العدد 635 صدر بتاريخ 28أكتوبر2019
يعمل الشكل الفني على خلق فضاء موازٍ لفهم ما يحدث في الواقع، من خلال إعادة تركيبه دراميا، وهذا ما راهن عليه عرض «دون كيشوت تونس أو حب تحت المراقبة»، حيث يسترجع مخرجه “معز العاشوري” وقائع حدثت في عامي 2004 و2005، في فترة عانت فيها تونس تبجح السلطة البوليسية. يتجلّى ذلك من خلال شخصية الشرطي الذي يقع في حبّ ممثلة تعيش علاقة عاطفية مع مخرج مسرحي يستعدّ لإطلاق عمل بعنوان «دون كيشوت تونس»، يستغلّ الشرطي التخبط السياسي فيوقع المخرج في تهمة الإرهاب لإبعاده عن الفتاة التي يحبّها.
حكاية مؤسية ودالة، جعلت «معز العاشوري» مدفوعا بأسباب كثيرة، أن يرواح بين الشخصي والعام، مع الوعي بموقعه كشاهد ووسيط، وبأدوات المسرح التوثيقي، وقدرتها على التفكيك وإعادة التركيب، ليصدم المشاهد بشهادته حول زمن، لا يوجد ما يدل على أنه مضى واندثر.
لا يكتفي المخرج بالمعاناة التي طالت، الشخصيتين «عزيز» و«عزة»، بل يحفر عميقا باحثا عن الأسباب خلف أشكال وآليات المراقبة والعقاب، سواء عن طريق السلطة الدينية، والسلطة الأمنية، ساعيا إلى أن تفكيك أسر التاريخ من سجنه في روايته، تلك التي على بساطتها، نزعت عن صاحبها إنسانيته وفرديته. والحصيلة شهادة عن زمن مضى، ليرى الحاضر في مرآتها، هل من سبيل إلى رأب شقوق اللحظتين؟ ربما، وتكمن إجابة العرض، في الكف عن معاملة المسرح بالكراكون. أي إفساح المجال لحرية التفكير والتعبير.
تلتقي شخصيات العرض مجدّدا، لإعادة رواية ما حدث، لكن هذه المرة بعد الثورة حيث تتغيّر تركيبة العلاقات بينها. وفي الوقت الذي يبدو فيه الجميع مقبلا على طي الصفحة والاعتراف بالأخطاء، يجد فريق التمثيل وقوعه تحت ضغوط تجعله يحاول التأثير في مسار الشخصيات، إنها لعبة جديدة بقواعد مختلفة تعيد إنتاج العلاقات الصدامية بين الشخصيات، وهو وضع يجعل الكشف عن الحقيقة، أو على الأقل الاستفادة منها في الحاضر يبدو مستحيلا.
الأمر أشبه بـ«أمل أعمى» يتخبط، وهو يحارب طواحين التابوهات السياسية والدينية والأمنية، ويشق طريقه معتمدا على عناصر متعددة تؤلّف بينها، فتستفيد من الأدوات الصحافية مثل التقارير المصوّرة والريبورتاج والبث المباشر، وكذلك من الأداء الجسدي في تنويعات مختلفة مثل الرقص والأكروبات.
تستعيد الشخصيات وقائع التمارين على مسرحية «دون كيشوت تونس»، فزاوج المخرج بين السخرية والتراجيديا في خطابه، ليناقش مجموعة من القضايا على رأسها السلطة الأمنية والدينية، في مواجهة الحب، ومنه حبنا للمسرح الذي يمرضنا.
يشكّل العرض في مجمله الأحلام الموءودة لمخرجه، في تماهٍ مع «دون كيشوت» وعلاقته بماضيه وذاكراته؛ الخطاب المباشر في العرض ينبئ عن إحباط نافذ من الماضي متوجسا من الحاضر، وموقع المخرج كشاهد لا يمنحه شرف ردَّ الاعتبار لجيل يُختزل بجيل الخيبات الوطنية والآيديولوجية ولجيل المخرجين المتهم باللامبالاة والانفصال عن تاريخه وواقعه، لذا يبدو العرض كصرخة تظل أصداؤها تترد بعد انتهائه.
وإذا كانت اللحظة الراهنة محفّزا لنبش الماضي، فإنها مواتية، لهذا التمرين الذي لم نتمكن يوما من ممارسته على مستوى تاريخ أو ماضٍ غير متفق عليه، ممتد إلى ما لا نهاية وما طوي من فصوله، طُوي قسرا من دون أن تتسنى لنا مراجعته أو قراءته. واللحظة مواتية أيضا للقبض على مرويات لن يبقى من يشهد عليها قريبا. واللحظة مواتية ثالثا لربط ما يجري اليوم بما جرى بالأمس. كل هذه إسقاطات، ربما، إلا أنها تقود إلى جلاء مفارقة تصب في صالح استقلالية «دون كيشوت تونس» وفرادة صوت صانعه. ذلك أن زمن العرض المسرحي الذي يفترض به أن يكون الحاضر، ليس إلا سفر بين ماضٍ مجهول وحاضر معلّق، حيث العلاقة بين الاثنين المجسّدة بشخصيات العرض، تُنسج على وقع المراقبة الأمنية والترصد الديني. ولكن لا تفترض العودة إلى الماضي ونقده تجميدا للحاضر، أو خروجا من إشكاليات عانت منها شخصيات العرض، بل العمل على نقد الحاضر أيضا ومساءلته بنفس القدر، والوقوف على مدى ما بلغناه من فض إشكاليات الماضي المعلقة.
على هذا النحو، يثير «معز العاشوري» عددا من القضايا الأساسية كالحرية والعدالة والحب. ويثير أيضا مسائل تتعلّق بالإرهاب وحرية التعبير والإبداع، وقد جعل من التضييق الأمني على شخصيتي «عزيز» و«عزة» القضية المركزية للسؤال عن مصير حرية التعبير والإبداع بعد الثورة، فالرقابة، وفق أحداث المسرحية، أصبحت دينية بقدر ما هي سياسية، لكن أهم ما يلفت النظر تمتع العرض بحالة من الحب والشغف والمشاكسة المحببة، وتطويع خشبة المسرح كمساحة حرة للعب مع الشخصيات والذاكرة والتاريخ، لاستهداف النقد والمساءلة والمحاسبة، ومن مسافة زمنية تتيح تحليل الواقع المشوش. ربما لافتضاح التباسه، وبناء ذاكرة جديدة.