تاء ساكنة .. وغواية الحكي

تاء ساكنة .. وغواية الحكي

العدد 540 صدر بتاريخ 1يناير2018

لجأت شهرزاد إلى حكاياتها لتبقى على قد الحياة لألف ليلة وليلة، واحتلت موقع الراوي وتحكمت وحدها في منابع السرد ومتاهاته، واستمدت من حكاياتها قوة حتى أغمد شهريار سيفه، وحققت المراوغة لتنفرد بحريتها. وتوالت بعد ألف ليلة وليلة التي تعتبر خيالا نسويا صرفا؛ الكثير من النصوص النسائية التي يجوز مجازا اعتبارها خطة لتعيد المرأة تشكيل القوى في محيطها مع الرجل. واستمرت غواية الحكي عند المرأة بلا انقطاع إلى الآن.
ومع العرض المسرحي “تاء ساكنة” نحن بصدد حكي له فرضيات كثيرة يمكن الحديث عنها. العرض من تمثيل منى سليمان، عبير سليمان، منى الشيمي، إخراج ندى ثابت.
كُتب نص العرض من قصص مرّوية بالفعل من نساء من داخل مستشفى العباسية للصحة النفسية؛ لتكشف المعاناة التي تمر بها النساء في المجتمع المصري، وبالأخص النساء والأطفال الذين يعانون من أمراض نفسية وعقلية بشكل غير مُعلن للآخرين. ذلك من خلال الثلاث بطلات في العرض اللواتي يقمن بدور الأم والطفل بشكل متبادل بينهن، فتعرف إحدى الأمهات معنى الاكتئاب وأعراضه بشكل علمي إلى أن نصل لاعتيادنا له في حياتنا اليومية. تتكرر تلك التفاصيل بنفس الجمل الحوارية على أرض الواقع ولكن يأخذ مع العرض شكلا أعمق مما يبدو على السطح. ويصبح العرض رحلة داخل إنسان يعاني من أمراض جسدية ونفسية؛ بل بمعنى أدق يعيش داخل مجتمع مريض نفسيا وجسديا فيُسقط كل تلك الأمراض على أفراده. وإن كان اختص العرض المسرحي «تاء ساكنة» بالنساء ولكن من الممكن أن يواجه الرجل كل تلك العواقب، وإن لم تكن بدرجة معاناة المرأة نفسها التي لا تزال تستمر في الحكي لتبقى على قيد المجتمع.
جاء العرض بالنساء والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ليحكي عن الفئة المهمشة في المجتمع والدفاع عن حق وجودهم كما هم مع الآخرين، ولكن إلى هذه الدرجة قد تقع المرأة في ذلك الإطار المهمش؟!
يُقدَّم العرض في فضاء مفتوح خارج مسرح العلبة، مما شكل وجود الجمهور بالشكل الدائري جزءا من سينوغرافيا العرض، بجانب أن العرض لم يعتمد عناصر ديكور سوى القليل منها؛ صندوق خشبي كبير، إطارات السيارات، وقطع قماش متناثرة. وعند دخول الثلاث نساء يصطحبن معهن صوتا خارجا من صفارة الحكم، كأننا في لحظة فارقة ولا بد من الإنصات لها، ثم يتم تداخل صوت النساء مع الطبول، ويعيدن تشكيل المكان من حولهن وتحتل كل امرأة إطارا أو “كوتش” حيث يصبح مساحتها الآمنة. وطوال العرض يظل يصاحب الحكي فعل ترتيب القماش وطيه، فتحاول أن تتغلب على الفوضى المستمرة من حولها وتعيد تهذيبها، أو لعلها لا تستطيع التهرب من مسئولياتها حتى في لحظة اختلائها بذاتها.
استند العرض على طرح مشاعر تتوغل في المرأة المصرية، مثل شعورها بالذنب إذا أصيبت بوعكة صحية، كما جاء على لسان إحدى النساء «نفسي أبقى أم مثالية، حاجة كويسة لولدها»، وخذلان أقرب المحيطين لها في لحظات تعرضها لضعف ما، وكان أولهم الزوج المنسحب من لعبة الصراع بجانبها. والرجل في العرض إما منسحب، أو هو الأمل التي تلجأ له المرأة للهروب من ضغط المجتمع، ومع إحدى النساء تختلف هذه الصورة - على غير العادة - ويصبح هو الشريك في الحياة.
وأعطى العرض مساحة لمناقشة موضوع لم يتم يتطرق له الكثير من الأعمال الفنية بهذا الشكل من قبل، وهو التعامل مع الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، تحديدا من ذوي التأخر في الإدراك العقلي والأطفال المصابين بالاكتئاب وذوي الأداء الاجتماعي المقترب إلى الطبيعي - وقد تكون تلك إحدى الإشكاليات. يظل يتلاعب معنا العرض في ما يحمله سرد هؤلاء النساء اللاتي تظهرن في العرض بملابس قريبة للواقع وتحكي عن أعراض ومشكلات نسمعها في مجتمعنا، المرأة ذات الـ38 عاما وما زالت تعاني من مراقبة المجتمع لها، والمرأة الأخرى المتهمة في أخلاقها لمجرد حبها للحياة، ولكن مضافا إلى ذلك بين حين وآخر تفسيرات علمية لأمراض نفسية وعقلية وجسدية.
نهايةً، “تاء ساكنة” يعرض حياة أم مع طفلها وكليهما مريضان، في مواجهة مجتمع صاحب المفاهيم المشوهة إنسانيًا. ويطرحها في إطار مبسط بصريًا وفنيًا ومسرحيًا. ولكن إذا كانت مداومة المرأة على السرد جعلها تخترق ثوابت الروى التقليدية ومنها أن الحكي أو السرد وسيلة للوجود؛ قلبتها المرأة في الزمن المابعد حداثي لتصنع هي نفسها ذاتيًا وموضوعيًا متخذة الحكي هدفا رئيسيا ليس مجرد وسيلة وحسب. خاصة مع اختيار المخرجة نهاية العرض بالرقص وجذب البطلات للجمهور للمشاركة معهن في الرقص على أغنية (ببتسم من كتر حبي للعالم) بعد جرعة مكثفة من الخذلان والألم الذي لا يزلن محاطات به. ولكن يظل هناك سؤال مُلح، أي صورة للمرأة يحاول العرض طرحها، المرأة المابعد حداثية وبالتالي الحكي في العرض المسند بمفاهيم علمية عن الاكتئاب والإعاقة وغيرها يعبر عن حكي غير تقليدي، أم أنه لا تزال شهرزاد تلجأ للحكي لتنجو من الموت من شهريار فقط.

 


سمر هادي