عن الطفل الذي أقام دعائم الفكر المعاصر

عن الطفل  الذي أقام دعائم الفكر المعاصر

العدد 528 صدر بتاريخ 9أكتوبر2017

 على الرغم من مكان الصدارة الذي يشغله ألفريد جاري في موجة الحداثة والتجديد في مختلف فنون الأدب والمسرح بالذات ، ليس في فرنسا وحدها وإنما في العالم أجمع ، أقول على الرغم من ذلك فإن هذا الكاتب الشاب يكاد أن يكون مجهولاً تماماً بالنسبة لنا على المستوى الأكاديمي التخصصي ، وعلى المستوى الثقافي العام .
 وإذا كانت هذه حقيقة تثير الأسف ، فإن ما يزيد من حدة هذا الأسف هو مرور أكثر من قرن من الزمان على ظهور المسرحية التي كتبها « ألفريد جاري» وعرضها على أحد مسارح باريس، ليقيـم الدنيا ويقعدها في أكبر معركة أدبية وفنية بعد معركة هرناني وفيكتور هوجو .  وإحقاقاً للحق أقول إن القارئ العربي استطاع قبل سنوات قليلة الحصول على ترجمة الأعمال المسرحية لألفريد جاري بفضل سلسلة « من المسرح العالمي « التي تصدر في الكويت والتي نشرت هذه الأعمال في ثلاثة أعداد متتالية .*
_________________________
* الأعداد 191 ، 192 ، 193 . وهي من ترجمة كاتب هذه السطور .
 بعد نشر هذه الترجمة بأربع سنوات، قامت فرقة مسرح الهناجر الناشئة في القاهرة بعرضها بعد تمصيرها ، على مسرح المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة .  وبعد ذلك، قامت الفرقة المسرحية المذكورة بتقديم هذا العرض ضمن عروض مهرجان المسرح العالمي في ديجون بفرنسا ، بوصفه العمل الذي يمثل مصر في هذا المهرجان العالمي .
 ولكي نحكم على أهمية ألفريد جاري في الخارج ، إذا استثنينا وطنه فرنسا ، نجد في إنجلترا مثلاً أكثر من عشر ترجمات مختلفة لأعماله ، وحوالي عشرين كتاباً متخصصاً في هذا الكاتب وأعماله . كما أن المسارح الإنجليزية قدمت مسرحياته أكثر من عشرين مرة ، عن طريق فرق محترفة ، بالإضافة إلى عدد من العروض لبعض فرق الهواة وأغلبها من الطلاب .
 وأول ما يلفت النظر في ألفريد جاري ويجبرنا على الاهتمام به والاستفادة من دراسة أعماله ، هو أن مولد المسرح السريالي لم يبدأ ، كما يظن الكثيرون ، بصدور المنشور الذي أعلن عن مولد هذه الحركة في عام 1924 . كذلك فإن حركة الطليعة المشهورة لم تبدأ في الخمسينيات كما هو شائع , وإنما كانت البداية الفعلية لهاتين الحركتين ( السريالية والطليعة) في عام 1896, وبالتحديد ليلة العاشر من ديسمبر , حينما قام «الفريد جارى» , ابن السابعة عشرة بتفجير قنبلته المسرحية بعنوان أوبو ملكا في أهم مسرح في العاصمة الفرنسية , حينما دوّت أقذر كلمة يمكن أن يسمعها إنسان في قاعة « مسرح اللوفر « , أمام جمهور الطبقة الراقية في باريس ، الكلمة التي أطلقها في بداية العرض بطل المسرحية ، وكأنه يوجهها إلى الجمهور الذي فقد توازنه من شدة الصدمة .
 وقبل أن نستطرد في الظروف التي واكبت هذا العرض الغريب ، ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلاً ، إلى طفولة الكاتب نفسه ، حينما كان طالباً في المدرسة الثانوية ، فهناك وحينذاك اكتشف الكاتب الناشئ بطله الأسطوري ، الذي أصبح فيما بعد سمة مميزة ليس للأدب الحديث وحسب ، وإنما للعصر الذي نعيش فيه بكل شمائله .
