خريستو هو صاحب هذا الكازينو، وهو يعرف جيداً كيف يستدر المال ومن أين تؤكل الكتف! وبطبيعة الحال لا يهمه بعد ذلك: أداب عامة .. أخلاق .. شرف .. فهذه المسميات لا تسمن ولا تغني، إنما يعنيه شيء واحد هو إيراد المحل!! ومدير الجوق «يوسف أفندي عز الدين» قائم بعمله الفني على خشبة المرسح، وسواء أحسن أم أساء فلا يهم! أما مدير المحل الرومي فقائم بعمله من وجهة أخرى، ومن هنا تعترض العقبات رجال البوليس أثناء القيام بواجبهم من تطهير هذه البؤر من أدرانها. نعلم أن مأمور قسم شبرا إداري نشط وجاد في عمله على إصلاح حال هذه المحال. وبالفعل قد خطى خطوات في هذا السبيل لا بأس بها. ولكنه من وجهة نظر أخرى قد يلتمس له العذر إذا لم تنتج مجهوداته الثمرة المرجوة! فإن هناك أمام قوته الموجبة قوى أخرى سالبة تنتقص من مجهوداته! فهناك مديرو هذه المحال الأروام يعملون بكل ما أوتو من قوه وسعة حيلة لكسب المال واستثمار هذه الفرص السانحة من خمر ونساء ولهو وغناء وكما يُقال «ساعة الحظ ما تتعوضش»! لذلك نجد مدير المحل يشرف على النظام العام ويُسير دفة الأمور حسب الهوى، وهو في موقعه هذا قائد! يرحب بالزائرات، ويحني الرأس للزائرين، ثم يهمس ويلمس هنا، ويبتسم ويعبس هناك. أما الجارسونات - جنوده البواسل - فتراهم بين الجمهور لا تفوتهم شاردة ولا تفلت منهم واردة، جزاهم الله شر ما كسبوا أنهم نذر سوء، لا كما يدعون أنفسهم واسطة خير!
بعد هذه البداية المشوقة من الوصف الخارجي والعام للكازينو، بدأ الناقد يصف الكازينو من الداخل وبدأ كلامه ساخراً من اسم «سان أستفانو»، قائلاً: هكذا يدعونه، ولست أدري سر هذه التسمية التي لا تنطبق على المُسمى! فكلمة سان معناها «قديس» ولا معنى لذكر القداسة والقديسين في هذا المكان، لأنه كازينو يعمل به يوسف عز الجين و«فاطمة قدري»! وهو مكان متسع الأرجاء طلق الهواء يُحده شمالاً كازينو ليلاس، وجنوباً محل أكل عيش وطبيخ، وشرقاً فضاء غير مأهول، وغرباً الشارع العمومي حيث يقف رجل البوليس لافعاً بندقيته على قفاه وفاغر فاه، يتسمع الأغاني ويردد بين شفتيه آه .. الله! وهذا الكازينو هو أكبر محلات روض الفرج طولاً وعرضاً، وأشدها ازدحاماً بالزوار. وليس الفضل في ذلك إلى خفة روح يوسف عز الدين مثلاً، ولا إلى رقي التمثيل هناك! فهذه مميزات - إذا وجدت - لا يكون لها الأثر الفعال في نفوس الناس! وإنما يرجع الفضل إلى الآنسة «فاطمة قدري» وخفة روحها وتثنيها على المسرح في غنج ودلال!! ولا أجسر أن أقول رخامة صوتها وحده! فلو كان الأمر كذلك لكان غيرها أشطر! ولكنها - كما قلت - تجتذب القلوب وتستلب العقول بقدر ما تنبذ الحياء والشرف. وهناك غير ذلك خلوات يأوي إليها عدد غير قليل من رواد الهوى الذين لا يطيب لهم السمر والمنادمة إلا في الظلام، بعيداً عن الضوضاء وأعين الرقباء، يقضي لهم حاجتهم البروفسور «عم أحمد»! وهو رجل شاب قرناه في خدمة الإنسانية! فلهذه الأسباب أقبل الناس على كازينو سان أستيفانو!
