زين المها .. زخم مشهدي بأنفاس البادية الحية

زين المها .. زخم مشهدي بأنفاس البادية الحية

العدد 646 صدر بتاريخ 13يناير2020

    لا يطل هذا العرض من عالم الصحراء، بل يأتي إليك بعالمها كاملا، يفترش الفضاء والزمن اللحظي ليبدو مقيما قديما لا ضيفا مؤقتا، يبدو عالمها الفعلي مهيمنا على المكان بأبعاده، يصول بك ويجول بهيمنة وثقة صاحب دار، وهو أكثر ما يميز هذا العرض الأردني “زين المها ـ مهاجي الرمال” لفرقة مادبا للمسرح والفنون، المستمد من القصة البدوية الحقيقية “زين المها” التي حدثت في البادية في زمن قديم، آخر عروض مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورته الخامسة، من تأليف وإخراج د. علي الشوابكة، وبطولة معتز أبو الغنم ورسمية عبده وسماح جرار وطارق الشوابكة وتيسير علي وآخرين.
   يبدأ العرض الذي يفترش الصحراء؛ بيئة مواضيع المهرجان، بتكوينات واثقة تبدو مبتكرة نوعا في اختيار أماكنها وتوزيعاتها عن عروض سابقة،عدة خيام تخفت منها اثنتان، فتبدوان بلا إضاءة وأقل ظهورا، أحدهما في اليمين الخلفي وأخرى في اليسار الخلفي، بينما تبرز اثنتان، خيمة كبيرة وسطى وأخرى أصغر على اليسار، أمام كليهما حطب مشتعل، ينبه التركيز لهما، نرى بعضا من الممثلين قبل بدء العرض جالسين ساكنين أمام الخيمة الوسطى وامرأة داخل الخيمة اليسرى وحدها، ومجموعة من الرجال أعلى إحدى التلال يبدون كالظلال، مع إضاءة خلف التلال تميل للزرقة توحي مع ضخات دخان ببرودة الليل، كتكوين عام يوحي بامتداد لحالة سارية من قبل بدء العرض تنتظر الاستطراد، فالحياة تتسلل من قبل البداية، ثم يبدأ العرض بحركة مشتبكة بالسيوف بين مجموعة الأشخاص أعلى التل الأيمن البعيد كخيالات، معطية إحساسا ذكيا بالبعد، نسمع صوت صهيل الخيول، وصوت الرياح، ونرى صب القهوة لضيوف أمام الخيمة الوسطى المحورية، في مزيج يموج بتفاصيل حياة حقيقية.
   أمام الخيمة الوسطى المركزية نرى الشيخ “وهدان” ابن الشيخ مرشود شيخ القبيلة الراحل، وسط ضيوفه، ونسمع شعرا بدويا يمتدح “ركان” ( معتز أبو الغنم) أخيه الغائب، يصب الشيخ وهدان القهوة لضيوفه ونسمع أحاديثهم، لنرى زوجته ( سماح جرار) في الخلفية التي يذهب لتأنيبها لعدم تقديم القهوة للضيوف، توغر صدره ضد هذا الغناء الذي لا يمتدحه بينما يمتدح أخيه، مشيرة بكراهية لزوجة أخيه الغائب “زين المها” (رسمية عبده)، التي نراها وحيدة في الخيمة اليسرى، تعيش في انتظار زوجها ركان الفارس الذي ذهب يطارد قاطع طريق اعتدى على قبيلتهم وسرق أغنامهم، ليعود ركان ظافرا منتصرا مستردا “الحلال” أي ماشيتهم وما سرق منهم، بهيئة بطولية على فرسه، ليحتفل به أخوه وهدان والجميع بأغان بدوية مبتهجة، لكن وهدان الذي أوغرت صدره زوجته يعنف أخاه لتركه إحدى متعلقات والدهم، فيرفض ركان عزيز النفس هذه اللهجة من أخيه فيقرر الرحيل مع زوجته، بينما يندم وهدان ويدس رأسه في الرمال، بعد الرحيل تتعرض”زين المها” شديدة الجمال ذات العزة والأصالة، لمغازلة وتعرض من “بطيحان” ( طارق الشوابكة) قاطع الطريق الذي جاء غازيا لسرقتها، فتتصدى له بقوة منشدة في فخر وإباء أبيات وفاء وزهو بزوجها، في وصلة شعرية بديعة، ليتصدى له ركان في مبارزة ماهرة تسانده زوجته الفارسة، في الوقت الذي يرسل إليه أخوه وهدان لاسترضائه، فيعود ركان لأخيه وقبيلته متصالحين في غناء ورقص احتفالي بدوي من الجميع على أصوات الربابة الأخاذة.