 كان من حظ مدرسة « رين « الثانوية في أواخر القرن الماضي أن عمل بها مدرس للفيزياء أسمه « هيبير « . كانت أجيال الطلاب التي تخرجت في هذه المدرسة تعرف هذا المدرس حق المعرفة . فقد كان هذا المدرس « مسخرة « المدرسة وأضحوكة الطلاب ، بحيث أصبح على مر أجيال الطلاب أشبه بالأسطورة الحية بسبب حركاته المزرية ، وطريقته الغريبة في الكلام ، وتصرفاته مع الطلاب وإدارة المدرسة . بذلك أصبح هذا المدرس مادة خصبة استطاع نفر من الطلاب الموهوبين أن يصوغوا منها بعض المشاهد التمثيلية التي كانوا يؤدونها فيما بينهم في فناء المدرسة أو في منزل بعضهم . ولقد صنع الطالب ألفريد جاري صنيع زملائه فسخر من مدرسه المسكين وأشبعه زراية وتحقيراً ، وكان أن شارك في صياغة مسرحية من نوع الفارس بعنوان « البولنديون» بطلها هذا المدرس المأفون . وكان ذلك هو المادة التي استثمرها الطالب ألفريد جاري فيما بعد ليصنع منها تحفته الشهيرة بعنوان « أوبو ملكا» .
 نشر جاري أجزاء من هذه المسرحية في بعض المجلات الأدبية المعروفة في ذلك الوقت ، ولكنه كان يدرك تماماً أن هذا العمل لابد أن يعرض على منصة المسرح ، بل والمسرح الطليعي في ذلك الوقت . فلم يتردد في العمل سكرتيراً لمدير « مسرح الأوفر» ، وهو المخرج المشهور بالحداثة وبالجرأة في تقديم الأعمال الغريبة « لونْيي بو « . وقام جاري بتقديم نسخة من المسرحية للمخرج المدير ، وتظاهر بقبول جميع الاعتراضات التي أبداها المخرج . وحاول تذليل كافة العقبات التي تحول دون تنفيذ العرض .
 وتحقيقاً لهذا الهدف ، عرض جاري على مدير المسرح مجموعة من الاقتراحات نوجزها في النقاط التالية . ومن الجدير بالذكر أن هذه الاقتراحات أصبحت فيما بعد من الأسس الرئيسة التي قام عليها المسرح المعاصر .
بدأ جاري اقتراحاته بالاقتصار على ثلاثة شخوص رئيسة .
واقترح جاري عمل قناع « ماسك » للشخصية الأساسية .
كما اقترح استخدام رأس حصان من الكرتون ، يعلقها الفارس في رقبته ، لتغني عن استخدام الحصان الحي .
كما رأى جاري توحيد الديكور ، على أن يظهر شخص عند تغيير المنظر يحمل لافتة تشير إلى مكان الحدث .
كذلك عرض جاري على المدير الاقتصار على جندي واحد ليرمز إلى جيش بأكمله .
ولم ينس جاري أن يوصي باستخدام نبرة صوت معينة يختص بها بطل المسرحية.
وأخيراً اقترح جاري استعمال الملابس العصرية حتى لا يحبس نفسه في دائرة المحلية المحدودة ، وحتى يتيح للمسرحية أن تعبّر عن « حقيقة خالدة » .
 هذه الاقتراحات التي عرضها جاري على مدير المسرح ، إن دلت على شيء فإنما تدل على ذكاء الكاتب الناشئ ولباقته ، فقد كان جاري على دراية كاملة بكافة الصعاب المادية والفنية التي كان يعانيها « مسرح الأوفر» . هذا بالإضافة ، كما سبقت الإشارة ، إلى أن هذه الأفكار المقترحة كانت سابقة لعصرها ، وبخاصة فيما يتعلق بمبدأ أصبح معمولاً به وبصفة أساسية في المسرح المعاصر ، وهو مبدأ التقشف، سواء في عدد شخوص المسرحية أو في عناصر الديكور .
 وبذلك نجح ألفريد جاري في أن يكسب مدير المسرح والمخرج إلى صفه ويجعله يفكر جدياً في تنفيذ المسرحية . ولم يكتف جاري بذلك ، بل ظل يوالي المخرج بالنصيحة والرأي للتغلب على أية عقبة أو مشكلة يمكن أن تؤثر بالسلب على عرض المسرحية .
