نقوش درامية.. على جدار الموتى

نقوش درامية.. على جدار الموتى

العدد 641 صدر بتاريخ 9ديسمبر2019

أعترف منذ البداية بأنى قد اقتبست اسم مسرحيتى ( نقوش على جدار الموتى )والتى نشرت فى جريدة مسرحنا ، لتكون عنوانا لهذا البحث الذى أحببته والذى شغلنى أيضا فترة طويل من الزمن ، وذلك لتقارب مضمون هذا البحث مع عنوان مسرحيتى والتى كتبتها أثناء الثورة المصرية والتى تدور أحداثها فى منزل يطل على ميدان التحرير .
واذا كان اخناتون والذى كان  أول من نادى بالتوحيد فى هذا العالم قد استطاع أيضا أن ينقل لنا مفهوم الاله من العالم الخارجى الغيبى الى داخل أعماق الانسان حتى بدأ البشر فى البحث عن الاله داخل أنفسهم وليس خارجها وقد ظهر ذلك واضحا من خلال النقوش الفرعونية التي وجدت على جدران المقابر والمعابد ، وحيث استمر هذا التفكير بين البشر وحتى هذه اللحظة .
يقول اخناتون: ( قلب الانسان هو مسكن الاله ) .
 وهكذا نقشت تلك العبارة فى وجدان البشر وعلى مر العصور ، بل ودفعتهم الى اعادة التفكير فى كل شىء يربط الانسان بالحياة وبالاله و بالموت وما بعد الموت أيضا . ولكن وجدنا عبارات أخرى قد نقشت أيضا ليس فى وجدان البشر أو داخل عقولهم ، بل نقشت  على شواهد قبورهم حتى أصبحت بعض تلك النقوش أبيات حية خالدة على مر الزمان وذلك لما تحمله من قيم ومضامين فكرية ودرامية وفلسفية أيضا .
اذ أن تلك النقوش قد جعلت الانسان يلخص لنا مواقفه وتجاربة  فى الحياة خلال لغة مركزة للغاية بحيث يربط بها  الحياة والموت من ناحية ، وتجعلنا فى نفس الوقت  نعيد التفكير والنظر وبعمق شديد فى علاقتنا بهذا الكون المطلسم من ناحية أخرى . فقد وجدنا تلك العبارة الرائعة والتى نقشت على قبر الكاتب اليونانى أرستوفانيس لكى تمجده تخلده أيضا ، بل وتسلط لنا الضوء على قدرة و موهبة أرستوفانيس والتى خرجت من نطاق
المحلية اليونانية وانطلقت تحلق الى آفاق العالمية لما تحمله من أفكاروقيم انسانية  :
( لقد حاولت ربات الجمال اقامة معبد يخلد مع الزمان ، فلم تجد أفضل من قلب أرستوفانيس ).
وحين تم العثور على قبر من القبور المترامية فى صحراء اليونان ..استطاع هذا القبر أن يحير علماء الأثار ، هل هو قبر رجل يونانى أم رومانى ! . ولكن الذى يعنينى هنا ،هو أن هذا القبر كان قبر ممثل رغم أن لم يعرف جنسيته حيث وجدت نقوش نقشت فوق ذلك الضريح والتى قد كتبها بنفسه لكى تنقش فوق ضريحه ، وهى كلمات تكاد تقترب من معنى الدراما :
( لقد مت أكثر من مائة مرة ولكنى لم أمت مثل هذة المرة أبدا .).
وهذا يذكرنا أيضا  بتلك الأشعار الذى نظمها الشاعر الكبير ايسخيلوس لكى تنقش على ضريحه  فى صقلية :
( هنا يرقد ايسخيلوس تحت تربة جيلا الخصيبة ضيفا من أرض أثينا الحبيبة التى تعلق بها قلبه أما عن قوة مراس هذا الرجل من أبناء يوفريون فسلوا الفرس ذوى الغدائر الذين ولوا الأدبار من ماراثون .  ) .
وعندما قام سير توماس نورث باعداد ترجمة انجليزية عن الترجمة الفرنسية لكتاب بلوتارخ” سير النبلاء و الرومان ..” والذى نشر فى عام 1579 ثم أعيد نشره باضافات جديدة  عام1595 وجدنا ذكر اسم “ تيمون الأثينى  “ والذى حاول مارك أنتونى أن يتخذه مثالا له  ويلجأ مثله  الى  العزلة وينخذها ملاذاآمنا له وخاصة بعد هزيمته فى الحرب .