    قصة على بساطتها ملحمية مثيرة للمتابعة، تعزز ببساطة قيم البدو والصحراء، كالوفاء والأصالة والشجاعة، ذات دراما واضحة وصراع واضح، خير وشر ونهاية سعيدة ترجع الحقوق وتُنصف من تعرض لظلم، بمذاق الحكايات التراثية والشعبية الأثيرة والمثيرة، ضمن حالة فرجوية حية متكاملة غنية الشخصيات والتفاصيل والتنوع البصري والحركي ميزت العرض، الذي لم يظهر كمن يستخدم الصحراء ويطوعها لحكايته وموضوعه، بل بدت الصحراء بيئة حقيقية أفرزت عالمها وجاءت به، بدت كل مواقعها مفعلة مكانيا تضرب في جنباتها الحياة، ارتفاعات قريبة وبعيدة، واضحة ومهملة منزوية، أرض مستوية أو تلال، بما يحقق بذاته إيقاعا ضمنيا، ظهرت مكونات البيئة مكانيا وثقافيا؛ الخيول والجمال والسيوف، والنخل، والنار، والربابة والدلة والقهوة، الشعر والرقص البدويان، الأحاديث البدوية المتناثرة الزخمة بالروح البشرية، كل الحواس حضرت في الحالة المشهدية، نكاد نشم القهوة، نسمع صهيل الخيول والربابة، ووقع أقدام الخيل، لم يكن الصوت المسجل هنا عائقا بل كان منضبطا معينا على التجسيم، خاصة في ظل توافق لفظي وحركي، مع حضور جيد للمثلين وإلقاء مقنع ومعارك صيغت جيدا خاصة في ظل تمكن الممثلين من فروسية ركوب الخيل حتى الممثلة رسمية عبده.
     يبرز حضور الإخراج في العرض بشكل كبير، فتعد الرؤية الإخراجية بحد ذاتها أهم نقاط القوة، فالإخراج نجح في بث حيوية وحياة شاملة في أرجاء الفضاء الصحراوي، ليحيله براحا حرا داعما، بتكوين زخم يجمع بين الحالة المشهدية المسرحية والسينمائية، بتكنيك مكنه من توظيف المكان بشكل سلس خاصة مع حالة بدت ملحمية تكثر فيها التنقلات والحركة، فأجاد استخدام المكان بتنوعات ارتفاعاته، مع إنارة إرشادية لأماكن الحدث، فيما عدا عدة مشاهد لم تقم فيها الإضاءة بهذا الدور، مما أحدث نوعا من الارتباك لحين عثور المتلقي على المتحدث مصدر الصوت، خاصة في ظل وجود عدد كبير من الممثلين في معظم المشاهد، ومما أحدث شيئا من الارتباك كذلك، أن بعض المشاهد كانت بحاجة لمزيد من الإشباع وإمهال أنفاسها لوصول إحساس منطقي مكتمل، من أمثلة ذلك الانتقال الفجائي السريع ووصول ركان لقبيلته بعد هزيمة خصمه في حالة احتفالية، بشكل لا يحقق الشعور الزمني أو التدرج الدرامي الكافي، لكن هذا يظل لا يقلل من عناصر جودة العرض وتماسكه بشكل عام.
   من أهم السمات الإخراجية الملحوظة في العرض، استخدام معظم أرجاء الفضاء في صياغة المشاهد، مع تكثيف مشهدي، حيث ينشط مشهد في مكان بعيد ولا يلغي مشهد مكان آخر، فنشاهد الحركة في مكان بعيد بينما يتصدر مشهد مركزي، كحالة متدفقة الإيقاع تنشط ذهن المتلقي لمتابعة نهمة تستعرض كل محتويات الفضاء، هذا التكنيك التكثيفي يلتقي أيضا مع أسلوب سينمائي في الصورة من حيث الجمع بين الصورة المتقدمة (فور جراوند) والصورة الخلفية (باك جراوند)، فتتقدم حالة وتتأخر أخرى في نفس المكان والزمان بحسب الرؤية الدرامية، مع بقاء عمل الإثنين، وهو ما أجاد المخرج استخدامه إبداعيا بالتداخل أو المزاوجة بين مشهدين بشكل منضبط أراه من أفضل مناطق العرض، بحيث خفت أقلهلما أهمية حركيا وصوتيا كما الهمس وقد كان في المقدمة وأكثر بروزا، وبدأ حوار في مشهد خلفي يحدث في نفس المكان، علا صوته على الأول، كنوع من الانسحاب التدريجي من حالة عامة لتصبح كالخلفية لحالة درامية أهم تصبح في المقدمة، دون نفي وجود الأولى، بينما ينبع المشهد الثاني المتصدر من الأول المتراجع ومازال يرتبط به، فالتداخل ليس مجانيا أو عشوائيا، يظهر هذا في أحد المشاهد بينما كان ضيوف وهدان معه أمام الخيمة يتحدثون، فيُبقى المشهد العام على وجودهم لكنه يصبح مشهدا هامشيا، لصالح مشهد حوار في الخلف بين وهدان وزوجته، يُعد الأهم حيث يلقي الضوء على طبيعة الشخصيات والصراع الدرامي، كما تبرز بشكل أو بآخر أصوات مكونات البيئة في الخلفية، كحضور مستمر لمكونات المكان، مع الاكتفاء عادة ببؤر إنارة أو إنارة عامة، دون اللجوء للإضاءة الملونة، التي كانت سترهق الصورة وتزيدها تحميلا، وهو ما كان حساسا ومناسبا في ضوء هذا الزخم المشهدي، مع تخلل الأشعار والغناء البدوي للمشاهد بصوت عذب، ضمن سياق بدوي خالص امتلك الصحراء، في عرض من أهم وأفضل عروض المهرجان.


أمل ممدوح