العدد 744 صدر بتاريخ 29نوفمبر2021
ولعل من الضروري أن نطرح سؤالا عن دلالة اختيار شكل السرادق كمعمار مسرحي لفرقة السرادق المسرحية؟
وهنا لابد وأن نورد نبذة قصيرة عن السرادق أو الصيوان كما هو معروف، فهو عبارة عن إطار شعبي مشهور بوحداته الزخرفية الإسلامية، وقد ارتبط بصناعة شعبية شهيرة هي “الخيامية” وله شكلان إما خيمة مربعة أو خيمة مستطيلة، والغرض الأساسي منه ـ كما تعرف على ذلك الوجدان الشعبي ـ أن تقام فيه المناسبات والاحتفالات الشعبية والدينية من أعراس ومآتم، وموالد.. وغيرها”.
أما كونه مكانا للعرض المسرحي فيأتي في إطار مؤقت، ومع ذلك له أهمية بالغة تكمن في أنه سهل الانتقال من مكان إلى مكان وأسرع في البناء، فهو أحد أشكال “المسرح المتحرك” إذا جاز التعبير.
وقد عرفته كثير من الفرق الشعبية ـ ليس في مصر وحدها ـ بل في كثير من بلدان البحر المتوسط، وله ميزة أدائية كبرى حيث إنه مكان احتفالي بالدرجة الأولى نظرا للتجمع الحاشد الذي يشهده من الجمهور والممثلين، أو بمعنى أدق مكان للعرض المتبادل، بلا أدنى مواربة، فلا وجود حقيقي للكواليس أو للستارة التقليدية، أو لمناظر مسرحية مجسدة.
ولذا أكد د. صالح سعد على أن السرادق الذي قصد إليه وسمى به فرقته “ليس هو تلك السرادقات التي تقام بنفس تصميم المسارح التقليدية والتي لا تكون سوى جدران من القماش تحيط بعلبة إيطالية كاملة الصنع، بكل ملحقاتها، فالسرادق لدينا لم يكن مجرد شكل فارغ، بل هو شكل يفرض مضمونه، ويفترض طرائق معينة في الأداء، وفي وضع المنصة، وتصميم الحركة “الميزانسين” والعلاقة مع الجمهور.
ولعل هذا التصور ما جعل الفرقة تزين جدران السرادق بألوان ورسوم تتناسب مع طبيعة كل عرض فعلى سبيل المثال في عرض “يحدث في قريتنا” والذي عرض بقرية بحيرة قارون بالفيوم (1983) كانت تزين جدرانه الخضراء المصنوعة من القماش المستخدم في صناعة قلوع المراكب رسوم فرعونية، ورسوم أخرى مستمدة من تصميمات الوشم الشعبي، وبعض الرموز البحرية المرتبطة بحياة أهل المنطقة من الصيادين.
وفي عرض “احتفال الدراويش بإعلان جمهورية زفتي” (1985) كانت هناك رسوم ورموز صوفية للدراويش وأعلامهم، مع صور لبعض الأبطال الشعبيين أبوزيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد العبسي.
أما منصة العرض فجاءت ملائمة لمكان العرض نفسه، ذات طبيعة متحركة، ففي عرض “يحدث في قريتنا الآن” كانت هناك ثلاث منصات عالية، ارتفاع كل منها متر واحد، كمثلث يحيط بالمكان وبالمنصة الرئيسية التي لم يزد ارتفاعها عن 20 سم بينما الجمهور يجلس على الأرض.
وفي عرض “كنور قارون” الفيوم (1986)، كانت المنصة شبه تقليدية، في وضع المواجهة، نتيجة لاستخدام شاشة خيال الظل، بينما في عرض “زفة المحروسة” كانت هناك منصتان متواجهتان يصل بينهما ممر بطول السرادق، وهو الممر الفاصل بين مقاعد الجمهور الجالس على جبهتين متقابلتين.
