العدد 633 صدر بتاريخ 14أكتوبر2019
في جيبي كثير من الحيل، وفي أكمامي كثير من المفاجآت، لكنني لست كالسحرة الذين يظهرون على المسارح دائما، فالساحر يلبس لكم الأوهام في ثوب الحقيقة أما أنا فأقدم لكم الحقيقة مغلفة في ثوب ممتع من التخيلات.
من هنا يلج المؤلف الأمريكي تينيسي ويليامز إلى عالمه عالم “الوحوش الزجاجية” ليعرض لنا أحداث مسرحيته في صيغة تذكارية، فهذه الكلمات على لسان راوٍ نكتشف من اللحظة الأولى أنه البطل توم وينجفيلد، يخاطبنا الراوي من حاضر أبدي غير مؤرخ. على الرغم من أن المسرحية أنتجت لأول مرة سنة 1944 فإن توم يشير بشكل متواصل غير مباشر إلى عنف الحرب العالمية الثانية.
فبعد الحرب العالمية الثانية تطورت الحياة المدنية والاجتماعية في أمريكا وتجاوزت شهرة كتّابها محليتها من أمثال أرثر ميللر ويوجين أونيل وخصوصا تينيسي ويليامز الذي اتسمت مسرحياته بتناول أرواح مريضة وشخصياته تعيش مراحل شاذة لكنها رائعة في قالبها الدرامي وخصوصا في عالمه السحري ومغناطيسية الجذب في حركة وأفعال شخصياته يجد المتفرج نفسه مشدودا يستمع لحكايات وتصرفات كل الشخصيات الشاذة وغير الشاذة، إضافة إلى اليأس الذي يعد السمة الأبرز في هذه الشخصيات، وفي بعض الأحيان نجد التصرف غير الأخلاقي كالخيانة والأنانية والمخادعة، بل يمكن أن نقول إن أغلب شخصيات ويليامز هي شخصيات فظة وقاسية نزقة في تصرفاتها كمسرحية عربة اسمها الرغبة، وقطة فوق صفيح ساخن، ومسرحية الوحوش/ اللعب الزجاجية التي شاهدناها ضمن فعاليات مهرجان المسرح العالمي بالمعهد العالي للفنون المسرحية من إخراج يوسف الأسدي.
إن عتبة الولوج لهذا العرض أراها تبدأ من عنوان المسرحية وهو (الوحوش الزجاجية)، ولعل المحير هو هذا التناقض بين الوحوش التي تتسم بالقوة في مقابل زجاجيتها الهشة، من هذا التأرجح بين القوة والهشاشة استطاع الأسدي كمخرج للعرض بلورة رؤيته على عدة مستويات، فالعرض يبدو متأرجحا بين الواقعية والرمزية كنص ويليامز، بل – وإن جاز لنا التعبير – أنه لعب بنضج شديد وبمهارة عالية على حالة متأرجحة بين الكسر وبين الإيهام التام، هذه النعومة الشديدة التي صاغ وبلور بها رؤيته لم تكن إلا عن وعي شديد بطبيعة النص والشخصيات شديدة الحساسية التي كان بصدد التعامل معها.
إذ إنه في البداية دفع بشاب وفتاة قد خرجا من خلف ستار المسرح المنسدل ليرقصا أمامنا رقصة غاية في النعومة على موسيقى منبعثة من آلة الكلارنيت تصاحبها التشيللو من البداية معبرا عن هذه القوة في مقابل الهشاشة، وإن جاز لنا أن نفسر هذا بالراقص كرمز لقوة هذه الوحوش والفتاة معبرة عن هشاشة الزجاج، ليظهر لنا الراوي بعدهما مباشرة ليرد بذاكرتنا إلى إحدى الحكايات في شارع “سانت لويس” تلك الفترة الغريبة التي بدأت تتكون فيها الطبقة الوسطى المكونة لغالبية الشعب الأمريكي لنلمس حقائق الأشياء كما يلمسها الأعمى، بمسرحية عاطفية تذكرية خافتة الأضواء، لندخل إلى عالمه فيعرفنا بنفسه على أنه توم وينجفليد وأمه أماندا وأخته لورا وأحد الزائرين الذي يظهر في المشاهد الختامية للمسرحية وهذا الزائر هو أكثر شخصيات المسرحية واقعية، فهو يمثل الرسول القادم ولا تربطهم به أية صلة، وكأنه رمز لشيء طال غيابه يترقبه الجميع ويعيشون من أجله، ثم شخصية الوالد التي لا تظهر على المسرح إلا في صورة فوتوغرافية معلقة على الحائط الذي تركهم منذ زمن طويل الذي كان يعمل كعامل تليفون، ثم ترك وظيفته هذه وقد رحل عنهم من زمن تاركا لهم رسالة من شاطئ المحيط الهادي من المكسيك تحمل كلمتين “هاللو.. إلى اللقاء”.
