«الطوق والإسورة».. طرح قديم يصلح للآن

 «الطوق والإسورة».. طرح قديم يصلح للآن

العدد 636 صدر بتاريخ 4نوفمبر2019

الجدير بالذكر أن هذا العرض قدم لأول مرة عام 1996 ضمن فعاليات مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، ونال الاستحسان وحصل على الجوائز. وفي العام الماضي أعيد تقديم كل العروض المصرية التي حصلت على جوائز في التجريبي سابقا، لتكون ضمن إطار المعاصر والتجريبي حاليا ضمن الاحتفالات بيوبيله. وكان عرضنا من بين هذه العروض.
تعتبر رواية (الطوق والإسورة) من أشهر كتابات الراحل يحيى الطاهر عبد الله. صحيح أنها كانت في الأصل مجموعة من القصص القصيرة ثم جمعت كلها في سياق واحد ليكون هذا العمل الذي يلقي الضوء على تحكم التقاليد والمورثات والأعراف على العواطف والشعور الإنساني ومن ثم الحياة ذاتها.
وإذا كانت تلك الرواية ساهمت بشكل كبير في تبوء يحيى الطاهر مكانته، إلا أنها في نفس الوقت ساعدت على عملية الجفاء والقطيعة بينه وأبناء قريته؛ نتيجة تناوله للمسكوت عنه؛ وإبداء الحقيقة ورأيه فيها من وجهة نظره؛ التي تتعارض مع رؤيتهم.
والحقيقة أن سامح مهران إن لم يكن أول من تعامل مع هذا النص وحوله من حالة السرد للمسرح؛ فهو على الأقل من أولهم. ثم بعد هذا تتابعت المعالجات سواء مسرحيا أو سينمائيا، ولكن مهران لم يكتفي بمعالجة النص وإنما حاوره ومن ثم تعامل معه ليفرض وجهة نظره، لا وجهة نظر يحيى الطاهر. لذا لم يحمل العرض اسم مهران كمعد للنص ولكن صاحب الرؤية الدرامية للأحداث، وهذا من حقه، نتيجة ما قام به من حذف لأحداث يعتبرها الكثيرون مقدسة دراميا، ثم بالتعاون مع المخرج ناصر عبد المنعم وضعا هيكلا أساسيا لوجهة النظر التي تمثلت في محاكمة الحاضر من وجهة نظره، وكيف أنه، أي الحاضر، متمسك بتقاليد وعادات قديمة سواء كانت فرعونية أو عربية، موضحا أن هذا القديم على علاته ما هو إلا منبع لكل الشرور التي حاقت ببطلتي العرض، ثم في النهاية خلق صراعا بين كل تلك القوى في محاولة الاستحواذ على البنت/ المستقبل، تاركا لك السؤال فيمن سينجح منهم؟
الكل يعلم تقريبا فحوى الرواية سواء بالاطلاع أو بالمشاهدة عن طريق السينما أو المسرح، ولكن حتى وإن كان نص عرضنا هو الأول أو من الأوائل لمعالجة تلك الرواية إلا أنه يختلف عن بقية المعالجات الأخرى، حيث كان الرواة/ الكورس من الأبطال الأساسيين في العرض علاوة على عدم التركيز على التفاصيل الصغيرة في حياة الشخصيات، وإنما كان التركيز في كل ما يمكن أن يتصف بالعمومية.
فالعرض يبدأ باحتفال يستقبل المشاهدين قبل الدخول لمنطقة العرض. احتفال يقوم على الشكل التراثي، ثم الدخول لمنطقة العرض لتجد أن المحتفلين بالجمهور ومن استقبلوهم موجودون معهم. وبما أن منطقة العرض اتخذت شكل المنصة ذات الجانبين المرئيين من الجمهور، بحيث كانت في المنتصف والجمهور موجود في كلا الجانبين، أي أن كل جانب من الجمهور يرى العرض والجمهور المواجه له أيضا، وفي وسط كل جانب انقسم الرواة، ثلاثة من الرجال في جانب وثلاث من النساء في آخر، ليكون الأمر أشبه بأنك لم تشاهد عرضا لهم بل انضممت إليهم؛ سواء كان في الرواية أو الفعل أو الاكتفاء بالمشاهدة في بعض الأمور. على الجانبين الآخرين كان منزل حزينة وفي المقابل له كانت منصة تصور المعبد الفرعوني وكل ما هو خارج عن نطق هذا المنزل. وهناك ممر أو جسر بين المكانين حيث كانت تفوم تقريبا كل الأحداث المؤشرة على تطور الحالة سواء سلبا أو إيجابا.
نرى حزينة الأم الفقيرة وبجانبها ابنتها/ فهيمة، والأب مريضا؛ يلوكون فقرهم مع الحلم بعودة الغائب الابن/ مصطفى. يموت الأب وتتزوج فهيمة من الحداد، ولكنه كان عاجزا عن القيام بما يتطلب منه؛ فتأخذها الأم للمشعوذ ولكن لا فائدة، ثم للمعبد الفرعوني لتبيت هناك طبقا للمتواتر، فيتم الانتهاك هناك. وعلى عكس الرواية، هنا تقوم فهيمة بإخبار الزوج بما حدث معها، فيكتفي بردها لمنزل أمها. تلد فهيمة؛ ويعترف الأب بها نظرا لقبوله الإنفاق عليها. ويأتي زميل للغائب يحدث ما بينه وفهمية شيء من انجذاب وتوافق، ولكنه يخبرهم أنه والغائب يعملان مع الجيش الإنجليزي. وأن الغائب سرعان ما يعود. تمرض فهمية وتموت، وينتحر الأب بعد فشله في زواجه الثاني. ويأتي مشهد النهاية حيث يتصارع الأفراد/ القوى المجتمعية على الوصاية على الابنة.
