دراما الشحاذين .. الخيار البديل في غيبة المسرح.. فاحذروا..الكلام إلك يا جارة!

دراما الشحاذين ..   الخيار البديل في غيبة المسرح.. فاحذروا..الكلام إلك يا جارة!

العدد 740 صدر بتاريخ 1نوفمبر2021

لعل أول ما يحمد للمخرج، أي مخرج، هو اختياره للنص الجيد. والنص الجيد هو الذي يمتلك الأدوات القادرة على إقامة تواصل جيد مع جمهوره، في أي صورة كان. تراجيدي، أو كوميدي، لا يهم التوصيف أو التصنيف، المهم القدرة على التواصل، وهو ما حققه بنجاح عرض “ دراما الشحاذين” الذي قدمته فرقة جمعية بورسعيد للفنون الثقافية والمسرحية (الإقليمية) تأليف الكويتي بدر محارب، وإخراج مجدي الشناوي، ضمن عروض مهرجان الجمعيات الثقافية- مسرح الهواة – في دورته الثامنة عشرة. 
في تقديري، لا يوجد – خاصة في المسرح- ما يمكن أن أعتبره نصا جيدا ، هكذا في إطلاقه، بعيدا عن مؤشر قابليته لصناعة حالة مسرحية قادرة  على التواصل، وصناعة علاقة ألفة مع جمهوره، وهو مطلب مقدم عندي على المطلب الثاني الذي أعتبره ضروريا أيضا حتى تكتمل متعة المشاهدة ، و هو جودة  بقية عناصر العرض، أو على الأقل قدرتها على تنزيل النص على الخشبة بأقل قدر من المشكلات، وبأكثر ما يمكن تقديمه من إتقان وانضباط.  
من أجل ذلك أجدني أشكر مخرج العرض مجدي الشناوي، مرتين، الأولى لاختياره نصا يسمح بتحقق درجة جيدة من التواصل، بما يقدمه من علاقات تتسم بالطرافة، وتقوم على عدة مفارقات كوميدية قادرة على  تفجير الضحك، وثانيا لقدرة أدواته وعناصره على  تنزيل النص على خشبة المسرح بما لا يخل بهذه القدرة على إقامة علاقة حميمة مع جمهورة، مع تحقيق حالة مسرحية جيدة، على مستوى الأداء المسرحي لمجمل العناصر، وكذلك على مستوى الرسالة التي يحملها العرض.    
يحقق عرض ( دراما الشحاذين) أكثر من مستوى للتواصل معه ، المستوى الأول هو ما تحققه حبكة علاقاته ومفارقاته الكوميدية، وحكايته التي تنتهي بمأساة، والتي  تستعرض ليلة في حياة مجموعة أفراد ينتمون إلى أكثر من فئة  في أدني السلم الاجتماعي؛ شحاذين، ومشردين، ولصوص، يلجأون تباعا، وبالصدفة، إلى قاعة أحد المسارح المهجورة، فينشأ الصراع بينهم  مع أول من قدم إلى القاعة منهم وأقام فيها واعتبرها ملكه وهو ( جاك/ كريم منصور) والفتاة التي معه ( فيكتوريا / سما منسي ) ثم  ينضم  إليهم ( شرطي/ كريم ياسر) الذي كان يطارد لصا ( ماكس/ مصطفى الدالي) وبدلا من إخراجهم من المكان باعتبار ذلك مخالفا للقانون، والقبض على اللص، الذي يقيم معهم بالفعل،  ينجحون في الضحك عليه بادعاء أنهم فرقة مسرحية، تؤدي بروفاتها، وليس بينهم لصوص، فيصدقهم ويندمج معهم في تمثيليتهم، بل ويسهم بغبائه في وصول الحكاية إلى القتل. وذلك بأن منح ( جاك ) مسدسه ليقتل به      ( فيكتوريا ) وقد ظن أنه مشهد تمثيلي، من المشاهد التي أوهموه بأنهم يؤدونها، فأراد أن يشاركهم. بينما الحقيقة هي أن ( (جاك)  شاهد (فيكتوريا) التي تعيش معه، ويعدّها ملكه، ترقص مع ( جون/ أحمد تيسير) الذي أحبته بالفعل.  
ذلك مستوى أراه جيدا ، على مستوى الأداء التمثيلي، كما على مستوى صناعة المفارقات الكوميدية وإدارتها حتى الانتهاء بالكارثة. أما المستوى الآخر فهو مستوى الرسالة المباطنة للكوميديا التي اتخذها المؤلف نافذة خلفية لصياغة خطابه الذي يحمل كثيرا من الرفض للنظم التي تغلق المسارح. وكأنه يقول تلك هي الدراما التي يمكن أن تتحقق بالفعل، حال إغلاق المسارح. فإذا كانت المسارح تقدم دراما نبيلة،  تسعى نحو ترسيخ القيم العليا، و السمو الأخلاقي ، وتستهدف المتعة، فإن البديل في غيابها هو تلك الدراما الخشنة، التي تمتلئ بالعنف، والسعي للتملك، وتقوم على فرض القوة، كما في علاقة  ( جاك- فيكتوريا) ويجد فيها اللصوص مأوى لهم، وهي تلك الدراما التي يمكن أن تصل للقتل نتيجة لعلاقاتها التي تقوم على الصراع على الموقع، وعلى الملكية. 
