إشاعات إشاعات بين المرفوض والمفروض

إشاعات إشاعات بين المرفوض والمفروض

العدد 641 صدر بتاريخ 9ديسمبر2019

ابدأ بنفسك. ابدأ من داخلك. كي يتغير المجتمع ويتطور إلى الأفضل علينا التخلص من كل السلبيات التي تحيا بداخلنا. ولن ينصلح حال الوطن ككل دون أن ينظر كل منا إلى مرآته بصدق وينتقد نفسه وسلوكه ويعدل منه قبل أن ينظر إلى الآخرين. فإذا التفت الفرد لمن حوله لا بد أن يكون إيجابيا تجاههم. لقد صنع منا الزحام شعبا عشوائيا واختلط الحابل بالنابل والغني بالفقير واللص بالشريف وتشابكت كل الخيوط حتى صرنا نعيش في شبكة معقدة من العلاقات والنفسيات المحبطة والمتدنية أخلاقيا وسلوكيا حتى صار الشارع بزحامه وأبواق سياراته هو النموذج الحقيقي المعبر عن حياتنا وعما بداخل كل منا.
تجربة جديدة قد تبدو شكليا – بالنسبة للبعض- مختلفة في عرض مسرحية إشاعات إشاعات والتي عرضت بمركز سعد زغلول الثقافي من إنتاج المسرح الحديث ومن تأليف متولي حامد وإخراج محمود فؤاد صدقي. العرض يناقش أوضاعا آنية ومشاكل حاضرة يعاصرها المجتمع والشارع المصري. أقيم العرض في مكان مفتوح بحديقة المركز الثقافي, وهذا بالطبع يؤهله للعرض في أي مكان أو شارع أو ميدان أو حتى حارة  في مدينة أو قرية وبالتالي فهو من نوعية العروض التي تصل إلى الجمهور المستهدف في مكانه.
 يبدأ العرض بجلوس المتفرجين بين أجزاء الديكور التي هي عبارة عن مجموعة مركبات توقفت في ميدان نتيجة الزحام, ميكروباس, سيارة إسعاف, أتوبيس نقل عام, سيارة خاصة, وأيضا التوكتوك سبب الأزمة. في البداية ينطلق استعراض غنائي نتعرف فيه على كل شخصيات العرض من سائقين وركاب وحتى تمثال رمسيس بالميدان يغني معهم معترضا على سلوكيات البشر بالميدان. نتعرف على تلك  النماذج منها السيدة الصعيدية الفقيرة التي تم اختطاف  ابنها (يوسف) من داخل الميدان, ونشأت وعصمت الزوجين الأغنياء أصحاب السيارة الخاصة تعبيرا عن الطبقة المتعالية وكنموذج للسيدة المتكبرة التي تسيطر على شخصية زوجها, وفتاة فقيرة بائعة مناديل ومشروبات بالميدان, والزوج والزوجة الريفيين المتطلعين لأضواء المدينة وطموحاتها, ثم المجذوب مدرس التاريخ (زوسر) الذي أصيب بلوثة عقلية نتيجة اضطهاده في عمله ورغبته في تدريس التاريخ الصحيح الغير مزيف, ثم الرجل المسن المريض بعربة الإسعاف, كذلك سائق أتوبيس النقل العام, حتى سائق التوتوك البلطجي الذي أوقف مركبته في مواجهة الجميع ليصنع الأزمة وتتوقف الحياة بالميدان رافضا اتهامه بالتسبب في الأزمة. يعلن المذياع أن تلك الأزمة المرورية قد أصابت جميع المحافظات بل أصابت العالم كله. ثم تتدخل الإشاعة الأولى على لسان السايس الذي يمسك بالموبايل ويتابع السوشيال ميديا, قائلا إن الأسد قد هرب من السيرك ليفزع الجميع, ويصيح فيهم زوسر مدرس التاريخ المجذوب: إن الأسد يأكل من لا تاريخ له, في إشارة لأهمية الحفاظ على ماضينا والتمسك به, ويعلن أحدهم أن الأسد قادم من آخر الشارع فيهرول الجميع في كل اتجاه, ويحاول سائق التوتوك الإيقاع بفتاة المناديل والتحرش بها لكنها تصده لأنها شريفة وترفض هذا