ونحن نعرف أن تيمون الأثينى هو ذلك الرجل الثرى والذى كان ينفق ببذخ لكرمه الشديد بل ويساعد جميع الأصدقاء والمحتاجين ، غير أنه قد صدم صدمة كبيرة وشعر بالألم بعد اكتشافه حقيقة جحود وغدر الأصدقاء الذى استغلوه واستغلوا طيبته وكرمه الزائد عن الحد ثم تنكروا له خلال أزمته الطارئة التى ألمت به ، فقر اعتزال البشر بعد أن كرههم حتى سمى باسم ( كاره البشر ) .
وقد نظم الشاعر كاليماخوس أبيات شعرية لتنقش على شاهد ضريح قبر تيمون الأثينى : ( هنا أرقد أنا تيمون ، الذى فى الحياة كره جميع الناس الأحياء : مر بى والعن ما شئت ، لكن امضى ولا تتوقف هنا خطاك .) .
ثم عثر أيضا على بيتين من تأليف تيمون الاثينى حيث تم نقشهما على شاهد ضريح قبره عند شاطىء البحر :
( هنا ترقد جثة تعيسة منزوعة من روحها التعيسة : لا تبحثوا عن اسمى ليكتسحكم الوباء أيها التعساء الأشرار الباقون) .
ثم وجدنا فى كتاب آخر لويلم بينتر “ قصر السرور “ والذى كتب فى عام 1566، أن بينتر قد ذكر أن النقش كان كالآتى :
( أيامى الشريرة الحقيرة انتهت ومضت جثتى الثقيلة مقبورة هنا ، غائرة فى الأرض يضربها موج البحر الصاخب المتلاطم والسيل ان شئت أن تعرف اسمى ، فلتنزل عليك اللعنة .) .
والشاعر وليم شكسبير لم يستطع أن يغفل تلك النقوش الدرامية على شواهد القبور ، فحين تناول مسرحيته “ تيمون الأثينى “ .. جعل شخصية السيباياديس تقرأ الأشعار والتى صيغت عن تيمون الأثينى ولكن  بطريقة شكسبيرية :
 ( هنا ترقد جثة تعيسة منزوعة عن روحها التعيسة لا تبحث عن اسمى . ليكتسحكم الوباء يا أيها الأنذال الأشرار الباقون ! هنا أرقد أنا تيمون ، الذى فى حياته كره جميع الأحياء : مر بى والعن ماشئت ، لكن امضى ، دون أن تقعد بك خطاك .)
ثم وجدنا وليم شكسبير نفسه يخط لذاته أثناء حياته بعض الأبيات الشعرية لكى تنقش على شاهد ضريح قبره ، كما لوكان يرى أن تلك النقوش ستكون بمثابة تعويذة تبعد عنه الأشرار : أيها الصديق الطيب عليك بالحذر من أجل الآلهة  وألا تعبث بمن هو مدفون هنا مبارك هو من لا يعبث بعظامى ، وتكتب اللعنة على من يحرك عظامى من مكانها . ) .لقد نقشت تلك الأبيات على قبره حيث دفن فى كنيسة ترينيتى المقدسة باسترادفورد أبون ايفون .
فى رواية ( الإخوة الأعداء ) للكاتب اليونانى نيكوس كازانتزاكيس ، يجسد لنا هذا الكاتب شخصية القس ياناروس والذى ينتقى بنفسه كتله حجرية لكى تكون ( شاهد قبره ) و يحفر عليها نقوشا مكونة من كلمات وحروف كبيرة مطلية باللون الأحمر : ( أيها الموت ..أنا لا أخشاك ). إن القس يتأمل وهو مازال حيا تلك الكلمات والتى تجسد لنا فكره تجاه الموت والحياة .إنه يؤمن إيمانا كاملا بأن من لا يخاف الموت يمتلك حريته . ومن ثم جاءت تلك الكلمات لتعبر عن موقف الأب ياناروس من الحياة والموت . وتتماثل  شخصية القس ياناروس فى موقفه هذا مع موقف المؤلف ذاته . فإن نيكوس كازانتزاكيس قد إختار بعض الكلمات لكى يصيغها بإسلوبه الخاص والذى إصطبغ بالفكر الحر الذى إختاره لذاته فى الحياة والموت ، وذلك لكى تنقش تلك الكلمات على ضريح قبره بعد موته ، تلك الكلمات التى كان قد إستقاها من قصص الثراث الهندى القديم :
 ( لا آمل فى شىء .. لا أخشى شيئا ..ولا أتوقع شيئا .. فأنا حر )
لقد توحدت كل من شخصية القس ياناروس مع شخصية الكاتب كازانتزاكيس ذاته ، فى أنهما لم يخافا الموت وعشقا الحرية فى الحياة وكذلك أمام الموت بل وما بعد الموت أيضا .
حقا لقد كان للحياة والموت حضورا طاغيا داخل أعماق الشعراء والكتاب ، وتلك النقوش الدرامية والتى وضعت على قبورهم تؤكد ذلك من خلال بعض الأمثلة التى طرحتها خلال تلك المقالة التي شغلتنى كثيرا .


عصام عبد العزيز