وأخيراً قرر الناقد أن يتحدث عن الكازينو بصورة فنية، فقال: ولنبدأ الآن حديثنا عن روض الفرج من الوجهة الفنية: «كازينو سان أستيفانو» .. يقوم بالتمثيل فيه يوسف عز الدين، وهو ممثل كوميدي له جمهور يستخف ظله. يميل إلى تمثيل «كشكش بك» ويقلد فيها الأستاذ النابغة «نجيب الريحاني». والثانية تمثل شخصية «زقزوق» بطلها الممثل المعروف «محمد بهجت» وقد شاهدت تمثيله في كلتيهما. وقد راقني في زقزوق عنه في كشكش بك. وهو رجل محب للنظام جد في عمله يلاقي في روض الفرج بعضاً من النجاح لاعتبارات شتى، قد يكون أهمها وجود مثل الآنسة فاطمة قدرى. أما السيدة «فايقة عز الدين» فهي زوجة الأستاذ يوسف عز الدين، وهي الممثلة الأولى بالفرقة، لا تقوم إلا بأدوار «البريمادونا» وهي رشيقة خفيفة تجتهد كثيراً أن تملأ مركزها كممثلة أولى، وهي أيضاً تغني بصوت لا بأس به. أما الآنسة «فاطمة قدري» فليس هناك من ينكر أنها أكثر ممثلاتنا المغنيات خفة دم على المسرح، ورشاقة ورقة وحركات أثناء غنائها أو تمثيلها، فهي نجمة كازينو سان أستفانو الساطعة. أما إذا أنصفنا هذه الآنسة من الوجهة العملية، فنقول إنها بطلة العمل وتجهد نفسها إجهاداً يعجز عنه أشد الرجال! فقد كانت تعمل في روض الفرج إلى ما بعد العاشرة مساء، ثم تقوم إلى كازينو سميراميس فتعمل هناك إلى ما بعد منتصف الليل بساعتين! ولقد شاهدتها مع ذلك في صباح يوم شم النسيم تعمل من السابعة صباحاً في روض الفرج! فقلت لها أرفقي بنفسك فأجابتني بابتسامة عظيمة قائلة: الفلوس!! الفلوس!! وها هي تعمل الآن بعد نهايتها من روض الفرج في «البيجو بلاس» بشارع عماد الدين! أما الآنسة «شمس قدري» فهي شقيقة فاطمة قدري، ولنسلم جدلاً بأنها أيضاً مطربة ولكن لا تتسامى إلى مكانة أختها فاطمة! على أنها أيضاً وأيضاً جداً ممثلة تُعطى لها أدوار فتمثلها وهي تحاول بكل جهودها أن تمثل أختها في حركاتها وإشاراتها وهي فتاة ساذجة مغرورة بنفسها كثيراً تتصنع الظرف والكياسة وتبالغ في دهان وجهها وتكحيل عينيها. أما الآنسة «حكمت» ولقبها لا أعرفه ولكني أسمع بعضهم يقول لها حكمت عثمان أو حكمت المنشاوي، ولا أدرى نصيب ذلك من الصحة. وهي فتاة على شيء من الجمال، لها في خدها خال لم أميزه جيداً فقد يكون مصطنعاً، متهتكة كثيراً، مبتذلة في حركاتها لدرجة فاحشة. قد يكون نكبة على التمثيل أن يدعونها ممثلة إلا أن يكون على سبيل المجاز. على أن كثيرين من المعجبين يصفقون لها ويهللون. حركاتها وأخلاقها لا تليق بمركز آنسة. أعرف لها على حداثة سنها حكايات كثيرة وقصص وحوادث قد يكون فيها تفكهة للقراء. وأنى أنصح لها أن تقوّم معوجها وأن تجتهد أن تكون ممثلة أكثر منها امرأة. وعلى سكرتيرتها الخاصة المدعوة أمينة، أن تتحرى بها طرق الاستقامة والشرف! أما «توفيق صادق» فهو ممثل قدير كان يعمل مع نجيب الريحاني ثم في مسرح رمسيس، ويشتغل الآن في كازينو سان أستفانو، وهو يجيد في الكوميدي والدرام .. حسن الخلق ولو أنهم يدعونه بالحُمى. أما «أحمد فريد» فهو مدير المسرح وممثل أيضاً وهو شاب مجد يحسن كل شخصية يمثلها في فرقته خصوصاً شخصيتي الرجل العجوز أو البلدي الساذج. و«أحمد جاهين» اختصاصي في تمثيل دور الفقهاء والضررين. و«مختار» من كبار هذه الفرقة ويُحسن أدوار التركي والشامي والعجمي والرومي. و«ممدوح» يحسن شخصية الرجل الفلاح. و«محمد الصغير» هو مطرب هذه الفرقة - أو كما تقول الإعلانات عنه - بلبلها الغريد! وهو شاب صغير يغني في هذا المسرح من سنين مضت، وينال استحسان الجمهور في أناشيده الوطنية. ولو درّب نفسه على التمثيل أيضاً لكان خيراً لمستقبله. و«سنية الصغير» ممثلة وملحنة وراقصة أيضاً، تجيد الرقص الشرقي، وهي أنيقة في ملبسها، لا تحسن التمثيل بقدر إحسانها الرقص. و«منيرة حسنى» ممثلة وملحنة تجيد أدوار الحماوات وأم أحمد والحاجة بمبة، ولو أنها خليعة على المسرح مبتذلة في حركاتها. أما «الأوركسترا» برئاسة «محمد الدبس» وهو خير من يعزفون على البيانو، وله طقاطيق ومونولوجات نالت استحساناً وثناء. وكذلك أفراد الأوركسترا جميعهم لا بأس بهم. أما «المناظر» فمتهدمة ورثة وقديمة لا تصلح لفرقة مثل فرقة يوسف عز الدين. و«الملابس» حسنة ومقبولة، وهي بجمالها تزيد المسرح فخامة.