الأسلوب الغير أخلاقي, ويظهر نموذج الحبيبين كريم  وخطيبته داليا حيث يجلسان برومانسية تحت أقدام تمثال رمسيس, وينصح مذيع الراديو بعدم نزول أحد من منزله حتى لا يتعرض للخطر من الأسد الهارب, ومع الأحداث نعرف أن سواق التوتوك يحمل شهادة فنية في التكييف والتبريد وأجبرته الظروف على العمل على التوكتوك مع استسهال البحث عن الرزق, أما الريفيان بشندي وزوجته فيتحدثان عن التمسك بالأرض رغم انبهارهما بالحياة الصاخبة بالعاصمة حيث ترغب الزوجة في بيع الأرض والانتقال للقاهرة ويرفض بشندي بيع الأرض ويتمسك بجذوره وأصله, ونجد أيضا سايس السيارات أو المنادي المشغول دائما بالموبايل كتعبير عن التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة حيث تبدأ من عنده الإشاعة فتكبر من خلال التناقل بدءا بسائق سيارة الإسعاف. ثم تنطلق الإشاعة الثانية وهي وجود قنبلة بالميدان, ليفزع لها الجميع أيضا ويختلط الحبال بالنابل, ويدخل كاركتر المذيعة ومصور أو مخرج التليفزيون كمعبر عن الإعلام الذي لا يهتم سوى بإبراز وتضخيم الكوارث ليس لحلها وإنما لتحقيق أعلى نسبة من المشاهدة والربح من ورائها, ويقترح أحدهم إذاعة خبر اختفاء الطفل من خلال التليفزيون والمذيعة,  حيث نكتشف أن  المذيعة أفكارها وعقليتها في عالم آخر عندما توبخ السيدة التي اختفى ابنها قائلة لها وليه تودي ابنك مستشفى أبو الريش على حساب الدولة وديه مستشفى خاص, بينما تطالبها الارستقراطية عصمت بالذهاب لجمعية حقوق المرأة, مما يدل عن أن كل فرد منعزل في أفكاره ومتطلباته وبعيد عن الآخرين, ومنهم من يصيح أن المشكلة ليست مشكلة ميدان وإنما هي مشكلة سلوكيات وأخلاق شعب, ويواصل سائق التوتوك مضايقاته لبائعة المناديل, بينما يندب سواق الأوتوبيس حظه لاحتياجه للمصاريف ولثمن  للمبامبرز لابنه, ويحاول زوسر البحث عن الطفل التائه, ويدخل رئيس الحي ليحل مشكلة الزحام فيتفق ذهنه عن إزالة الرصيف حيث يتم تنفيذ ذلك فيقرر أن المشكلة تكمن في التماثيل ولا بد إزالتها مثل تماثيل سعد زغلول وطلعت حرب, في إشارة للتخلص من الجذور الرموز التاريخ الماضي, وينطق تمثال رمسيس متحسرا على أحوال أحفاده وفيما وصلوا إليه من تدهور وانحدار أخلاقي واجتماعي وأين هم من سبعة آلاف سنة حضارة, بينما ترى السيدة عصمت صوت الارستقراط أن التمثال لابد أن يزال وأنه يجب التخلص من المهمشين حتى تحل جميع المشاكل, ويشتد  المرض بمريض سيارة الإسعاف ليجلسوه على الرصيف فيتحدث عن الوحدة والعزلة التي يشعر بها في هذا العصر , ويتم الإمساك بلص حاول سرقة شنطة السيدة, ثم يجتمع الكل في محاولة للبحث عن الطفل التائه حتى يجدونه فقد اختطفه اللص, ويفيق نشأت زوج عصمت من غفلته ويعتذر عن سلبيته تجاه الطفل المخطوف لأنه رأى الخاطف ولم يعره اهتماما, ويحدث التوافق والحب للزواج بين سائق التوتوك وبائعة المناديل. وبفرحة الجميع بعودة الطفل يحاولون البحث عن الحل ليعترف سائق التوتوك بتسببه في الأزمة ويقرر إزاحة مركبته من الطريق لتحل المشكلة وينفك الزحام ويذهب كل في طريق ويختتم العرض باستعراض غنائي معبر عن هذا الموقف.