مما يدعم هذه الرؤية عندي، فضلا عن اختيار المؤلف إقامة (درامته) تلك على مسرح مهجور ( وهي إحدى أهم العلامات التي بني عليها النص رسالته، ولا شيء مجاني في المسرح كما نعرف) مساهمة الشرطي نفسه في الوصول بالدراما إلى جانبها المأساوي، ليس بغبائه فقط الذي ترك المسرح مغلقا- بوصفه ممثلا للنظام - إنما بمسدسه أيضا.  
يدعم تلك الرؤية عندي أيضا اكتفاء النص بتقديم الشخصيات من الخارج ، وإهمال صنع تواريخ شخصية أو دوافع إنسانية خاصة بها، حتى لا يتورط المشاهد معها إنسانيا، وينسى أن المطلوب ليس التعاطف معها والنظر إليها بوصفها ضحايا، وإن كان هذا مباحا بالطبع، وإنما المطلوب هو النظر في اتجاه آخر يتمثل في مفارقة المسرح المغلق، وحلول تلك الدراما محل ما كان يمكن أن يقدمه هذا المسرح من دراما نبيلة،  والتنبيه إلى خطر ذلك، ربما ليس على مستوى رمزية إغلاق المسرح فحسب، إنما على مستوى إغلاق غيره من الأماكن المانحة للقيمة الإيجابية، والداعمة للمثل العليا .  
تلك هي الرسالة التي أجاد المؤلف صياغتها، وصنع بها مفارقته، وهنا فقط يمكن القبول بأن يستعير المؤلف أسماء غربية تنتمي لمجتمع بعيد، ليصنع منها قناعا شفافا، يحيلنا مرة أخرى إلى مجتمعات لا تعرف قيمة المسرح، وليس لديها مشكلة في إغلاقه، وكأنه يقول: الكلام إلك يا جارة. 
لم يكن مثل هذا النص لينجح في التواصل مع جمهوره، دون أن تتوفر له عناصر تمثيلية جيدة، وقد نجح كل الممثلين – تقريبا-  في تشكيل  شخصيات متميزة،  وقد أتاحت الكوميديا لبعضهم أن يصنعوا “ كاركترات” ناجحة، كان أكثرها بروزا : (اللورد جون/ أحمد تيسير) بنزعته الاستعراضية، وهو الممثل القديم الذي تحول إلى متشرد بسبب غلق المسرح،  ولكنه - مع ذلك-  لم ينس أنه ينتمي لفئة النجوم، فاحتفظ لنفسه بالمظهر الخارجي للفنان النجم، على الرغم من وضعه المزري، وقد كان وجوده في النص ضروريا، حيث كان لابد من توفر عنصر ينتمي لفن التمثيل لصناعة الحبكة الدرامية. وكذلك نجح ( كريم منصور) في صناعة كاركتر (جاك) المتشرد العنيف، التملكي، الذي يصارع من أجل الاحتفاظ بملكية قاعة المسرح المهجورة وكذلك ملكية فيكتوريا، وربما يبرر ذلك – لا أستطيع التأكد - فرط الحركة العنيفة التي سادت خشبة المسرح، في بعض المشاهد، جريا، أو دفعا لآخرين. 
اعتمد العرض على الأداء التمثيلي، ولم يبالغ في استخدام عناصر تشكيل الصورة الأخرى، وخيرا فعل، مجرد مكان دال، يتكون من عدة قطع ديكورية قليلة، حوائط مموهة تسيج المكان وتوحي بالإهمال، سرير، وعدد من الإطارات القديمة، جهاز صوتي يبث الموسيقى، مسروق بالتأكيد، ولحظات إضاءة مناسبة دون إسراف، في لحظات خاصة. 
نجح العرض في تحقيق حالة من الحيوية والحضور طوال العرض تقريبا ، مع تنامي حبكته وتنوعها مابين الحقيقة والتمثيل، والرقص، والانتقال بين مناطق الخشبة بما في ذلك استغلال قاعة المشاهدة، وقد أسهم في صنع ذلك بالتأكيد : ديكور وملابس سلمى محمد، كيروجراف أحمد سمير، إعداد موسيقي عمرو الدهشان، ماكياج جايدا محمود.  
وفي الأخير، اختيار النص الجيد بداية الطريق لعرض قادر على التواصل .


محمود الحلواني