«العذراء والموت».. سيمفونية القهر والظلم

«العذراء والموت».. سيمفونية القهر والظلم

العدد 638 صدر بتاريخ 18نوفمبر2019

في الأنظمة الاستبدادية وفي ظل غياب العدالة والحرية قد تتبدل الأدوار مابين الضحية والجلاد. فقط عندما تأتي الفرصة لذلك حين ذلك لايكون هناك معنى لشعارات مثل الديمقراطية والحرية وغير ذلك من المسميات التي تدعيها تلك الانظمة.. لأن الضحية حينئذ لن تفكر فيها. فقط تريد أن تقتص من جلادها لكي تستطيع أن تحيا وتكمل حياتها.. ويأتي قمة الظلم عندما يأتي التعذيب على أنغام الموسيقى ولابد من تظاهر الضحية بالتلذذ والانسجام.
حول هذا المعنى جاءت مسرحية العذراء والموت للكاتب التشيلي دروفمان والذي نسج خيوط مسرحيته واستقي مادتها الدرامية من أحداث واقعية قد عاصرها هو بذاته.. أي أنها تمثل تجربة حياتية بالنسبة للكاتب في أواخر القرن العشرين في مدينة (تشيلي) حينما ازيح الستارعن قضية المفقودين. لنكتشف انهم ضحايا للنظام السابق آنذاك، حيث التعذيب داخل المعتقلات. التعذيب بشتى الوسائل من صدمات كهربية واغتصاب وغيرها من انواع التعذيب المتعددة. ولكن هنا داخل الأحداث نجد أن التعذيب يأتي على أنغام إحدى سيمفونيات شوبرت (العذراء والموت) وتكتشف أن المشرف على التعذيب والاغتصاب هو الطبيب الذي يخالف مهنتة المقدسة ويساعد على تعذيب وسلب حرية وآدمية المعتقلين. ليصبح هو الجلاد التي تبحث عنه الزوجة (باولينا) طيلة خمسة عشر عاما. تنتظر لحظة القصاص من مغتصبها ومن تلذذ بتعذيبها على أنغام الموسيقى. لتكون المفارقة هنا أن يكون زوجها (جيراردو) هو من يجلبه إلى المنزل.، حيث تتعطل سيارته أثناء عودته من اجتماع معا الرئيس، حيث تم تكليفه بالتحقيق في جرائم النظام السابق ويقوم الطبيب (روبرتو) بتوصيله إلى المنزل مما يدفع (جيراردو) إلى استضافته حتى الصباح لإصلاح سيارته وتوصيله إلى الخارج.
الزوجة التي تعاني من الألم نتيجة القسوة تصبح غير اجتماعية تعاني من مشكلات نفسية يحتد الحديث بينها وبين زوجها حول طبيعة عمله. فهي أصبحت لاتؤمن بالشعارات التي يرددها كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتي هو نفسه لا يؤمن بها ولكنها وظيفته. هي فقط تنتظر لحظة القصاص لكي تستطيع أن تعيش وتنجب أطفالا. فتتسلل إلى الضيف النائم والتي تشك به وتألف نبرات صوته وتسرق مفاتيح عربته وتذهب إليها لتجد شريط كاسيت عليه موسيقى شوبرت التي تم اغتصابها على انغامها فتتأكد انه هو. هنا فقط تشعر بالانتصار ومع ذلك فهي لاتريد إيقاع الظلم عليه وتريد تحقيق العدالة التي افتقدتها أثناء التحقيق معها.. فتحاول أن تنتزع الاعتراف منه.. هذا الاعتراف هو بمثابة العدالة من وجهة نظرها ويساعدها زوجها في ذلك.
وعن طريق الحيلة يقوم الطبيب بالاعتراف ظنا منه أن في اعترافه نجاة من الموت على يد هذه الزوجة التي يراها مختلة عقليا.
المسرحية واقعية تحمل أبعادا اجتماعية ودلالات سياسية قدمت على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح في دورته (12)