 ونستطيع الآن أن نعود إلى ليلة العرض الأولى للمسرحية ، إلى تلك السهرة الخالدة في تاريخ المسرح . وذلك لكي نلم بأحداثها وظروفها وملابساتها ، ليس من قبيل الفضول ، وإنما للآثار العميقة التي أفرزتها هذه الظروف وانعكست على الأدب والمسرح والفنون المختلفة منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم .
 يقول أحد النقاد الذين شهدوا هذا الحدث : « كانت القاعة تموج بالحضور كأجمل أيام الرومانسية . كانت ، مع الفارق ، معركة أشبه بمعركة مسرحية « هرناني» ، بين شبان المدرسة الرمزية وبين النقاد البرجوازيين التقليديين ، وكان هناك في مقدمة الحضور جميع أقطاب السياسة ورجال الأدب . »
 هذا الوصف الإجمالي نفصله فنقول : قبيل رفع الستار بعشر دقائق ، تقدم كاتب المسرحية ألفريد جاري بكل هدوء وكله حزم وعزم ، ليواجه الجمهور الغفير ويلقي كلمة الافتتاح ، يحاول فيها أن يخفف من غلواء المتحمسين له وللمسرحية ، ولكي يقول للمتربصين به من الأعداء ومن اللامبلالين بكل الفريقين ، إنه أراد بهذه المسرحية أن يقدم لهم « كل ما في العالم من غرابة ونشاذ « . ثم يستطرد قائلاً : « لذلك فأنتم أحرار في الحكم على شخصية « أوبو » بطل المسرحية ، لكم أن تفسروها على النحو الذي تحبون ، ولكم أن تروا فيها مجرد قره قوز ، صورة مشوهة رسمها طالب شقي لأستاذه الذي يمثل في نظره كل ما في العالم من غرابة ونشاذ .
 ومن الغريب أن العرض في حد ذاته لم يكن مفاجأة للجمهور ، فقبل ليلة العرض ، كانت الأوساط الأدبية تتحدث عن مسرحية يستعد المخرج « لونْيي بو « لعرضها على جمهور باريس ليحث بها رجة شديدة . كما أن بطل المسرحية وبطلتها وهما الأب أوبو والأم أوبو ، كانا معروفين عند بعض النقاد وبعض قراء الجريدة الأدبية الشهرية « كتاب الفن « التي كانت قد نشرت أجزاء من المسرحية . هذا بالإضافة إلى أن المسرحية كانت قد نشرت في شهر يونيو من العام نفسه .
 ولكن ذلك كله لم يمنع الفضيحة التي وقعت ليلة العاشر من ديسمبر 1896 . في تلك الليلة صدم جارى جمهور المسرح المحافظ , ووجه لطمة شديدة إلى التقاليد الفنية والأعراف المسرحية , وذلك عن طريق الوسائل المسرحية نفسها . لقد ترك العنان لخياله الخصب ، وأطلق ملكاته الإبداعية من كل القيود , ليفتح الباب على مصراعيه أمام الدهشة والغرابة , وذلك بإلغاء كل عنصر مادي يربط المتفرج بالواقع .
 كان اللفظ أو الكلمة merdre التي استهل بها الممثل « جيمييه « الذي كان يؤدي دور « أوبو» هي الشرارة التي أشعلت المعركة .
 على مدى خمس عشرة دقيقة لم يتمكن أحد في المسرح من سماع كلمة واحدة ، فقد غطى الصراخ والضجيج والعويل والتصفيق على الممثلين . وقد وجد الطليعيون في العرض فرصتهم للحضور والتظاهر . أما المحافظون من الجمهور فقد غادروا المسرح.