أما ناقد مجلة الشباب المعروف بمندوب الشباب في شبرا، فكتب نقداً عن تمثيل الفرقة لمسرحية «أنت وبختك»، وكان النقد – بسيطاً تهكمياً في أسلوبه وأوصافه – مناسباً لأجواء روض الفرج، ومن ذلك قوله: قام يوسف عز الدين بدور ناظر الزراعة خير قيام، وكان دائماً يتكلم مع الممثلين بطريقة ظاهرة عن ملاحظته عنهم أثناء وجوده على خشبة المسرح، وأنصحه ألا يجاري متهكماً من المتفرجين في «النكتة» لأنها باب لا يُغلق، وتدعو في بعض الأحيان إلى ضياع فرص كثيرة وإحداث تهريج مستمر. أما «عباس الدالي» في دور بهنسي المزيف، فكان هادئاً كعادته. و«أحمد فريد» مثل دور قرطم بك، وأجاد في إلقائه إلا أنه في لحن الفصل الثاني خالف الملحنين والأوركسترا في ربط النغمة فأرتفع هو عنهم بنسبة «الرُبع» حتى أن «الدويني» غضب وخلع الياقة في وسط المسرح. و«محمد الصغير» مثل دور الضابط بهنسي فغنى مقطوعاته بمهارة غير أنه ارتبك في حركات التمثيل وطريقة الإلقاء. أما «فاطمة قدري» فقامت بجميع أدوارها في الرواية باعتناء تمثيلاً ومغنى، وكان «لازم تترقص حتى في البدلة، وتضحك الضحكة إياها»!! فلاحظ خروجها عن حد اللياقة يوسف أفندي عز الدين فهمس في أذنها «...» وكنت على مقربة منهما وقد لمحاني. أما «منيرة حسني» فمثلت دور الشاويش وقد انتقت لها بنطلوناً ضيقاً «رجلها أتخن منه، وبالمصادفة كانت الجاكتة رخرة قصيرة» فلم نتمالك أنفسنا من الضحك. وعلى العموم أتقنت دورها على قدر استطاعتها وأرضت جانباً كبيراً من المتفرجين. أما «سنيه» يا حسره الجلدة على العضمة، وطلعوها ترقص!! فكانت عبارة عن هدوم تلعبها الريح! أما الغويشة القشرة فلم تكن مطلية، وكانت عاملة علامة زرقة في إيدها.
بعد أيام قليلة نشر الناقد «محمد الطاهر العربي» في مجلة «ألف صنف وصنف» في يوليو 1926 خبراً عنوانه «زوبعة في روض الفرج»، قال فيه: حدثت هذا الأسبوع زوبعة من الحوادث المسرحية في روض الفرج غيرت نظام الكثير من حركته، حيث أضربت الآنسة «فاطمة قدري» عن العمل لمدة ثلاثة أيام انتهت بتنفيذ رغبتها وطرد «حكمت فهمي» من فرقة يوسف عز الدين! فصمم عز الدين على الإضراب عن العمل احتجاجاً على الخواجة خريستو الذي نفذ قرار الطرد بدون استشارة مدير الفرقة. ثم طردت «دوللي أنطوان» من فرقة الأستاذ أمين صدقي، وكان طردها جزاء وفاقاً بما وشت بين المؤلف الكبير وزوجته، فلعله يكون في ذلك عبرة لغيره من الوشاة. وهرب «جمجوم» بامرأته الجديدة، واشتغل المدعو شرفنطح بدلاً منه. وترك الشاميات الغناء في بار ليلاس، وعادت رتيبة إلى تختها فيه!
وإن كانت هذه المقالة خاصة بكازينو سان أستفانو فقط، إلا أنني أردت نقل الخبر كاملاً كما نشره الناقد، كي يكون تمهيداً لما سنتعرض له في بقية سلسلة الموضوع لباقي الفرق والمسارح والكازينوهات بما فيها من نجوم ومهمشين!


سيد علي إسماعيل