في المقابل، كانت هناك الكثير من التدخلات لأفراد الكورس الذين هم – طبقا لرؤية مهران وناصر - بيننا ومنا في نفس الوقت؛ حيث يروجون لبعض الخرافات؛ ويشيعون ما لا يمكن تصديقه على أنه مسلم به، وبأنه شيء غيبي يدعو للقداسة والتبجيل، ويحرجون من بيننا لتمثيل بعض الأدوار وتقديمها. وأعتقد أن هذا هو الهدف الرئيسي ووجهة النظر المتداخلة بشدة مع وجهة النظر الأولى. وهي عملية الصراع بين القوى المجتمعية التي تختلف فيما بينها فيما بين فرعونية مصر وعروبتها وإسلاميتها.. إلخ، وإن السبيل للنهوض هو العودة للماضي طبقا لمفهوم كل منهم. ويقف الحاضر المتمثل في حزينة وابنتها ومنزلها على الجانب الآحر، بل ويعاني من أثر هذا على كل المستويات. إذن، فالخروج للأرحب لن يكون أبدا بالذهاب لأي اتجاه منهم، بل عليه سلك اتجاهه الخاص حتى لو كانت به بعض من تأثيرات ماضوية، كما لا يمكن للحاضر أن يعيش على أمل التوهج في ظل من قبلوا تركه على حاله والعمل بمعكسرات الاحتلال؛ أيا كانت فهو من جهة لن يعود في الوقت المناسب، ومن جهة أخرى سيكرس حالة الاحتلال التي ينتفع منها.
كما قلنا سابقا فإن محيي فهمي؛ مصمم الديكور، قد حلق هذه الحالة من التقابل بين منزل حزينة والجانب الآخر. منزل حزينة وإن كان فقيرا إلا أنه به بعض من ألوان مبهجة؛ وإذا كان اتحذه رمزا للحاضر فلا بأس. وعلى الجانب الآخر تشيع الظلمة والسواد، حتى لو خرجت منها بعض الأشياء الملونة، ولكن الظلام والسواد يلفه كالتمثال الفرعوني والمنبعث من الماضي تصويرا ليمارس عملية الانتهاك مع دالتها التي يجب أن تؤخذ في الحسبان والدجال والمشعوذ، واضطرارا استعمله ليكون منزل الحداد وفهيمة. ولكن ربما يمر هذا نتيجة تغير حالة الإضاءة بما يمكن أو يوحي لك ببعض من تغيير، فلا يمكن أن يكون هناك مكان بديل، فليس من المقبول وضع هذا المنزل على الطريق الواصل بين البؤرتين، وقد يمكنك أيضا القول إنه ربما أراد المخرج أن يصور لنا أن عملية الزواج التي تمر بهذه الطريقة، هي أيضا من جيوش الظلام التي يجب الفكاك منها.
ولكن ما لا أفهمه هو خروج المغني النوبي بملابسه البيضاء وأدائه الممتع من هذا الجانب الأسود. صحيح ان دخوله كان لإضفاء بعضا من حيوية على العمل؛وكسر حالة الإيهام التي يمكن أن تصيب البعض على الرغم من هذا التعامل المكاني. ولكن تلك المنطقة التي يدخل منها دائما أو غالبا لا بد أن تثير التساؤل نظرا لتناقضه الشديد مع مايراد منها. أم أن هناك إشارة بأن هناك نوعا ماضويا لم يلوث بعد بتدخلات خارجية فحافظ على نقائه ومن ثم بهجته؟!!
العرض في المجمل جيد ويستحق ما ناله من قبل وبالحفاوة التي قوبل بها لاحقا، ولكن السؤال الأهم من وجهة نظري، الذي من الممكن أن يوجه لمهران وعبد المنعم معا، ألا وهو كيف يمكن أن نحرك الجمهور ناحية التساؤل؟ مثلا عن مكان الرواة؟ ولماذا المقابلة؟ ولماذا الأسود هنا والقابل للتلوين هناك؟.. إلخ. أعتقد أن هذا الشيء هو المكمل لطبيعة الطرح حتى تؤتي ثمارها، ولا يكون الحوار الفكري الموجود داخل العمل ضائعا عن التلقي العام، فللأسف بعد مناقشة بعض من الجمهور استحسن العرض والحدوتة والغناء، ولم تكن هناك إشارة لأي استجابة للأطروحات الفكرية التي يزخر بها العرض. سيقول البعض: قد يكون الأمر عائدا لفترة المهرجان وطبيعة الجمهور وقتها، ولكنني للأسف لمست هذا عند المتخصصين أيضا.. هو سؤال كبير وصعب وأعتقد أنني ربما أظلمهما لو طالبتهما وحدهما بالإجابة، فالإجابة يجب أن تأتي بمشاركة جماعية من كل صانعي هذا الفن.
عدم المناقشة هو ما جعل هذا الطرخ صالحا للتقديم الآن؛ مع أنه طرح منذ أكثر من اثنين وعشرين عاما، أي أنه لم تحدث استجابة، والحال ما زال كما هو إن لم يكن أسوأ.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