زلزلة الغواية وجماليات الاختراق.. في مسرحية هاملت بالمقلوب

زلزلة الغواية وجماليات الاختراق.. في مسرحية هاملت بالمقلوب

العدد 660 صدر بتاريخ 20أبريل2020

يشهد الواقع الثقافي المصري والعربي حضورا جدليا صاخبا تبعثه مسرحية «هاملت بالمقلوب « , لمؤلفها المثقف دكتور سامح مهران , الذي يواجهنا بتيار من الجمال الاستثنائي النادر , ينتمي إلي الأعمال المسرحية الكبرى المسكونة بالمشاعر الإنسانية والأبعاد السيكلوجية , بالوجودية والعبثية , بالرؤى السياسية والميتافيزيقية , واللمحات المثالية والواقعية , وعلاقات الحب والجنس والعشق والجريمة , ويذكر أن هذه المسرحية هي أحدث أعمال د . سامح مهران 2020 , وقد نشرت مؤخرا في مجلة المشهد المسرحي .
في هذا السياق نجد أن هاملت شكسبير اقترنت بموناليزا دافنشي , التي يشعر كل من يراها أن ابتسامتها تتجه إليه وحده  , ولكن يبدو أن هذه الابتسامة المراوغة ستظل تثير الأعماق وتبعث الوعود والعهود ولن تبوح بأسرار غموضها , لذلك ستبقى موناليزا دافنشي  مثارا لسحر الفن الجميل , وستظل هاملت شكسبير بؤرة إشعاع مبهر يكشف عن إبداع لا يمكن أن تقال فيه كلمة أخيرة .
يرى النقاد التقليديون أن شكسبير كتب رائعة مضطربة غير متماسكة , لأن هناك فجوات واسعة تفصل بين مستواها الدرامي ومستواها الشعري , الذي يبهرنا بجمالياته المدهشة , واندفاعاته الثائرة الباحثة عن أقصى أشكال الحب والألم والمعاناة , ولكن حين نجرد النص من الشعر فلن يتبقى إلا دراما الانتقام ومآسيها التقليدية , التي تعتبر من أشد الأنواع الدرامية هزالا في المسرح العالمي . وإذا كانت هذه هي وجهة نظر ت س اليوت , التي يتبناها تيار النقد التقليدي , فإن تيار النقد الحديث والمعاصر يرفضها تماما ويرى أن هاملت قطعة مسرحية نادرة , يجب التعامل معها باعتبارها سيناريو ضخم  توزع الأدوار منه وفقا لحركة التاريخ والزمن , فمن المؤكد أن لكل عصر رجاله الذين هم هاملت , كلوديوس , بولونيوس, وفرتنبراس. وفي هذا السياق تأتي مسرحية «هاملت بالمقلوب « كمغامرة مثيرة للدهشة , دخل فيها المؤلف إلى عالم شكسبير ليرسم مع هاملت مسارات حلم ملموس معكوس , الحالة الفنية الفريدة تحمل بصمات د. سامح مهران , وتنتمي إلى عالمه الثائر الساحر الجروتسكي الكاشف العنيف , لكنها تظل أيضا محتفظة بروح  شكسبير , هاملت يصبح ابنا لزمننا الحالي المسكون  بالخطايا والآثام والسقوط إلى الحضيض , والمسرحية بشكل عام تمثل قطعة فنية رفيعة المستوي تموج وعيا وجموحا ومساءلة , الرؤية الفنية لا ترتكز على الماضي - - لكنها تنطلق بقوة إلى الحاضر والمستقبل , كل الشخصيات جاءت مختلفة الملامح والأبعاد , «جرترود «تغيب تماما عن المسرحية , فقد ماتت حزنا على زوجها وأصبحت أيقونة للحب والإخلاص , لكنها لا تزال تعيش في خيال ابنها المعذب كامرأة ساقطة عاهرة تمارس العشق والجنس بجنون , التناقضات تفرض نفسها , وتبعث توترا عارما في تلك المساحة الفاصلة بين التشكيل الدرامي للأحداث والشخصيات كما يراها خيال هاملت , وكما هي في الواقع المسرحي , وتظل تقنيات المزج الناعم بين المستويات النفسية تبعث وهجا لافتا نلمسه عبر طبيعة الحوار وأسلوبه الخلاب وانتقالاته المدهشة واختراقه المثير للزمان والمكان , وتفاعله الساخن مع نبض وجودنا الآن , فبعد أن تحول الواقع الإنساني إلى مجزرة كبرى , وتجرد العالم من الوعي والقيم والمعايير, يأتينا «هاملت سامح مهران « , مدركا أنه يعيش رهانا خاسرا , فقد لامس طوفان الزيف , واكتشف بشاعة وجه العالم المحكوم بالمؤامرة وجنون السلطة والخيانة والموت , ولم يكن أمامه إلا أن يرفع راية العصيان , ويتحول إلى كيان ناري باحث عن الحقيقة وعن السلطة والعرش , لم يعد هاملت عاجزا مترددا , لكنه أصبح زائفا عنيفا مهزوما ومتطرفا , يصر على الانتقام لأبيه وعلى تصفية حسابه الطويل مع عالمه المنهار , فلعله يستطيع بعد ذلك أن يكون - - , يكون ملكا على عرش الدانمارك .
