فلسفة العمارة في المسرح الحديث (2-2)

فلسفة العمارة  في المسرح الحديث (2-2)

العدد 748 صدر بتاريخ 27ديسمبر2021

في نهاية العشرينيات جاء “جربيوس” بمشروع مسرحي أسماه “الخشبة الشاملة” التي تعود فكرته إلى المخرج “إيرفين بيسكاتور” ، وفكرته كانت تقوم على أن “هدف المسرح ليس تقييم العالم جماليا، وإنما الرغبة في تغييره، وسوف يتم تحقيق هذا الهدف، إذا نجح مائة من كل ألف من المشاهدين من المشاهدين، الذين يأتون إلى مسرحنا كل يوم، أن يصلوا إلى التفكير الواعي في النظام الذي يعيشون فيه”.(7)
وكان بيسكاتور أول مخرج مسرحي يدخل في العمل المسرحي عروضا لمشاهد سينمائية، وقد اعتبر أن التقنية السينمائية هي وسيلة لتنظيم الحدث المسرحي المتواصل، وقد أشرك عدد من عمال المسرح في بعض العروض.، وقد سعى “بيسكاتور” من خلال توظيف المشاهد السينمائية إلى تفجير الفضاء المحدود لمسرح العلبة، وخلق البعد الرابع ذي الكواليس الحية، وكانت السينما – في تصوره – هي الكواليس الحية. فقد ساعدت الأحداث المعروضة على شاشات السينما على توسيع مغزى الصراع الدرامي.
أما من ناحية المعمار المسرحي لـ “المسرح الشامل” وفق تصور المعماري “جريبوس” أصبحت صالة الجمهور وكأنها المكان الرئيسي للأداء التمثيلي، ومن ثم فقد جهزت بقرص دوار يوجد عليه جزء من الصالة المدرجة إلى جانب خشبة مستديرة صاعدة – هابطة – ومن ناحية البهو، يضم هذا القرص جزءا تابتا من الصالة المدرجة، أما صفوف المقاعد التي في الجزء الثابت فهي موجهة باتجاه خشبة المسرح.(8)
إن أشكال الفضاء المعماري لمسرح جروبيوس تستدعي على نحو لإرادي- فكرة النظام الكوني، ففضاء القاعة، الذي يتخذ شكلا كرويا بيضاويا، وحركة الأرضيات في مدار الردهة الدائرية، يعطيان صورة للكون.
إن التيار الرئيسي في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة، وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح، إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجها فلسفيا،، فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرحي”(9).
من هذا المنطلق جاءت تجربة “مسرح الشمس” التي تأسست عام 1964 على يد “أريان منوشكين”، وأصبح مسرحهم “من أشهر المسارح في أوروبا، وقد سعى باستمرار وتصميم إلى أن يدخل تعديلات ممتازة في شكل الأداء المسرحي ونظرية المسرح باعتبار أن المسرح لونا من ألوان الممارسة الاجتماعية”(10).
واستمر تطوير الخشبة التقليدية وتحديثها بالتوازي مع تطوير الأشكال الجديدة للفضاء المسرحي.كل ذلك في محاولة لخلق حالة من الاندماج مابين الممثلين والجمهور ومن هنا ظهرت فكرة “المسرح البيئي”، والذي يعمل عن طريق خلق الشعور بمعايشة المكان، وقد أثارت هذه الفكرة بعض القضايا عن المعايشة مع ساحة العرض. فقد ولدت أعمال المخرج البولندي جروتسكي شعورا بالبيئة المعاشة من خلال استخدام حالة من المشاهدة. وقد ظهر ذلك من خلال تجربة جروتسكي د.فاوست عام 1963 عندما جلس المتفرجون بجانب الممثلين على مائدة حيث تعرض الأحداث.
وفي السنوات الأخيرة قدمت الفرقة البريطانية “أوبرا مبنى المحطة” عروضا في أماكن مختلفة، وبالنسبة لهذه الفرقة “فإن استخدام المعمار يشكل عنصرا أساسيا في عملها. ومن خلال سلسلة من العروض المستخدمة للطوب الحراري، أثارت الفرقة موضوعات معينة تختص بالعلاقات بين الأبنية والأشياء والحكايات ونظم العرض والطرق التي تم العثور عليها وبين تلك التي تم إنشاؤها.(12)
 ولذلك كان من الأطر الأولى لعملية التمرد المسرحي أن يقام في الفراغ فوجدنا – على سبيل المثال – كثيرا من الفرق المسرحية في أوروبا بدأت بتقديم عروضها في الشوارع والميادين العامة والحدائق، كما حدث في «باريس» حيث قدم كثير من المسرحيين التجريبيين عروضهم في محطات المترو الأنفاق وفي ساحات الجامعات وفي المصانع والشركات.
والتفكير في مثل هذا النوع من «المسرح المفتوح» جاء كبديل عن روتينية المسرح التقليدي «مسرح العلبة الإيطالي» الذي مل الجمهور منه وأعرض عن حضور عروضه نظرا لإفلاسه عن تقديم الجديد لأنه من المعروف أن المسرح الحقيقي يقوم على الإدهاش والمفارقة، وهذا ما يفتقده المسرح التقليدي ذو المعمار الكلاسيكي.