 أما بالنسبة للكاتب الناشئ ، فقد كان كل شيء مدروساً ومحسوباً . لقد سعى جاري لتقديم عرض مسرحي من شأنه وحده أن يستثير مشاعر الباريسيين ويستفزهم . وقد جاءت الكلمة الأولى في المسرحية لترمز لهذه العدوانية . فحقيقة الأمر أن الجمهور هاج وماج لأن المؤلف أراد أن يتعدى على أغلى شيء يعتز به هذا الجمهور ، ألا وهو الأوهام التي تهدهده وتمنيه . فبينما كان الجمهور متهيئاً لسماع الألفاظ العذبة الرقيقة ، إذا بالألفاظ الغثّه والعبارات النابية تؤذي أسماعه . لقد جاء الجمهور ليستمتع بالنكات اللطيفة والمُلَح الراقية ، فلم يجد سوى البذاءات والسخافات السوقية الوضيعة . كان ذلك إعلانا بانتصار العبث واللا معقول على التقاليد والأعراف . لقد شملت المفاجأة الممثل الأول الذي كان يؤدي دور البطولة ، فقد جعل الجمهور يرفعه إلى قمة الإعجاب تارة ثم ينزله إلى حضيض التحقير والازدراء تارة أخرى ، وقد تملك الارتباك الممثل واستولي عليه الذهول فلم يجد مخرجاً مما هو فيه إلا أن يندمج في رقصة مجنونة فرض بها الصمت على الحاضرين . ولم يتوقف حتى سقط جالساً فوق كوشة الملقن وساقاه في الهواء في مواجهة الجمهور .
 ومع كل فقد حدث في تلك الليلة شيء لا سبيل إلى إنكاره ، هذا الشيء هو ثبوت نهاية عصر مسرحي وبداية عصر مسرحي جديد . لقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مسرحية «أبو ملكاً» حدث بارز ، وأن كاتبها الشاب هو رائد لجميع كتاب المسرح الجديد ، كما يؤكد ذلك الناقد الإنجليزي برونكو في كتابه « المسرح التجريبي في فرنسا « حيث يقول :
 « كانت مسرحيات أوبو وراء مسرحيات الطليعة في فرنسا اليوم ، بفضل السرف والشطط الذي يميزها ، والغرابة والنشاذ والمبالغة ، وكذلك بساطة التشخيص ، والهجاء الاجتماعي اللاذع ، وحرية التداعيات اللغوية … إن الضحك الذكي الذي ولّده جاري هو الضحك نفسه الذي يتفجر في قاعات المسرح التي تُعرض فيها اليوم مسرحية في « انتظار جودو» لبيكيت ، ومسرحية « الدرس « ليونسكو»
 وحقيقة الأمر أن المسرحية حافلة بالأفكار الثورية على مختلف المستويات . فشخصية البطل « أوبو « غنية بالرموز المختلفة بحيث إنها ترقى إلى مصاف الأسطورة بكل ما تعنيه الكلمة . وهذا هو الناقد الشهير « رولان بارت « يؤكد هذه الحقيقة قائلاً :
 « مع سوء الأدب الذي تتسم به هذه المسرحية ، فإنها كانت وراء ميلاد عالم غريب من النماذج البشرية . إنها إحدى الأساطير النادرة في العصر الحاضر «
 وهاهو الشاعر العظيم « مالاّرميه « الذي شهد العرض الأول للمسرحية وكان ما يزال شاباً في مقتبل العمر ، يقول موجهاً خطابه للكاتب الناشئ ؛ موجزاً في عبارات قليلة الإعجاز الذي حققه ألفريد جاري . يقول مالارميه :
 « لقد استطعتَ بما يشبه المعجزة ، أن تصوغ بيديك من طينة نادرة . شخصية أسطورية هي وأهلها ، وتجعلها تقف على قدميها على أرض راسخة ، وذلك كما يصنع النحات المسرحي الماهر الواثق . ولقد دخلت هذه الشخصية في عداد القائمة التي تضم منجزات الذوق الرفيع ، وهي لا تفتأ تؤرقني «
 أما « جاك كوبو « المخرج الكبير وأحد رواد الطليعة والذي كان ما يزال شاباً في السابعة عشرة من عمره ، فقد سجل رأيه في المسرحية ، ولكن بعد أن أصبح واحداً من أكبر المخرجين في العالم . يقول « كوبو « :
 « أيّا كان تفسيرنا لهذه المسرحية ، فإنها عمل مسرحي مائة في المائة ، إنها كما نقول اليوم ، من المسرح الخالص ، المسرح الكلي الشامل ، تدفع بالمسخ والتحول إلى أبعد الحدود» .