تأخذنا اللحظات الأولى إلى هاملت القادم من جحيم الواقع والخيال وهو يتوكأ على عصاه , تحاصره الغيوم ورياح الخوف وشواهد القبور , يتراقص الموتى حوله - - , بينما يؤكد لنفسه أن خياله المريض  يتجسد أمامه ويخاطبه , يشعر أنه في كابوس ممتد من الأوهام والأكاذيب  , أضواء قلعة السينور تقترب , فيرتمي على الأرض وهو مخمور , أصدقاؤه القدامى  برناردو  وفرانشيسكو يتعرفان عليه , يتساءلان ما الذي أتى به من انجلترا إلى الدانمارك , تساورهما شكوك انفجار في الدولة , فالأمير المغضوب عليه يشبه أباه الملك الراحل في معدنه الفظ ونفسه المنتفخة .
يأتي هوراشيو ونعلم أن الملك الحالي كلوديوس , قد نفى هاملت إلي انجلترا , لكنه أعلن أن الأمير سيخلفه على العرش , وهكذا تمتد إيقاعات الجمال والعذاب , ويتحدث هاملت إلى صديق طفولته عن الساتير الذين يراهم في كل مكان - - , فنرى جرترود وكلوديوس وبولونيوس, وهم   مسكونين بالشبق , تفوح منهم رائحة المجون , كلوديوس يطلب من الملكة أن تعطيه من خمر شفتيها , فسريرها بحجم مملكة , بينما بولونيوس يعلنهما زوجا وزوجة , تلك الحالة المبهرة التي لا يراها إلا هاملت , لأنها تدور في عقله وأعماقه , أما هوراشيو فهو لا يري شيئا مما يراه الأمير أو يقوله , يخبره أن أمه قد ماتت حزنا على موت أبيه , وأقام لها الشعب تمثالا للوفاء , ويظل الأمير مسكونا بالهواجس  , يشعر بالإعصار القادم , ينتقد سياسة الملك كلوديوس , يحاصره صوت أبيه يطلب منه أن ينتفض , وتؤرقه نوستالجيا الحنين إلى الماضي , وحين تتردد أغنية (عاوزنا نرجع زي زمان ؟) , نصبح أمام علامة ميتا ثياترية مدهشة تدفعنا إلى قلب واقعنا الحالي , بينما يدرك أصدقاء هاملت أن مسا من الجنون قد أصابه و ويجب أن يراه الطبيب .
كانت أوفيليا «سامح مهران» , امرأة شابة جميلة قوية طموحة وعقلانية , أخبرها الطبيب في المستشفى أن هاملت قد أنشأ عالما خياليا دخله واستعصى عليه الخروج , أصبح الخيال هو والواقع سواء  يستحيل الفصل بينهما , وأن شفاء الأمير قد يكون في تغيير مركز الرغبة عنده , كي يستعيد ذاته بمساعدة امرأة تحبه , لكن أوفيليا لم تقتنع , وأكدت له أن هاملت يدعي الجنون ويتقن التمثيل وأته أصبح زعيما لكل شباب العالم  المتطرف , الذين يهتفون باسمه , فهو نجم السوشيال ميديا الذي سيخلص المعذبين في الأرض  .
تأخذنا دهشة الجمال وصدمة المعرفة والخيال إلى أدق تفاصيل شخصية هاملت , حين يكلم الرب في الموبايل - - ويقول – «لماذا أيها الرب تتركني وحيدا أنتظر شيئا ؟ أنا مملوء برغبات مفصولة عن كل السياقات المفروضة علي من قبل أن أولد - - , قتلوا ظلك في الأرض - - , وأبي كان ظلك على الأرض , ثم أماتوك أنت نفسك في صدورهم وعقولهم وكلماتهم , واكتفيت أيها الرب بالمغادرة , تركتنا نعيش الفوضى - - , أرهم عظائم قوتك , ودعني أكون تحت قدميك , فلم أعد أطق العيش بعيدا عنك « , وفي سياق متصل ياتي التشكيل الجمالي للهلع الجنسي المختل الذي يعيشه هاملت , ليرسم مسارات أسطورية وحشية عميقة الدلالة , حيث الفخذان الأنثويان وبينهما فم القرش بأسنانه الحادة , يلتفان حول الأمير المعذب ويظهران بجانب رأسه , بينما تدعوه همسات البلاى باك إلي استعادة فحولته المنسية - - , فيرفع الصليب ويختفي الفخذان.
