الآخر.. صراع الأنوثة والذكورة

الآخر..  صراع الأنوثة والذكورة

العدد 623 صدر بتاريخ 5أغسطس2019

مرتكزا على مقولة المفكرة الفرنسية والناشطة النسوية سيمون دي بوفوار الواردة في كتابها “الجنس الآخر”: «لا تُولد المرأة امرأة، وإنما تُصبح كذلك»، يقدم الكاتب ميسرة صلاح الدين رؤيته لصراع الأنوثة والذكورة في المجتمعات الشرقية التي لم تختلف كثيرا عن رؤية دي بوفوار، وذلك عبر نصه الآخر الذي قدمه المخرج محمد أسامة عطا، والمسرحية نتاج مشروع «الجسد والهوية» بالتعاون مع المعهد الفرنسي بمصر، وأحد مشروعات مجموعة مغاير للفنون الأدائية بالشراكة مع مؤسسة تنويرة للتنمية الثقافية، وعدد من المؤسسات الفنية، وتم عرضها على مسرح المعهد الفرنسي بالإسكندرية ومسرح مدرسة الفرير الفرنسية بالقاهرة.
فترى دي بوفوار أن «الأنثى إلى حد أكبر من الرجل هي ضحية النوع»، يؤخرها المجتمع إلى مرتبة ثانية لعدم امتلاكها مقومات الرجل الذي له امتيازات الأولوية، وأن مفهوم «المرأة» هو مفهوم ذكوري في الأساس؛ فما أصبحت عليه المرأة اليوم هو وجود مصطنع اجتماعيا من قبل المجتمع الأبوي وليس بسبب الحتمية البيولوجية.
فعلى الرغم من أن مفهومي الذكورة والأنوثة لا يتحددان مسبقا من خلال الجسد، بل إنهما يتكونان من داخل الثقافة التي ينتميان إليها، فإن الاختلافات الثقافية تظل مغروسة في المعطيات البيولوجية كما أن مسألة الجنس نفسها قد تكونت تاريخيا، واعتمد تمييز الذكر/ الأنثى على افتراضات ثقافية كالتي اعتمد عليها تقسيم الذكورة/ الأنوثة.
لتتقاطع دراما «الآخر» مع الخطاب النسوي العام الذي يهتم بمفهوم الجنوسة أو الجندر وبدراسة الأدوار الاجتماعية واختلافاتها التي تحددت ثقافيا في إطار المجتمعات وما تفرضه من أدوار على كل فرد تبعا لجنسه، محاولا عرض علاقات القوى بين الجنسين ومظاهرها وانعكاساتها انطلاقا من مفاهيم الأنوثة والذكورة، منطلقا من قناعاته بوجود خلل في ميزان القوى الجندري.
فتعيد الدراما قراءة المنظومة الثقافية لتبين مدى انحياز تلك المنظومة إلى الرجل وتبحث الكيفية التي يمكن من خلالها أن يظهر وعي المرأة بذاتها بوصفها جزءا أصيلا من تلك المنظومة الثقافية، ومحاولاتها للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليها، وتقديم رؤية بديلة للنظام الاجتماعي بحيث تتمتع فيه بالاستقلالية وحق تقرير المصير.
وهنا تحاول المسرحية عرض ذلك الصراع بين الطرفين، ومحاولات كل طرف إثبات وجوده وسيطرته على الآخر، متخذة شكلا دراماتورجيا متميزا سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى الإخراج، فالدراماتورجية عملية متكاملة يشارك فيها المخرج مع كاتب النص ومعدّه والممثلين والسينوغراف، بل والمتلقي والناقد في بعض الأحيان، وهي العملية التي نعرض لها فيما يلي.
على مستوى الكتابة، اعتمد الكاتب ميسرة صلاح الدين أقصى اختزال لغوي للجهاز العنواني للمسرحية، فالعنوان هو المعلومة الأولى التي توجه بها الكاتب إلى جمهوره مباشرة، التي قامت بوظيفتها الخاصة بالإرشادات الإخراجية.
جاء العنوان ليحيل بطريقة ما على مضمون النص، كما أسهم في تحديد طبيعة العرض ووسع من دائرة التلقي، فاختزل العنوان النص/ العرض برمته؛ ليكون بذلك بمثابة اقتراح عقد اتصال بين الكاتب والمخرج من ناحية، وبين الكاتب والمتفرج من ناحية أخرى، يبني المتفرج من خلاله توقعه للعرض، ويقدم له عنصر إثارة لاقتحامه، ويدفعه إلى تحديد مضمونه اعتمادا على صياغته - العنوان - اللغوية والدلالية.
وعند محاولة استقراء دلالات العنوان نجد أن الآخر دائما هو كيان تصنعه الذات كي ترى نفسها خلاله، فالذات تقوم بتحديد هويتها ووعيها من خلال الآخر وصناعته؛ وهنا يشير مفهوم صناعة الآخر إلى الطريقة التي يتم من خلالها صناعة القوة المهيمنة «آخرين» بالنسبة لذاته، ليكون «الآخر» هو الذات المستبعدة أو التي «يتم التسيّد عليها».