فنجد بداية من الديكور بمفرداته الواقعية الذي يعبر عن الطبقة الاجتماعية التي تعيش فيها هذه الأسرة المكونة من الزوج والزوجة. فنجد على يسار المسرح غرفة المعيشة التي تتكون من صالون أنيق أمامه منضدة صغيرة وعلى الجانب الايسر من المسرح نجد غرفة الطعام وضع عليها بعض الاكسسوارات المكونة من ملاعق وبعض الأطباق. في الخلفية نجد شباك يعبر عن مدخل شرفة على شكل مربعات حديدية. تستغلها الزوجة فيما بعد أثناء الحديث إلى الطبيب من وراء ذلك الشباك وكأنها القضبان الحديدي التي سجنت وراءه وظلت تعيش فيه على مدار السنوات الماضية ولا تستطيع الخروج منه. لايوجد قطعة ديكور وضعت فوق خشبة المسرح مجانية. فقد استغل الممثلين كل الموتيفات والإكسسوارات الموجودة والتي تم توظيفها لخدمة العرض واستطاع الممثلين التنقل بين الديكور والتعامل معه باحتراف.
اما عن الملابس فقد اتسمت بسيادة اللون الاسود عليها لتعكس الجو العام والأجواء التي تدور فيها الأحداث. السواد هو الحياة التي تحياها الزوجة. فهي شبه حطام تحمل من مشاعر الحب لزوجها مايجعلها تريد الانتقام حتى تستطيع أن تعيش معه في سعادة وتنجب له الأطفال. الا ان حالتها النفسية قد انعكست على زوجها هو الآخر. فهو يعيش معها احزانها وهمومها ويحاول أن يجعلها تنسى ما حدث لكي تستطيع النظر إلى المستقبل. أما الطبيب فهو الآخر يعيش في سجن الروتين والواجب الذي سلبه آدميته وظيفته التي هي في الأساس إنسانية من الدرجة الأولى ليصبح سفاحا يشرف على التعذيب ولا أحد يستطيع الفرار. هذه الحياة التي تعيشها الشخصيات جعلت من اللون الاسود لونا مناسبا لها..
اما الموسيقى فقد استطاعت أن تحقق للمتلقي مايريده وما يحاول الممثلين توصيله.. فكانت في البداية هادئة مصاحبة لحوار الزوج والزوجة على العشاء. ثم فجأة تنتقل إلى التوتر لتعكس توتر الزوجة عند قدوم الضيف إلى منزلها. فهي على مدار سنين طويلة لم يأت أحد إلى منزلهم. فهي تعيش في عزلة.. هذا التوتر استطاعت الموسيقى مع الإضاءة أن تعكسه وتعكس كذلك الحالة النفسية للشخصيات. لتصل إلى قمة توترها وانفعالها في نهاية المسرحية وعند إطلاق صوت الرصاص.
ظلت الموسيقى والإضاءة يسيران متلازمين طوال أحداث العرض يدلان على حالة الشخصيات المزاجية. مما ساعد على توصيل الرسالة الى المتلقي والذي ظل طوال أحداث العرض يلهث وراء الحدث الدرامي في حالة من الترقب ساعده في ذلك أداء الممثلين الذي جاء كالسيمفونية يحاول كل واحد منهم أن يقدم أفضل مالديه من إمكانيات وكأنها مباراة تمثيلية .. الزوجة التي نتعاطف معها منذ البداية ليصل هذا التعاطف حد البكاء في ذروة الصراع.. الزوج الغير مبالي احيانا بمشاعر زوجته وأحيانا أخرى مبديا تعاطفه معاها والذي نراه في النهاية يقنعها بأنها مريضه لتأكده بأنها تعيقه عن أداء وظيفته الجديدة.. الطبيب الذي استطاع توصيل قلقه وخوفه في كثير من الأحيان وانتهازيته واستغلاله لمنصبه احيانا أخرى.
تضافر جميع تلك العناصر ساعدت على سرعة الإيقاع ووقوع المتلقي في حالة من الترقب والتطلع إلي معرفة الحقيقة. هل هذا الطبيب هو المجرم حقا ام لا؟ دون أن يشعر ولو لحظة واحدة بالملل. لتنتهي الأحداث بنهاية مفتوحة. فنسمع صوت طلقات الرصاص الذي لانعرف منه من هو القاتل ومن هو القتيل. وهل حققت الزوجة باولينا انتقامها من جلادها؟ ام ان الجلاد الذي انتصر في النهاية؟ تاركا الإجابة لدى المتلقي الذي وجب عليه التفسير حسب ايدلوجيته ومفرداته الخاصة وتفسيره لمفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية وقبلهم قضية الإنسان ذاته. لتظل قضية العرض هو علاقة الحاكم بالمحكوم أو الضحية والجلاد هي قضية الإنسان في كل العصور.


منار سعد