العدد 636 صدر بتاريخ 4نوفمبر2019
«لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. لأن العالم يزول وشهوته معه»
تلك الكلمات جاءت على لسان إحدى شخصيات رواية ديستوفسكي “الإخوة كارامازوف” لتعبر عما أراد الكاتب توصيله من خلال روايته وديستوفسكي واحد من أشهر الكتاب الروس، بل يعد واحدا من أفضل الكتاب العالميين في القرن العشرين، فقد احتوت رواياته على فهم وتحليل عميق للنفس الإنسانية وشرورها ودوافعها وصراعاتها الداخلية. وتشريح دقيق للإنسان في صراعه مع نفسه ومع الآخر. كما احتوت كذلك على تشريح دقيق أيضا للحالة الاجتماعية والسياسية لروسيا في ذلك الوقت.
وتعد رواية “الإخوة كارامازوف” واحدة من أشهر أعماله الأدبية. صنفها الباحثون والمفكرون على أنها تعلو القمة الهرمية للأدب العالمي.. عالج فيها قضايا شائكة تتعلق ببعض المفاهيم حول الدولة والروابط الأسرية والكنيسة من خلال أسرة مكونة من الأب وأربعة من الأولاد.. ثلاثة منهم شرعيون والرابع غير شرعي.. ويمثل الأب فيودور كارامازوف الرجل الفاسد المتصابي الشهواني الذي لا يبحث سوى عن ملازاته الخاصة. الجانب الشيطاني من الإنسانية. فهو يسعى إلى الخلود حتى يحقق لنفسه متعة شهوانية لا نهاية لها، يتصارع مع ابنه الكبير ديمتري على جروشنكا، تلك الفتاة العاهرة التي ترتبط بكليهما وكذلك الصراع الدائم بينهما حول ميراث والدته.
الابن الآخر إيفان هو مفكر ومثقف يواجه مشكلات وجودية مرتبطة بعقيدته ولكنه لم يصل إلى الإيمان بوجود الله. دائم الخلاف مع اليوشا الأخ الأصغر المتدين المرتبط بالكنيسة.. هما دائمو المناقشات الفلسفية معا حول وجود الرب والخير والجمال. أما أصغر الأبناء فهو غير شرعي، سمارتكوف الذي يحاول إيفان السيطرة عليه من خلال أفكاره وهو مريض بالصرع.. تنتهي تلك الصراعات جميعا بقتل الأب.
هذه الرواية تعد مادة خصبة لصناع المسرح والسينما الذين تناولوها من زوايا كثيرة وتفسيرات متنوعة.. فقد تناولتها السينما العالمية في أكثر من فيلم بأطروحات مختلفة وكذلك السينما المصرية من خلال الفيلم الشهير (الإخوة الأعداء).. كما قدمت كذلك كأعمال مسرحية متنوعة التفسيرات.. لعل آخرها التي قدمت على مسرح ساقية عبد المنعم الصاوي بعنوان (آل كارامازوف) التي قدمتها فرقة المصراوية بقيادة المخرج خالد العيسوي، دراماتورج د. أحمد يوسف عزت. وكتابة مسرحية د. عبيدة أبو الورد.. ولكن لا بد من الوقوف أولا على الطرح الذي قدمه المخرج من خلال مسرحيته.
بداية قدم المخرج صورة للأبناء الأربعة ليمثل كل واحد منهم جانبا من جوانب شخصية الأب ويمثل كل منهم مرحلة من مراحل حياته التي مر بها، والتي هي نفسها مراحل حياة ديستوفسكي نفسه. فالابن الأكبر يمثل صورة للأب في شهوانيته وسعيه وراء ملزاته وغرائزه وهي المحرك الأساسي له.. أما إيفان فهو يمثل رحلته من الإلحاد إلى الاعتراف بوجود الله. تلك القضية الوجودية الذي ظلت تؤرق ديستوفيسكي وظهرت في الكثير من كتاباته وتبلورت ظاهرة في إيفان كجانب آخر من جوانب شخصية الأب.. إلى أن يصل لليقين بوجود الله الذي تجسد من خلال شخصية اليوشا الطيب الملازم للكنيسة ليكون الوسيط في تلك الرحلة والمصاحب له فيها هو الأب زوسيما.. أما سمردياكوف المصاب بالصرع فهو يمثل معاناته بهذا المرض الذي ظل يلازمه في حياته.. كل تلك الجوانب من الشخصية أو تلك الشخوص المتجسدة في الأبناء هي ما تؤدي في النهاية إلى هلاكه.