يجوب النص بواقعية في الشارع المصري بمشاكله وتناقضاته حيث يعرض مشكلات اللحظة الحاضرة وهذا هو أهم ما فيه. من خلال فكرة بسيطة تحدث يوميا في عدة ميادين أو أماكن مزدحمة – وبخفة ظل- وضع المؤلف متولي حامد يده على جرح عميق بداخلنا وهو سوء السلوك العام. وحاول من خلالها تقديم تشريح اجتماعي لعدة فئات تختلف فيما بينها مهنيا واقتصاديا واجتماعيا بل وثقافيا وتعليميا أيضا مبرزا التناقضات والسلبيات التي تجمعها. وهي وإن كانت فكرة ليست جديدة حيث تكررت من قبل في عدة أعمال درامية مثل مسرحية سكة السلامة لسعد الدين وهبة وفيلم بين السماء والأرض لصلاح أبوسيف وفيلم إشارة مرور لخيري بشارة. فهي تعتمد على تجمع عدة نماذج بشرية مختلفة في مكان واحد لزمن ما دون إرادتهم نتيجة أزمة ما ويستعرض المؤلف نفسيات وأحلام وأزمات كل فئة وكل فرد على حدة في تشابك درامي بسيط حتى يتم حل الأزمة المصطنعة في النهاية ويعود كل منهم الى حياته. كأن شيئا لم يكن مع اختلاف تأثير الأزمة المؤقتة على كل منهم إما بالإيجاب وتعديل السلوك الشخصي وإما بالسلب واللامبالاة وكأن شيئا لم يكن والأهم في ذلك هو تأثير الموقف على المتلقي. قد تكون النماذج التي استعرضها متولي حامد في (إشاعات إشاعات) شديدة النمطية أو قد تتشابه مع شخصيات درامية سابقة لكن هذا هو الواقع الذي نعيشه بالفعل. ولكن الشخصيات ومواقفها قد شابها الاستسهال من المؤلف فكانت تحتاج إلى جهد أكبر لتحقيق شيئين أولا هما التجديد في طرح النماذج وثانيا العمق في الشخصية ومشكلاتها حيث أنه قد مر سريعا مرور الكرام على الشخصيات لمجرد تعريف بها لكن لم يعرض بتمعن مشكلاتها وأزماتها الجذرية. طرح المؤلف فكرتين لصنع خيط درامي نتابعه من البداية للنهاية مع محاولة تصعيده وهما أولا الشلل المروري الناتج عن تعنت قائد التوكتوك وثانيا اختطاف الطفل ومتابعة البحث عنه , ولو أن المؤلف قد تناسى لفترة طويلة هذا الحدث أثناء عرض باقي الشخصيات, حتى تم إيجاده في النهاية مع انتهاء الأزمة المرورية وربما في ذلك إشارة إلى انفراج الأزمات لن يأتي إلا بتكاتف الجميع كيدٍ واحدة في صالح الوطن  والمصلحة العامة.
من خلال قطع ديكور كبيرة نسبيا للمسرح لكنها واقعياً نماذج مصغرة للمركبات نسج مصمم الديكور والمخرج محمود فؤاد صدقي تشكيلاته في الفضاء محاولا تحقيق رؤية من وجهة نظره يرى أنها جديدة بدمج المتفرج داخل الحدث وجلوس بعض المتفرجين في المركبات مع الممثلين في محاولة لإيجاد بعد بصري ثالث للرؤية, لكنه في المجمل استطاع أن يستغل الفضاء المسرحي بشكل جيد في توزيع كتل الديكور محددا خلفيتها بتمثال رمسيس الثاني كدلالة على عمق تاريخ هذا الشعب وحضارته لاسيما مع بالتوافق مع شخصية زوسر مدرس التاريخ وإشارته المستمرة في جمله حول أهمية العمق التاريخي للشعب إضافة لكون تمثال رمسيس متحدثا دائما عن الأصالة والعراقة والحضارة لتنبيه الناس إلى ضرورة التمسك بالجذور وبالعادات والسلوكيات المحترمة الأصيلة والبعد عن السلوكيات المنبوذة والمشينة المنتشرة هذه الأيام والتي وصفها المخرج بأنها سلوكيات التوكتوك مطالبا الجميع بالتخلص من التوكتوك الموجود بداخلهم حسب تعبيره في نهاية العرض على لسان الشخصيات. ألوان قطع الديكور تم طرحها بشكل واقعي جدا دون تكلف في رموز أو دلالات دون داعي. وأجاد المخرج في توزيع وتحريك الممثلين بين مختلف أرجاء المكان بشكل طبيعي ومدروس بحيث يسهل على المتفرج الجالس في أي مكان أن يتحقق من رؤية مناسبة مع تحقيق التوازن الحركي المطلوب لمنصة العرض.
