ماهاجوني.. يوتوبيا مضادة بين بريخت ومخرج معاصر

ماهاجوني..  يوتوبيا مضادة بين بريخت ومخرج معاصر

العدد 843 صدر بتاريخ 23أكتوبر2023

على خشبة مسرح معهد الفنون المسرحية بالجيزة، قدم فريق معهد الفنون المسرحية بالإسكندرية عرض «ماهاجوني» من إخراج مصطفى عامر، ضمن العروض المقدمة في المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته السادسة عشرة دورة الزعيم عادل إمام.
والحقيقة أن نص «ماهاجوني» هو للكاتب برتولت بريخت، كان بعنوان «أوبرا ماهاجوني» تم عرضها للمرة الأولى في مدينة ليبزيج عام 1930، ولكنها قوبلت بمظاهرة رافضة مستنكرة من الجمهور البرجوازي الذي استهجن حينها اللوحة الأخيرة في العرض.
وسؤالي هو إذا تم عرض «ماهاجوني» الذي من إخراج مصطفى عامر في عام 1930، هل كان سيتم رفضها واستهجانها كما حدث وقتها، المشكلة في النص أم في أسلوب إخراجه، أم في الزمن والعصر الذي يُقدم فيه العرض، أيا كان العرض، فالحديث ليس مقتصرا على ماهاجوني بريخت وماهاجوني عامر.
لمن لا يعلم نص «ماهاجوني»، فدعني أعرفك على الخطوط الرئيسية التي كانت موجودة بـ»أوبرا ماهاجوني» وكذلك ماهاجوني عامر، وهي أنه نجد ثلاث أو كما بالعرض أربع شخصيات هم (مدام إيجيك/ بيجبيك، موسى، كراك، فيللي) يسيرون إلى أن يجدوا منطقة قفراء، تصلح لأن يجعلوها موطنهم وبلدة كاملة تُدعى ماهاجوني، وبعدها نرى جيني في النص البريختي هي فتاة عاهرة ومعها ست صديقات يعملن مثلها. أما في العرض، فكانت جيني فتاة بسيطة لجأت لماهاجوني وللمدام كي تأتوي وتعمل بها وتنفق على نفسها وأخواتها، ولكن تحولها المدام وماهاجوني لعاهرة، بل أغلى وأهم فتاة بماهاجوني، وبعد ذلك يتوافد على ماهاجوني أربع عمال من عمال المناجم يريدون قضاء إجازتهم وإنفاق ما كسبوه، فبالطبع هم فرصة لا تُعوض، وهم (باول، هنريش، جوزيف، جايكوب)، مجيئهم يكون كاشفا أكثر لماهاجوني، فجايكوب يموت أولا بسبب استغلالهم لحبه للحم، فيضعون أمامه خنزيرا يأكله وحده ليموت من الشره، وبعده جوزيف يلاكم موسى ذاك الضخم فيموت دون أن يراهن على فوزه أحد سوى صديقه باول، أما باول الذي كان يحاول تحذير الجميع ويحاول أن يخرجهم من ماهاجوني قبل أن تقضي عليهم، فبعد موت صديقيه، يفقد عقله ويسكر، بل يضيع في سكرته مهللا بأنه يعزم كل من في ماهاجوني على الخمر، وحين يأتي الحساب يخرج آخر أمواله، يجدونها ناقصة ثلاث عملات ذهبية، فيتعرض لمحاكمة تكون ذنوبه فيها أنه حاول تشتيت أهل ماهاجوني يوم العاصفة، فقد كانت نيته إنقاذهم وخروجهم منها، في حين يضر هذا مصلحة المدام ومن معها، وثاني ذنب أنه تسبب في موت صديقه حين راهن عليه مع استحالة فوزه أمام موسى، والذنب الثالث أنه أحب جيني وحاول أن يثنيها عن عملها، كلها ذنوب عقوبتها أعوام من السجن، ولكن «ماهاجوني يمكنها السماح في أي شيء إلا التهرب من الدفع»، فكانت عقوبة العملات الذهبية الناقصة الإعدام!
أما عن الخط الدرامي الذي لم يكن له أساس بالنص، فهو رسم شخصية ودوافع هنريش كي تكون منطقية خيانته لصديقه، فهنريش هو الوحيد الذي استطاع التأقلم مع مبادئ ماهاجوني، حيث ترك إنسانيته والصداقة وكل المعاني السامية ليحيا متمتعا؛ حيث ملخص الحياة في ماهاجوني هو المتعة وفقط.