أماندا وينجفلد التي جسدتها شريهان الشاذلي بذكاء شديد وهي الممثلة طاغية الحضور والصدق إذ تجسد تلك المرأة الجنوبية التي كانت فاتنة وساحرة بلدتها الاجتماعية الصغيرة، لكنها الآن أم وحيدة قد هجرها زوجها وتعيش في شقة صغيرة في شارع لويس. تحلم بماضيها وبمستقبل ابنتها، لكن يبدو أنها غير قادرة على إدراك واقع الحاضر المؤلم لكنها تظل الأم العطوفة ولكن مطالبها وتدخلاتها تجعل من الحياة صعبة لتوم ولورا.
أما لورا وينجفلد التي لعبت دورها ريم المصري بخفة شديدة وأداء ملائكي رشيق رغم أنها عرجاء من الطفولة، وهي خجولة للغاية، غير قادرة على مواجهة العالم خارج شقة وينجفلد الصغيرة، تمضي لورا وقتها بتلميع مجموعتها من الحيوانات الزجاجية الصغيرة (مجموعة الوحوش الزجاجية). وجودها شبحي طيفي، وعدم قدرتها على التواصل مع الآخرين خارج عائلتها تجعلها معتمدة على توم وأماندا.
ولعل المدهش في أداء ريم المصري هو هذه الخفة والرشاقة التي نفذت بها حركة العرجاء لا سيما في الرقصة التي بينها وبين جيم أكونور بينما توم وينجفلد الذي لعبه يوسف الأسدى بواقعية شديدة واعيا بطبيعة هذا الشاعر الطموح الذي يعمل في مستودع أوروبي لصناعة الأحذية، لم يغب عنه حبه لأمه وأخته. رغم شعوره أنه محبوس في البيت، بينما هم يعتمدون على أجره، وأنه طالما بقي معهم يشعر أنه لا يستطيع امتلاك حياته الخاصة فيختفي توم ليلا فهو يهوى الذهاب إلى السينما.
والحقيقة، إن اللافت في أداء الأسدي هو الأداء الذي يصل للطبيعية دون افتعال، في الحركة أو التعبير أو الصوت الذي كان متأرجحا بين الجهر وبين الإيماء.
أما جيم أوكونور الذي جسده مازن جمال هو ذلك الشخص المنتظَر طويلا، فهو ودود وحماسي، مؤمن بالتحسين النفسي، فيلاطف لورا ويرقص معها ويقبّلها ويرفع من آمالها قبل أن يكشف لها أنه خاطب، ويصفه توم بأنه من أكثر الأشخاص اتصالا بالواقع وهو رمز للمنتظَر الذي نعيش من أجله.
يعكس العرض علاقات غاية الصعوبة والتعقيد، لا سيما بين توم وأماندا والدته، فـ”توم” يتوق أن يكون حرا مثل والده، وترك أماندا ولورا والسفر حول العالم، ولكنه بقي بسبب مسئوليته تجاههم، ولكن إزعاج أمه ومرض أخته يجعل من الشقة مكانا كئيبا ومظلما.
فهو يكره عمله في مصنع الأحذية، وهروبه الوحيد يأتي من زياراته المتكررة للسينما، ولكن اختفاءه ليلا يغضب ويحير أماندا، طوال الوقت يتعارك توم وأماندا، وهذا الوضع في البيت يزداد سوءا وينمو بشكل لا يطاق.
تشعر أماندا أن توم يريد أن يغادر، لذا تعقد معه اتفاقية، أن يبحث توم وأماندا عن زوج يعتني بـ”لورا” عندها سيكون توم خاليا من مسئوليته تجاههم. وتطلب أماندا من توم أن يحضر للمنزل خطابين لمقابلة لورا. وأحضر توم معه للمنزل زميله العامل في المستودع جيم أوكونور وهو شخص ودود ومتحمس الذي كانت لورا معجبة به في المدرسة العليا. جيم يتحدث مع لورا ويغازلها حتى يقبلها أخيرا، ومن ثم يعترف بأن لديه خطيبة ولا يمكنه التواصل معها، وبما أن لورا رقيقة فإن هذه الأنباء تدمرها.