أما على مستوى الصورة المرئية فهل قدم المخرج رؤيته الإخراجية متماشية مع ذلك الطرح؟ للإجابة على هذا التساؤل لا بد من الوقوف على مفردات الصورة المرئية التي قدمها. بداية من الديكور الذي جاء يحمل ملامح الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث وهي أواخر القرن التاسع عشر تحديدا عام 1881 في روسيا. فنرى خلفية المسرح في أقصى العمق على اليمين علقت صورة السيد المسيح. وعلى الجانب الآخر في اليسار علقت صورة العذراء تحمل رضيعها المسيح. في المنتصف علق صليب كبير على شكل إحدى أيقونات أوراق الكوتشينة. كما علقت بعض أوراق الكوتشينة بشكل عشوائي على جوانب المسرح تحديدا أوراق الشايب. البنت. الولد. الجوكر.. في صورة استباقية لما سوف نراه من صراع.
قسمت خشبة المسرح إلى مكان في العمق يمثل الكنيسة واليمين يمثل بار بمفرداته المعروفة. وفرشت أرضية المسرح بقماش على شكل رقعة شطرنج (أبيض في أسود). الصورة العامة للديكور انحسرت بين الأبيض والأسود ليكونا دالين على جانبي الخير والشر داخل النفس الإنسانية بصفة عامة وداخل أسرة كارامازوف بصفة خاصة. فديمتري الذي تلاحقه الكراهية والحقد على أبيه نراه يحب جروشنكا على الرغم من أنها عاهرة فإنها تحمل لمحات من الطيبة والخير في حبها له. وكذلك إيفان الذي يملأه الحقد لا يؤمن بوجود الري إلا أنه دائم البحث عنه ويتطلع دائما إلى المعرفة في سبيل الحصول على إجابات قاطعة لأسئلته الوجودية. واليوشا الابن المتدين المرتبط بالكنيسة تتملكه هو الآخر بعض نزعات الكراهية والانتقام من أبيه.. الشخصيات جاءت إنسانية وواقعية تحمل تناقضات الإنسان وصراعاته الداخلية.
أما الملابس فجاءت تعكس الطرح الذي قدمه المخرج، فالروح الذي يمثل الضمير والممسك بالصليب والذي يمثل الراوي للأحداث مع الجوقة جاء مرتديا الأبيض كدليل على نقائه وطهارته وهو الوجه الخير في جانب كل شخصية أما الجوقة فترتدي الأبيض والأسود.. وبعض الشخصيات ترتدي السواد كدلالة على شخصيتها.. والبعض يرتدي الأبيض والأسود. فيما عدا الأب الذي جاءت ملابسه مخالفة لهذين اللونين كدلالة على أن هذين اللونين هما جوانب شخصيته التي هي شخصية الإنسان بصفة عامة وكل ابن من أبنائه هو مرحلة من مراحل حياته.. فهو الأب الذي ورث لأبنائه الكراهية.. وبما أنهم جوانب شخصيته فالجميع يقومون بقتله ليؤكد المخرج على رؤيته التي طرحها منذ بداية العرض.
وجاءت الإضاءة والموسيقى مكملين لبقية العناصر الفنية وموافقين مع الأحداث دالتين على الحالة المزاجية والنفسية للشخصيات. فقد جاءتا هادئتين مع الشخصيات البيضاء مثل اليوشا والأب زوسيما على سبيل المثال ومتوترة في بعض اللحظات الأخرى انتهاء بقتل الأب ورفع الصليب علامة لفظ السماء له. أما على مستوى التشخيص فجاءت الشخصيات جميعها متسقة مع الدور الذي تقوم به فلاب محمود يحيى استطاع أن يؤدي دوره ببراعة المحترف فقد استطاع في لحظة درامية واحدة أن يجسد أمامنا جميع الشخصيات الأخرى ليؤكد للمتلقي أنها بداخله وينتقل من حالة درامية إلى أخرى كمن يغير عباءته في غاية اليسر. كذلك حسن محمد الذي قام بدور سمردياكوف جاءه أداؤه رائع فقد أقنع المتفرج بأنه مصاب بالصرع من خلال حركاته ولزماته الجسدية وإيماءاته. وقدم محمد بدوي إيفان وأجاد إظهار التعالي والتناقض في الشخصية وكراهيته وعلاقته بسمردياكوف الضعيف الذي يسيطر عليه من خلال أفكاره.. ومن أروع شخصيات المسرحية الروح الذي قام به أيمن محمد وقدمها في جلال مهيب تليق بهاله هذه الروح. معظم الشخوص جاءت موفقة في أدائها وأجادت التعامل مع قطع الديكور المتناثرة.
العرض المسرحي جاء بمثابة سيمفونية متاغمة ومتناسفة الألحان، واستطاع المخرج من خلال رؤيته الإخراجية وعناصره الفنية أن يقدم النوازع الإنسانية المتباينة داخل النفس الواحدة، ولكن عليه قبل الاختيار أن يعي جيدا أن (المحبة لا تسقط أبدا من له آذان يسمع).