يأمر الملك كلوديوس بخروج هاملت من المستشفى وعودته إلى القصر , وهناك يعايش المتلقي أبعاد اللقاء بعد سنوات الغياب , أوفيليا تفجر مواجهاتها الساخنة , تخبره أنه يرغب اعتلاء أكتاف الجميع بأخلاقية زائفة , وأن العالم قد تغير , وأن كلوديوس الملك قد سلبه العرش والمجد والحنين , لكنه حقق لشعبه كل الأحلام , أعطى للإنسان كامل حريته , وأصبح معبود الشعب وحليفه , وتضيف أوفيليا أن هاملت يحاول الآن تسييس الدين واستقطاب المعذبين , وأن الجميع على علم بغزواته ونزواته , التي تناقلتها الميديا حيث العشق والمجون واللهو والقمار , وهنا يندفع الأمير مؤكدا أن كل  ذلك لقطات من الماضي - - , تلغيها لقطات أخري , وسوف يثبت لها صدقه , فيجري ويأتي حاملا ذلك الإناء الشفاف , الذي يعتبره دليل عفته - - , مر به على كل من شك في نواياه فصدقوه وآمنوا برؤاه - - , فقد قطع هاملت عضو ذكورته , ليتباعد عن كل الشبهات .
تنطلق صرخات أوفيليا - - , تؤكد أن الأمير فقد عقله , كلوديوس وبولونيوس يشهدان الموقف المخيف  , هاملت يعترف أمام القس أنه لا يريد من الدنيا إلا رضا الرب وخدمة الملك والوطن , فيعلن كلوديوس أن هاملت هو سنده وساعده وعقله وضميره - - , وابن أخيه الحبيب , وهكذا أصبح الأمير هو معبود الشباب في الدانمارك  , لكن الملك كان يعلم جيدا كيف يفكر هاملت , فقد عرفه طفلا - - جلس على ركبتيه وفي حضنه , وهو يعلم كل خطوط عقله - - , يقف بين ثناياها ويستطيع التنبؤ بحركته المقبلة .
أصبحت أوفيليا هي أميرة القلوب الكسيرة بعد أن اتهمها هاملت أنها راودته عن نفسه , لكن الملك قرر أن تكون هي أميرة قلبه وزوجته ووزيرة في حكومته , وظل هاملت مندفعا إلي صديقيه روزنكرانتس وجيلدنسترن , اللذين سيأتيان في ليلة زفاف أوفيليا بفرقة لتمثيل حادثة مقتل أبيه وخيانة أمه , كي يسقط عرش الملك ويستعيده الأمير المعذب , تلك الحالة التي أدركها كلوديوس وبولونيوس منذ البداية وخططا لها بدقة ليضعوا النهاية الحاسمة لمشاغبات هاملت , حيث استطاعا أن  يشوها صورة الأمير وصديقيه , اتهموهم بالتحرش الجنسي واغتصاب النساء ومعاملتهن كبغايا ساقطات , فكانت الفضيحة مدوية على مواقع التواصل الاجتماعي , استطاعوا بطعم من الكذب اصطياد سمكة من الحقيقة , تشبه الحقيقة ولا تمثلها , سكبوا الماء البارد على طموح هاملت في الحكم , هاملت المختل المسكين ,  الذي مضي بخياله إلى مصيره المحتوم , لم يقدر وزن الآخرين , ولم يسمع إلا صدى صوته - - , وهكذا رقصت الجماجم وتردد اللحن الجميل [ احنا النهاردة  سوا  وبكرة هنكون فين ؟ في الدنيا في الدنيا - -  , ] وعجز هاملت نماما عن حفر القبور لكل من سيخالفه في الرأي .
انطلقت المظاهرات النسوية الحاشدة تطالب بمحاكمة هاملت وضرورة إسقاطه , الدانمارك تمر بمرحلة من الارتباك  واختلال المفاهيم ومحاولات هدم الديمقراطية , كلوديوس  الملك يستجيب لضمير الشعب ويقوم بتحويل الأمر إلي المحكمة لتحقق في الادعاءات , ا لتي طالت ولي العهدة الشريف   الذي يثق في طهارة جسده , ورغم أن الطب الشرعي أثبت أن هاملت رجل عاجز تماما , ليس  له عضو ذكورة , إلا أن المحكمة رأت أن الأمير لبس زي الرهبان , لكن الوحش داخله ظل جائع دائما , فأدانته المحكمة بإجماع المحلفين , وحكم عليه بالسجن مدى حياة في مستشفى للأمراض العقلية  .
تقترب النهاية التي تكشف أبعاد وجودنا الأسطوري الوحشي المخيف , الملك يقرر أن يخضع هاملت للصدمات الكهربائية , التي تستلب الإرادة والروح , وبعدها يطالب بالإفراج الصحي عنه , فيعود إلي القصر ليجلس ساهما ساكنا , وسوف يدعي كلوديوس أنه اكتشف نبعا أبديا شرب منه الأمير فأصبح قديسا ملائكيا هادئا , ومن المؤكد أن الناس سيتزاحمون  ليشربوا من النبع , فالوهم هو سر حياة البشر, وديمقراطية الرجال لها أظافر وأنياب . 


وفاء كمالو