 وهذا هو « أندريه جيد « الروائي الكبير وشيخ الكتاب الفرنسيين خلال الثلث الثاني من القرن العشـرين ، وكان ممن حرصوا على حضور العـرض الأول ، يقـول في مذكراته :
 « لا يمكن أن نذهب بالرفض إلى أبعد مما ذهب إليه الكاتب في هذه المسرحية .»
 أما « أندريه بروتون « . الأب الروحي للسريالية ، فقد بادر بالإعلان عن انتساب « ألفريد جاري « للسريالية ، بل جعله رائداً من روادها . ثم سجل رأيه في المسرحية في جملة صارت علماً عليها ولازمة لها :
 « إنها أكبر مسرحية نبوئية وانتقامية في العصور الحديثة «
 أما الكاتب نفسه فلم يتردد عن إعلان هدفه من كتابة هذه المسرحية وعرضها ، وذلك ضمن الكلمة الافتتاحية التي سبقت العرض الأول ، يقول جاري :
 « لقد أردت أن ترفع الستار فإذا المنصة أمام الجمهور كالمرآة … يرى الذميمُ الرذيلُ خلالها صورته وهو بقرنيْ ثور ، وجسد أفعوان ، وذلك بقدر بشاعة ما به من رذائل «
 كذلك كان هدف جاري ، كما اعترف بنفسه بذلك :
 « أن يصفع الجمهور على وجهه حتى يزمجر كالدب فنتعرف مكانه ومكانته «
 ومن الجدير بالذكر أن مسرحية « أوبو ملكاً « لا تشكل ثورة على المستوى الفني وحسب . ولكن هذه المسرحية العجيبة تمثل صرخة حرب ضد مفاهيم البرجوازية وتقاليدها وأعرافها الجامدة وقواعدها العتيقة . ومن ثم كان استفزازها للجماهير العريضة وإثارتها لغضبها وحفيظتها . وقد وضع الناقد الذكي « كاتول مينديس « إصبعه على سبب ذلك حينما وصف شخصية أوبو الوحشية المزرية بقوله :
 « إنها الغباء البشري الخالد ، والترف الخالد ، والشراهة الخالدة ، ودناءة الغرائز التي استحالت إلى طغيان «
 وهذا ما أكده السرياليون فيما بعد ، حينما اكتشفوا في هذه الشخصية التعبير عن اللاوعي أو اللاشعور ، أو كما يقول « أندريه بروتون « نفسه : التجسيد الرائع للأنا في مفهوم كل من نيتشه وفرويد ، وهو مجموع القوى المجهولة المكبوتة في اللاشعور .
 لقد اكتشفت السريالية ، والدادية من قبلها ، أن ألفريد جاري في هذه المسرحية يعبّر عن حقيقة معتقداتهما ويعكس طبيعة المفاهيم التي تقوم عليها كل من المدرستين .
 نضيف إلى ذلك أن جماعة من رواد التجديد في المسرح ، على رأسهم « أنتونان أرتو « ، و « روجيه فيتراك « ، وتعبيراً عن اعترافهم بفضل « ألفريد جاري» على الحركة المسرحية ، قاموا في عام 1926 بتأسيس مسرح جديد يحمل اسم « ألفريد جاري» لتقديم الأعمال المسرحية الطليعية من نوع « أوبو ملكاً » .
 وكان من الطبيعي بعد هذه الثورة التي « ألفريد جاري « أن يترك بصمات واضحة على كتاب المسرح من بعده وسائر العاملين في هذا المجال . وقد أفاض الناقد المعاصر « أندريه بيهار « في الحديث عن هذه التأثيرات في كتابه الممتاز بعنوان « جاري كاتباً مسرحياً « . ونشير هنا فقط إلى بعض أهم الأسماء التي يدين أصحابها بالكثير لهذا الكاتب الشاب : أولاً « أبوللينير» و«روجيه فيتراك » و«أنتونان أرتو» الذين تأثروا بشكل مباشر بأعمال جاري ، ثم وعن طريقهم ، انتقل التأثير إلى المعاصرين ومن أشهرهم « صمويل بيكيت» و«أوجين يونسكو» و«جان تارديو» و«جان جينيه» و «آداموف» .