وعلى الرغم من المرحلة الأولى تجربة السرادق قد انتهت بعرض “كنوز قارون” عام (1988)، ثم توقف نشاطها لأكثر من عشرة أعوام لتعود بعدها بمجموعة من العروض كان آخرها “جراب الحكايات”، إلا أن صالح سعد لم يحاول أن يهجر معشوقه الأول المسرح فاتجه إلى الإخراج مقدما مجموعة من المسرحيات ـ ذات الطابع التجريبي كان أولها “مشهد من الشارع” للفرقة النموذجية بمسرح السامر وشارك به في المهرجان التجريبي الأول (1988)، بطولة شادية حسني وسيد زكي وحمدي السيد وعلاء عبدالرحمن وأحمد خلف وحاولت هذه المجموعة تقديم عرض تقليدي من خلال مجموعة من المشاهد ذات الطابع الهزلي والتي تنتمي إلى المسرح التقليدي، وفي تلك اللحظة يقوم أحد الممثلين ويقترح الخروج على نمطية الأداء، بأن يتم تمثيل حادثة حقيقية رآها بنفسه في الشارع، حيث شاهد عربة فارهة يركبها أحد البرجوازيين تصدم مواطنا عاديا يمشي مع زوجته.
وهنا يحدث الجدل حول ماهية العرض، وبعد طول جدال توافق الفرقة، ويتم تقديم المشهد في إطار مسرحي ينتمي إلى المنهج البريختي ـ بطابعه الملحمي ـ الذي يرفض التقمص والاندماج.
وفي هذا العرض لعب صالح سعد على الحضور الكلي للممثل داخل بنية المسرحية، وهو ما نراه في كثير من عروضه سواء مع السرادق أو غيرها ـ فله الحق في تغيير دفة الأداء، وأن يترجل ويقترح، وهذه قدرات تحتاج إلى مقدرة عالية تتأتى بالموهبة أولا والتدريب الشاق من خلال ورش عمل ثانيا.
ولذا رأينا الأداء في “مشهد من الشارع” يتسق ـ كثيرا ـ مع نظرية “جوزيف شايكين” حول “حضور الممثل” حيث كانت هناك مساحة شاسعة لأن يكتشف أبطال العرض كثيرا من الأبعاد الداخلية للحدث ويكشفوا عنها للمتفجرين عبر لغة رمزية ذات عمق دلالي، وإن اتسم بمأسوية تتناسب مع طبيعة المنهج البريختي، حيث انكشفت صورة الواقع تدريجيا في تلك المشاهد القصيرة بشكل فاجع وكئيب. واقع اختفت منه قيم العدل والحرية والمساواة، وتلاشت منه القيم النبيلة، بعد أن فقد البسطاء آدميتهم نتيجة المد الرأسمالي البغيض الي حول كل الأشياء إلى سلع، وبهذا المعنى كان العرض صرخة في وجه طيور الظلام التي استبدت بمقدرات الوطن وحولته إلى خرابة كبيرة.
وفي عرض “المسحراتية” تأليف عبدالعزيز عبد الظاهر، والذي أنتجه مسرح السامر عام (2001)، يعزف صالح سعد على وتر تجاربه الأولى حيث يعود إلى معمار مسرح السرادق، الذي يحوي عددا كبيرا من الفنون الشعبية، فيقسم خشبة العرض إلى مجموعة أقسام: الخشبة الأراجوزية التي جمعت بين الأراجوز وشخصيته الإنسانية الموازية وزوجته وحماته، والخشبة الموسيقية التي تضم العازفين والكورال والمايسترو والمساحة التمثيلية.
وقد اعتمد على شخصية محورية ذات تركيبة بريختية للمهرج كاسرا الإيهام بين الممثلين والجمهور، وإن اكسبها رؤية ذات بعد استعراضي غنائي ولعل ما أعطى هذا العرض حيويته هو اعتماده على لغة شعرية تنتمي إلى ثقافة المقاومة بما تحمله من مضامين إنسانية ونضالية تحث المشاهد على تغيير الأنماط السائدة التي تقيد حرية الإنسان.