ويمكن اعتبار «الآخر» هنا – في المسرحية - المعادل الموضوعي للوجود، الذي تحاول كل من الذاتين - ذات الأنثى وذات الذكر - السيطرة عليه أو إثبات أحقيتها فيه، عبر إسقاط صفاتها المادية والثقافية عليه لتتخلص هي نفسها من فكرة الآخرية والتبعية.
وقد جاء الحوار بوصفه شكلا من أشكال التواصل وتبادل الكلام بين الشخصيتين ليقوم بوظيفته الإبلاغية في توصيل المعلومات إلى المتفرج، ومساعدا للحوار الحركي الذي اعتمد عليه الكاتب بشكل أساسي؛ لترافق الحركة الحوار في شرطه الكلامي وتؤكده وتكون بديلا واضحا عنه.
ولاعتماد الكاتب على الحوار الحركي - الذي استعان بلغة الجسد داخل العرض - نجد أن ممارسة الإرشادات الإخراجية قد جاءت مكثفة ومشكلة الجزء الأكبر من النص؛ لتصبح نصا موازيا ضروريا للحوار الكلامي الغائب وبديلا بصريا وسمعيا عنه.
فالكاتب الذي تخفى وراء الشخصيات من خلال الحوار - الحركي في أغلبه والكلامي في أقليته أعلن عن نفسه صراحة في تشكيله للإرشادات الإخراجية التي ساعدت المخرج في تمثل ذلك الحوار ووجهت الممثلين في أدائهم الحركي والانفعالي للتعبير عن مكنوناتهم النفسية وتموضعاتهم المادية على خشبة المسرح.
قام العرض المسرحي على لغة الجسد في الأساس التي جاءت موائمة لصراع البقاء والوجود بين الذكر والأنثى؛ فالجسد وفروقه التشريحية يعد أول معطى دال يفرق بين النوعين بيولوجيا، وبالتالي بين الأدوار الموزعة عليهما بوصفهما نتاجا مجتمعيا.
اعتمد المخرج على تغييب البداية التقليدية للمسرحية؛ حيث افتتح الفضاء المسرحي على التحام ثلاث شخصيات في وسط المسرح في تموضع جسدي ومادي متشابه لا يكشف عن فروق نوعيه؛ وكأن الشخصيات ولدت من الفراغ؛ ولا يعرف المتفرج شيئا عن خلفية وجودها أو عن ماهيتها إنما يبدأ في التعرف عليها من خلال الإيماءات والحركات والانفعالات التي تتراكم لتعطي المعنى العام في النهاية.
يفتتح العرض بمحاولات الهيئات الجسدية الثلاث في الانفصال لتشكل وجودها الخاص عبر التعرف على هوية الجسد من خلال اكتشاف الاختلافات المادية الواضحة التي تميز النوعين، ومن خلال لغة الجسد وتوظيف حركة الجسد الأنثوي التي جاءت مغايرة لحركة الجسد الذكري. وفي المقابل جاءت حركات «الآخر» محايدة ومازجة بين حركات الجسدين الأنثوي والذكري.
ومن هنا تم تغييب الديكور كذلك، وهذا الغياب يمكن تفسيره بنظرة جمالية محددة تقوم على إبراز الكلمة المنطوقة والحركة الجسدية والانفعالات الصوتية، مما يجعل الممثل العنصر الوحيد والأهم في العرض المسرحي، لتلعب العناصر البصرية والسمعية الأخرى مثل الملابس والمكياج والإضاءة الدور الذي يطلب من الديكور.
لذلك أدت المؤثرات السمعية دورا أساسيا في تشكيل سينوغرافيا العرض؛ حيث قامت تلك المؤثرات بتوسيع الفضاء الدرامي ليتخطى حدود خشبة المسرح، وكذلك بربط المواقف المتغيرة ببعضها، وإبراز التحولات الرئيسية للحدث بمساعدة المؤثرات المرئية كالإضاءة والإظلام. كما قام الصمت – بوصفه من المؤثرات السمعية المهمة - بدوره الجمالي والدرامي في تصعيد حساسية الحدث وتلقيه من قبل المتفرج، وجاء مصاحبا للإيماءات الحركية للممثلين في تجسيدهم للمواقف الصراعية.
وهنا قد يناسب إطلاق مفهوم «مسرح الحجرة» على العرض لتناسبه مع العدد القليل لشخصيات المسرحية الذي تحدد في ثلاث شخصيات أساسية من ناحية الوجود العددي، وفي شخصيتين سواء من ناحية تفكيك طرفي ثنائية الذات والآخر أو من ناحية تفكيك ثنائية الأنثى والذكر، واعتبار الآخر «ديكورا» أو وجودا محايدا، وكذلك لأولوية الحدث والحوار المكثف وبساطة الديكور.
«الآخر» مسرحية من تأليف الكاتب ميسرة صلاح الدين، وإخراج وبطولة محمد أسامة عطا بمشاركة إيمي دياب وشيري كمال وعلي إيهاب، وتأليف موسيقي محمد حسني.


ناهد راحيل