 ومما يجدر التنويه به أن أعمال « ألفريد جاري » المسرحية وهي جميعاً تحمل اسم «أوبو « وتدور في فلك هذا البطل الأسطوري ، ظلت بالنسبة لرجال المسرح وللمخرجين بنوع خالص كالوحش المخيف الذي يتهيبون الاقتراب منه ، حتى جاء المخرج الجريء «جان فيلار» مديراً للمسرح القومي الشعبي في فرنسا ، فكان أول من اهتم بأعمال «جاري» بعد العرض اليتيم الذي قُدم في عام 1922 . ففي الخامس من مارس عام 1958 قدم فيلار أوبو ملكاً على المسرح القومي لأول مرة ، وعهد بدور البطولة إلى الممثل الكبير « جورج ويلسون « الذي قام به بصورة رائعة أشاد بها نقاد المسرح . وقد سئل «جورج ويلسون « عن رأيه في المسرحية ، وكاتبها فقال :
 « إن قيام جاري بتحطيم الأصنام والأوثان التقليدية جعل منه بكل جدارة . رائداً للسرياليين ، وربما أيضاً لمن جاءوا قبلهم»
 وإذا كان الجميع متفقين على مكانة « أوبو ملكاً « من المسرح الحديث فيجعلونها أساس الثورة التي أدت إلى المفهوم الجديد للمسرح بمسمياته المختلفة ( الطليعة ، اللامعقول ، العبث …الخ) فنحن نؤيد هذا الإجماع.
 ولكننا قد نذهب إلى أبعد من ذلك ، لأننا نرى أن حصر أثر جاري على مجال المسرح هو من قبيل الغبن لهذا الكاتب الفذ . أولاً لأن « جاري » ليس كاتباً مسرحياً وحسب ، بل هو شاعر أيضاً ، كما أن له إنتاجاً روائياً ونقدياً . وهو في كل هذه المجالات مبدع ومجدد . لذلك فمن الإنصاف أن نقول إن « ألفريد جاري « ليس فقط مبعوث المسرح الحديث ، وإنما هو باعث العصر الحديث بقيمه ومعتقداته . و» أوبو ملكاً » في حد ذاتها تعبير عن الوضع البشري المأساوي الحديث . فهي الحد الفاصل بين المفاهيم الإنسانية التي تعارف البشر عليها وكانت سائدة قبل ظهور هذه المسرحية ، وبين القرن العشرين أو العصر الحديث بما يحمل من مفاهيم جديدة ، أو بمعنى أصح « لا مفاهيم « هي أيضاً سمة العصر ، وأساسها الاعتقاد بانفلات العالم من عقله أو تخليه عن ضميره . إن أوبو ملكاً هي رمز للإنسانية المجنونة كما تؤكد ذلك الناقدة تيزو براون في كتابها « أزمة الإنسانية» حيث تقول :
 « إن أوبو قوة غاشمة ، خالية من المشاعر ، إنسان آلي حديث بمعنى الكلمة ولعله يرمز للقوى الخارقة العبثية التي تقود العالم بعد أن كفر الغرب وأنكر الغيبيات ، وتنكر للإنسانية وتجاهل العواطف البشرية» .
أهم المراجــع
JARRY A., Tout Ubu. Paris, Le Livre de poche, 1962.
APOLLINAIRE G., Chroniques d’art (1902-1918). Paris, Gallimard, 1960.
ARTAUD A., Oeuvres completes, Paris, Gallimard, Tome I, 1956, Tome II, 1961.
BEHAR H., Jarry, le monstre et la marionette, Larousse, coll. “ Thèmes et textes ”, 1972.
ONIMUS J., Beckett, coll. Les écrivains devant Dieu, Desclée de Brouwer, Paris, 1968.
PIA P., Apollinaire par lui-même, Paris, Le Seuil. 1958, coll. “Ecrivains de toujours”.
PRONKO L., théâtre d’avant-garde, Denoël et L. C. Pronko, 1963.
SERREAU G., Histoire du “nouveau-théâtre”. Paris, Gallimard, 1966, coll. “Idées”.
VERNOIS P., La Dynamique Théâtrale d’Ionesco, Klincksieck, Paris, 1972.
IONESCO E., Notes et Contre-Notes, Gallimard, 1962.


حماده إبراهيم