ومثلما كان فؤاد حداد يستخدم الرمز في المسحراتي فإن المسحراتي كما جاء في العرض يستخدم خطابا مباشرا في أكثر الأحيان لكنه مع ذلك يحمل حميمة خاصة من مثل قوله:
آن الآوان يا صائمين
عن حقكوا.. تتحركوا
يا مسلمين آن الأوان تتسحروا
يا مسلمين آن الآوان تتحرروا
بالإضافة إلى ذلك نجد أن صالح سعد أوجد نوعا من التوازن الفني بين أشكال متغايرة من المسرح فمن الحكواتي وخيال الظل والأراجوز إلى المسرح الغنائي إلى المسرح الملحمي، في عودة منه إلى جو المسرح الاحتفالي بطابعه الاستثنائي الفريد، ولذلك نراه في كل هذه الأشكال يحاول أن يواجه قسوة الواقع بسخرية لاذعة، أو ما يمكن أن أسميه بـ”الكوميديا السوداء”
ومن نقد الواقع الاجتماعي إلى نقد الواقع السياسي العربي في مسرحية “اصحوا يا بشر” تأليف أحمد مرسي وبطولة وجدي العربي وخالد صالح، وهو عرض ينتمي إلى مسرح المناقشة، الذي يتميز ببعد تنويري، يعتمد على إثارة مجموعة من الأسئلة الشائكة حول أزمة الوجود الإنساني، بالإضافة على الوثائق التاريخية والسياسية والدينية والقانونية، عبر لغة جدلية/ تتسارع فيها الذات مع الآخر.
وقد استفاد د. صالح سعد في عرضه من تيمات المسرح المتجول حيث اعتمد على مهمات مسرحية بسيطة للغاية، رغم ما يحتوي عليه الخطاب المسرحي من دعوة للبحث عن هوية عربية.
تدور الأحداث في مكان يسمى “محطة السلام” على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية، حيث يلتقي مصريان، الأول مقيم في تل أبيب ومتزوج من يهودية، ويقوم بزيارة إلى مصر مع أسرته، والثاني شاب وطني تأثر بالأحداث الدامية في فلسطين فقرر أن يذهب متطوعا لينضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، وأثناء المناقشة بين الاثنين تمضي الأحداث، فالأول يدافع عن الكيان الإسرائيلي الذي تزوج منه ويعيش فيه، والثاني يعتبره خائنا، ويحاول بالأدلة التاريخية أن يوهن دعواه الباطلة، فيستحضر شخصيات مثل “جمال حمدان” والمجاهد الفلسطيني “عز الدين القسام”.
وهكذا يأخذنا العرض إلى روح مغايرة للمقاومة بعيدا عن المباشرة في لغة كولاجية، ضربت في أكثر من اتجاه رؤيوي، وإن غلب عليها ـ أحيانا ـ “الطابع الوثائقي”.
وفي آخر عروضها قدمت فرقة “السرادق” عام (2003) مسرحية “ياما في الجراب” والتي دارت عبر مستوى من الحكي يعتمد على ثنائية شعبية قديمة هي “الخير والشر” لتصل بالشخصيات التي قدمتها إلى نوع من الاستقلال، وقد اعتمد صالح سعد على مجموعة من الأطر التجريبية، حيث قسم عرضه إلى قسمين:
الأول عبارة عن حكاية “علي” مالك الجراب و”غانم” اللص الذي يدعي ملكيته للجراب، ونظرا لأن الأول شخص طيب، والثاني آفاق يلعب بالبيضة والحجر، حين يذهبان إلى القاضي ليفصل بينهما فإنه لا يستطيع أن يعيد الحق لصاحبه لأنه يرى الأمور من بعدها القانوني، ولشدة حيلة اللص، ضاع الحق في أول الأمر.
والحكاية الثانية تستعين بالموروث الشعبي من خلال قصة جحا والرومي الذي أدعى المسكنة والفقر واحتال على جحا الذي كتب له عقد إيجار لظل شجرة تتوسط منزله، وعندما دخل هذا الرومي بيت جحا قام بطرده منه، واعتمد على العقد الذي كتبه له واستولى على بيته.
وقد نوّع صالح سعد من ألوان الفرجة الشعبية ليخفف ـ قليلا ـ من حدة الأحداث رغم اعتماده ـ كثيرا ـ على شكل الميلودراما، وإن كان العرض بحاجة أكثر إلى ربط فني بين الحكاية الأولى والحكاية الثانية.