وفي العالم العربي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي حركة مسرحية تنادي بالخروج عن الأطر الشكلية للمسرح والعودة إلى الموروث الشعبي كقناع فني للتعبير عن الواقع, وظهرت مجموعة من الكتابات النقدية التي تدعو لذلك مثلما فعل توفيق الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» والذي حاول أن يطبق رؤيته في جماليات المسرح الجديد على نصوص عالمية، لكن هذه الطريقة – من وجهة نظري – لم تحقق ما كان يهدف إليه الحكيم نفسه فظلت هذه النصوص على كلاسيكيتها وجمودها، وتوقفها عند لحظتها التاريخية، لأنها لا تصلح للتعبير عن الواقع الذي أعيدت فيه صياغتها.
ومن هذا المنطلق ظهرت في مصر مجموعة من الفرق المسرحية التي استفادت من هذا التوجه، فمن الذين التقطوا هذه الرؤية وحاولوا تطبيقها في مصر المخرج أحمد إسماعيل والذي تعتبر تجربته من أكثر التجارب استمرارية وحفرا في أرض الإبداع المسرحي من خلال تقديمه لنموذج مسرحي خاص بقرية “شبرا بخوم” إحدى قرى محافظة المنوفية، ولأنه ابن هذه القرية فقد تزامن اهتمامه بالنشاط المسرحي مع التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج منه عام 1975، حيث قام مع صديقه الراحل أحمد عبد العظيم بتأسيس الفرقة عام 1973 وهو لم يزل طالبا بالفرقة الثانية وفى الفترة ما بين 1973 إلى 1977 قدمت الفرقة عدة عروض عبارة عن مسرحيات ذات فصل واحد، بالإضافة إلى تقديم مسرحية “الزوبعة” تأليف محمود دياب والتي كانت بمثابة ختام للمرحلة الأولي.
وفى عام 1977 سافر المخرج أحمد إسماعيل لدراسة المسرح في فرنسا عاد بعدها عام 1979 ليجدد فى الإطار التنظيمي للفرقة من خلال الإبداع الجماعي، الذي يقوم على جمع كل ما يتعلق بالقرية من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وعلى المستوى الفني كل ما يتعلق بفنون الأداء الشعبي من جمع للأغاني والحكايات الشعبية مع إعلاء قيمة المقاومة، للأغاني الشعبية والأمثال والمواويل والحكاوي.
وقد تم تدعيم الفرقة بالمواهب الفنية الفطرية لدى الفلاحين الذين وصل عددهم – فى ذلك الوقت – إلى عشرين رجلا وأربع فتيات، وفى هذا الإطار تم تقديم عدة عروض كان من أهمها “سهرة ريفية” وهى “تجربة في الإبداع المسرحي الجماعي”، قدمت على ثلاثة أجزاء أعوام 1982، و1984، و1986 وقد لاقت هذه التجربة كثيرا من الاستحسان النقدي.
وكذلك “جماعة مسرح الشارع” التي بدأت نشاطها المسرحي في الفترة ما بين 1976 و1980 على يد مجموعة من عشاق المسرح الذين بدأوا الفكرة بإرهاصات فنية على مسرح جامعة القاهرة عامي 1975 و1976 وكان منهم ناصر عبد المنعم وأحمد كمال ومنحة البطراوي وعبدالعزيز مخيون وناجي جورج ومها عفت وأحمد فؤاد وخالد وشاحي ومحمد صفي الدين ومحمد العزاوي وهشام العطار وهاني الحسيني ومصطفى زكي وحسين أشرف ـ مني سعد الدين ـ محمد عصمت سيف الدولة ـ ومنى صادق سعد ـ عبلة قاسم ـ وسميحة قاسم ومحمد الفرماوي وفاطمة الصياد وليلى سعد، وانضم إليهم بعد ذلك عبلة كامل وأحمد مختار وصلاح عبد الله.
ومن هذه التجارب فرقة ومضة التي تتكون من مجموعة من الفنانين الشباب المستقلين ممن يرغبون التأكيد على الاستقلال الثقافي والمعرفي، تلك الرغبة التي نبتت لديهم من قناعتهم التامة بأن لدينا ما يستحق الوجود من خلال خبراتهم وترحالهم، فمدير الفرقة ومؤلف عروضها هو الناقد “د. نبيل بهجت”، وأبرز أعضاء الفرقة هو الممثل والمخرج الشاب “محمد كريم عبد الغني” الذي يعد لنيل درجة الدكتوراه في مسرح الشرق الأقصى بجامعة كوريا في سيول بكوريا الجنوبية. تنطلق الفرق من معطيات التراث للتأكيد على أن لدينا ما نستطيع أن نعبر به عن أنفسنا بشكل يحررنا من مفاهيم العجز الذي يفرضها علينا شكل التلقي للنموذج الغربي.

الهوامش:
7 - إيروين بيسكاتور: مسرح المعاصرة والمستقبل – مجلة المسرح المعاصر- العدد 5، ص100.
8 - فاديم بازانوف: مرجع سابق ص127.
9 - كريستوفر اينز: المسرح الطليعي – ترجمة سامح فكري – مركز اللغات والترجمة- أكاديمية الفنون – القاهرة1996. ص11.
10 - دافيد وليامز: مسرح الشمس –ترجمة أمين حسين الرباط –أكاديمية الفنون- مركز اللغات والترجمة -القاهرة – 1999، ص5.
11 - إما جوفان، هيلين نيكلسون، كيتي نورمينجتون: صناعة العرض المسرحي – ترجمة د.إيناس عبد الخالق- مراجعة د. وجدي زيد- مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي – ص211.
12 - مرجع سابق ص216.


عيد عبد الحليم