ديكور سبّب ازدحاما 
أحيانا كثيرة يكون ديكور العرض عبارة عن عناصر فاعلة في دراما العرض، ولا يمكن الاستغناء عن أي قطعة به، وأحيانا يشكل عبئا وازدحاما، كما حدث بعرض ماهاجوني، تخيل معي خشبة نصفها الخلفي تم وضع فرقة غناء حي في مستوى أعلى من بقية الخشبة، ولم يكن الغناء بشكل حي حيوي استعراض من الفريق، ولكنه العنصر النابض بالعرض، بل يمثل الراوي وليس مجرد (ديسكو) ببلدة ماهاجوني، أما عن بقية الخشبة، فهي تحوي ديكورا يتكرر على الجانبين حيث لافتات (for sale) فوق كشكين ومقصود بها فتيات للبيع، وستائر حمراء لهذين الكشكين، ولنزيد تفاصيل وضع صناديق مفرغة بها فتيات، نفس فكرة الفتيات العارية في الفاترينات، ومع كل هذا تتحمل الخشبة فريق عدد أعضائه كبير فهم أهل بلدة ماهاجوني، ولا مانع من وضع كراسي خشبية أو بوفات صغيرة وطاولات حين يكون بالمشهد تعبير عن القمار أو جلوس للسكارى، تخيلت؟!
إذا كان للخشبة صوت كانت اشتكت عزيزي مصمم الديكور ومخرج العرض، لن ألومك أن هذا الديكور على خشبة مسرح واسع ستكون كما تخيلتها أنت، ولكن حين يكون العرض على خشبة متوسطة أو صغيرة عليك أن تراعي التكوين، كي لا يحدث ازدحام يفسد ما صنعته من صور تعبر عن ماهاجوني، والحلول بسيطة جدا فقط كان يمكنك الاستغناء عن أحد الكشكين والصناديق التي بها فتيات فكلها موتيفات عبرت عن الفكرة نفسها.

يوتوبيا مضادة 
تكرر على مسامعنا مصطلح «يوتوبيا» والمقصود منه مدينة فاضلة، أما لفظ يوتوبيا مضادة ليس متداولا؛ لذا سأستعين به من الأستاذ عبدالغفار مكاوي، مترجم وكاتب مقدمة نص «أوبرا ماهاجوني»، ويشرح في المقدمة أصول مصطلح «يوتوبيا» والأصل يرجع لكلمتين يونانيتين وهما (أويتوبوس) أي المكان الطيب أو الصالح، وكلمة (توبوس) أي اللامكان، ولهذا نجد التذبذب في الكتابات الأدبية، ما بين السرد وقص حكايات بلاد تحاول الوصول للمثالية في الصلاح، وما بين كُتاب رسموا المدن الصالحة بأنها مكان خيالٍ غير موجود في أرض الواقع، أما ما صنعه بريخت وعامر في «ماهاجوني»، فهو مزيج بين الموطن الخيالي وقمة المثالية في الفساد، بالضبط كدعابة أب لابن يجلب نتيجته من المدرسة ويصطدم بأنه الأول على زملائه، ولكن الأول من مؤخرة الترتيب، لذلك ماهاجوني تعتبر يوتوبيا مضادة، فمن تولوا رئاستها صمموا أن تكون البلدة الأولى في المجون ووصول الإنسان للذاته بمجرد الدفع، فالقانون الحاكم هو الرأسمالية، وفي سبيل ذلك يتم طحن المشاعر والإنسانية، لذلك العنف في تصوير الشره وأكل (جايكوب) للحم حمراء كما لو كانت نيئة، ومن ثم مشهد موت (جوزيف) في المبارزة يتم فتك رأسه وضرب شيء أحمر لا أعلم طماطم أم بطيخ، ولكن الدموية والعنف في المشهدين تبريرهم من قلب الدراما نفسها، تبريرهم هو أوصاف ماهاجوني التي غنتها الفرقة من بداية العرض لنهايته، فهي مدينة الذهب، تلتهم الإنسان ولا تتسامح في عدم دفع ثمن المتعة. 

مُخلص وليس بطل 
من الأربعة عمال الوافدين لماهاجوني ظهر (باول) بصورة البطل المخلص؛ لذا تم وضع أغنية خصيصا تقول صراحة للجمهور «باول ليس بطل الحكاية»؛ لأن بطل الحكاية هو ماهاجوني في نظر أي تحليل منطقي، خصوصا أن عتبة النص (عنوانه/ والجواب يظهر من عنوانه) كان اسمه ماهاجوني، أما لو سألتني من هو بطل الحكاية في ماهاجوني؟ سأقول لك هو أنا وأنت وكل إنسان محتمل أن يعيش في ماهاجوني الخاصة به، وإذا كان يهوذا الأسخريوطي باع السيد المسيح (المخلص) بثلاثين قطعة من الفضة، ف(باول) الذي كان من المفترض أن يكون مخلص ماهاجوني، وربما هو بالفعل قد خلص أي إنسان منها بعد إعدامه، ونحن باعتبارنا متلقين لن نعلم إلا إذا تخيلنا جزءا ثانيا لماهاجوني، (باول) المخلص ذاك مات لأجل ثلاث عملات ذهبية، فما بين الثلاث والثلاثين يوجد الخلاص.


سارة أشرف