تغضب أماندا، وبعد أن يغادر جيم تتهم توم بأنه يمزح مزحة قاسية عليهم ويحدث عراك شديد بينهما، ولفترة ليست بطويلة يتوجه توم لعمله. وفي خطابه الأخير يعترف توم بأنه لا يستطيع الهروب من ذكريات أخته. لذلك تركها سنوات وما زالت تراوده.
إن وعي المخرج وإدراكه لهذه القوة في مقابل هشاشة العلاقات الإنسانية جاء مغلفا لهذا العمل، فنحن بصدد حالة قد تكون مكسورة الايهام إلا أنه ما يلبث أن يحتوي هذا الكسر ويغلفه داخل المعنى والسياق ليصير ضمن صيغته الإيهامية، كأن نرى الفرقة الموسيقية في شارع جانبي للمنزل حاضرة أمامنا طوال الوقت وتلعب موسيقاها في بعض اللحظات الدرامية معلقة على اللحظة والموقف والدرامي، لكن هذا الحضور دون مبرر درامي كان جديرا بأن نشعر بكسر الإيهام خارج البيت، رغم الإيهام التام داخله، ولكنه في إحدى اللحظات يشير بجملة أن هذه الموسيقى لفرقة جوالة في الشارع المجاور، فينفي هذا الكسر بل ويغلف الفرقة وموسيقاها داخل حالة إيهامية شديدة الخصوصية والحساسية، ولم يتجاهل أيضا فك شفرة الراقص والراقصة في بداية العرض فنجده يطلقهما برقصة أخرى في لحظة اعتراف وينجفيلد أنه يعمل قاتل مأجور وكأنه ضمن هذا التشكيل العصابي، ثم رقصة ثالثة في لحظة أخرى عندما ترقص لورا مع جيم، وكأن الراقص والراقصة معادل تعبيري لبعض اللحظات الدرامية كدور الفرقة الموسيقية التي نفذت ألحانها وغنوة الفنال بإتقان شديد، وجاءت موسيقاها التي ألفها حمدي سامح لاعب التشيللو بعذوبة شديدة قوية عنيفة في لحظات ناعمة وحالمة في لحظات أخرى طبقا لمقتضى اللحظة الدرامية.
وللتأكيد أيضا على المنهج الذي اتخذه المخرج في العرض فقد سمح لبعض الممثلين بالدخول من أبواب الصالة ليشركنا معه هذا البيت وشخصياته وعلاقاته المعقدة القاسية رغم هشاشتها.
وتضيف الصورة البصرية لذلك مؤكدة على هذه الواقعية وذلك الترميز، فرغم واقعية البيت فإن بابه كان رمزيا بل لم يكن موجودا رغم وجود جميع تفاصيل البيت من منضدة على المستوى الأرضي ومقاعد وأريكة وسرير في المستوى العلوي وسلم يربط بين المستويين، إلا أنه ترك الباب ربما لخيال المتلقي يتصوره كما يشاء، وبجواره الفرقة الموسيقية بكل آلاتها التي تنوعت بين الكلارنيت والتشيللو والأورج والكاخون ثم جزء من منزل مجاور مضاء من الداخل يلقي إضاءة بيضاء ناعمة على الفرقة الموسيقة، وبظلاله على الخلفية التي يظهر فيها امتداد الشارع وجزء من شجرة كبيرة لعلها شجرة العائلة التي لم تعد مكتملة الآن.
وفي هذا التنوع البصري التي صنعته الإضاءات الداخلية والإضاءات الصريحة، ما يضيف للعرض جمالا وتأثيرا وخصوصا في مشهد انقطاع الكهرباء واستخدام الشموع الذي كان معبرا عن لحظات الرومانسية التي تتولد بين جيم ولورا، ولنضف لذلك أن التنفيذ جاء متقنا منضبطا مما ساعد على تدفق اللحظات الدرامية وتأثيراتها دون خلل.
ورغم أن مسرحيات ويليامز دائما ما توقع المتفرج في الحيرة، ما الذي يريد أن يقوله، وإن كان يسيطر على معظمها بعض اليأس، فإن هذا العرض قد ترك نافذة للأمل مفتوحة رغم هذا الأسى الذي شاهدناه، صاغها المخرج في غنوة عذبة كتب كلماتها عبد الله صابر وغنتها الفرقة الموسيقية، لندرك أنه رغم كل هذه القسوة وكل هذه اللعب الزجاجية المهشمة وهذ العالم الذي فقد الترابط فصار هشا كهذه العلاقات، وقد غلفته الأوهام التي لا نكاد نفصلها عن الحقيقة وكل هذه المعاناة وكل هذا الألم.. فلا سبيل سوى الأمل.