وتناسباً مع الشكل الواقعي المطروح كانت الملابس أيضا واقعية لكل الشخصيات ومنفذة بدقة  (تصميم الملابس لمروة ماهر) كما نراها في الشارع المصري بالضبط وبالتالي لا يشعر المتفرج بغربة بل يندمج سريعا مع كل الشخصيات وكأنه يجلس معهم بالفعل في ميدان حقيقي. أما الإضاءة فكانت تبعا لما سبق هي إنارة موضحة للمكان وإحداثياته لسببين أولاهما أظن أنه لصعوبة تنفيذ خطط إضاءة مركبة أو خاصة في مكان مفتوح ليس مسرحا أصلا  حيث محدودية الإمكانيات وقلة الأجهزة, وثانيا للطبيعية والواقعية الشديدتين اللتين تعامل بهما المخرج مع النص المطروح فلم يشأ أن يضيف أي أبعاد أو إيحاءات من خلالها رغم احتياج بعض اللحظات الخاصة لشيء من التصرف البصري من خلال إضاءات خاصة.
قام المخرج بتوظيف بعض المؤثرات الصوتية لبيان الحالة الدرامية مثل أصوات سيارات كلاكسات مذياع  لكن شابها الإفراط في استخدام الموسيقى الخلفية لفترات طويلة دون داعي يذكر, بل أحيانا كانت تمثل تشويشا على متابعة الحدث على منصة التمثيل. واستطاعت الأغاني (ألحان محمود وحيد, وأشعار صفاء البيلي) والاستعراضات (تصميم فاروق جعفر) التعبير بشكل جيد عن موقف الأوفرتير وأكدت التأثير الموحى بالعشوائية وزحام الميدان والاختناق المروري للسيارات والسلوكي للبشر. وكذلك في استعراض الفينال حيث كان موفقا في بيان حالة البهجة والسعادة التي سيطرت على الجميع بلحن وكلمات جيدة معبرة.
تحقق في العرض حسن اختيار الممثلين وتوزيع كل منهم في الدور المناسب. حيث كان كل ممثل مناسب في دوره مما ساهم في إجادة الجميع في أدوارهم دون استثناء لاسيما شخصية المجذوب زوسر الذي أجاد في تشخيص أبعاد الشخصية المركبة بكل هواجسها وانفعالاتها معبرا عن مدرس التاريخ المظلوم المقهور الذي حاول أن يصحح الأوضاع دون جدوى ومازالت شخصيته مؤثرة عليه حتى بعد أن أصابته اللوثة العقلية, وقدمها الممثل بشكل جيد ولم تهرب منه أبعادها طوال العرض ولديه حضور جماهيري جيد. وكذلك بائعة المناديل التي امتازت بالحيوية والنشاط وكان أدائها معبرا بصدق عن الشخصية, ثم الفلاحة التي نجحت بتلقائيتها في لفت أنظار الجمهور واندماجه معها في طموحها وأحلامها وانبهارها بأضواء المدينة. ولا نبخس حق جميع الشخصيات فكل الممثلين والممثلات قد أحسنوا في الأداء وتقمص الشخصيات ولولا ضيق المساحة لتحدثت عنهم جميعا بالتفصيل, وهم: محمود فؤاد صدقي, محمود أبو السعود, أحمد سيف, غالية فوزي, خالد السعداوي,  ندى عفيفي, كريم الباسطي, شريهان قطب, شريف فاروق, حسام بسيوني, شريهان شاذلي, رضوى طاهر, الطفل ضي الله, أشرف سيف, هبه الكومي, محمد يوسف, المنصوري عاطف عبد الوهاب, حكيم المصري, أيمن عبد الرحيم, كاريمان شريف.
العرض في مجمله متماسك تناوله المخرج الواعي والمدرك لكل أدواته وعناصر العمل, بشيء من خفة  الظل, وهو عرض بسيط ومعبر عن مشاكل حاضرة دون تكلف ويكشف الزيف الذي نعيشه بين العشوائية والسلوكيات المرفوضة واستسهال البحث عن الرزق بامتهان مهن استهلاكية مثل سائق التوكتوك أو الميكروباص والهجرة السلبية من أبناء الريف إلى القاهرة, والتعالي والاهمال والاستهتار وغيرها من سلوكيات مشينة ومن أهمها والذي سمي العرض باسمه هو إطلاق الإشاعات والانجذاب نحوها والتمادي فيها حتى تسببت في مشكلات كثيرة. ويبقى فقط كما ذكرنا حاجة المواقف إلى عمق أكبر والبعد عن تكرار أنماط درامية سابقة حتى يصبح النص والعرض أيضا له ثقل أكبر.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