«المتجول».. صناعة الكوميديا من رحم اليأس

«المتجول».. صناعة الكوميديا من رحم اليأس

العدد 702 صدر بتاريخ 8فبراير2021

غبى هنا من يظن أن الضحك يكون ضحكاً فقط دون معاناة أو تلك الكلمة الشائعة أن من يضحك أو يصنع الضحك يكون مرتاحاً وهادئ البال ، فمن يعرف حياة أغلبية من صنعوا الكوميديا فى عالمنا يكتشف أنهم عانوا من اليأس والإحباط والألم ، نجيب الريحانى واسماعيل يس وشارلى شابلن وغيرهم الكثير والكثير وربما هذا ما كان يجول فى خاطر مؤلف ومخرج عرض « المتجول « اسماعيل ابراهيم وذلك ضمن مهرجان المسرح العربى « زكى طليمات « على خشبة المعهد العالى للفنون المسرحية، حاول اسماعيل ابرهيم أن يقدم لنا دليلاً على معاناة الفنان.
خصوصا الكوميديا ومن أجل تأكيد فكرته صنع لنا عرضاً مسرحياً عن نجم الكوميديا الذى مازالت أعماله وصناعته للكوميديا تدرس حتى الان وهو المؤلف الكوميدى الفرنسى « موليير « ولقد لعب اسماعيل منذ اللحظة الأولى على بيان معاناة « موليير « بصياغة ركيزتين أساسيتين قد أثرا نفسيا فى حياة موليير وهما علاقته بأبيه وحادثة خيانة زوجته ووضع بين الركيزتين قضية هامة وهى كيفية تتبع الإنسان لقدره من خلال السعى وراء النهاية التى تتنظره
عرضاً بدأ بمشهد الجنون لليدى مكبث ليقطعه موليير ليقول بأن حلمه أن يقوم بعمل فرقة مسرحية وبعد السخرية من ممثلين حوله لهذا الحلم يبدأ العرض فى قصة موليير وانه يهرب بالفن الذى يريده من سلطة ابيه الذى يصرعلى أن يجعل موليير محامياً ويستعرض لنا اسماعيل كمخرج قدرته على نقل الحدث داخل الزمن كون موليير يحكى ما فعله معه اباه حينما اخبره انه سيصبح ممثلا وكيف انه رفض لقد كان أباه يعمل فى قصر الملك وكان هناك قانون بألا يرفع رأسه وينظر فقط تجاه خطوات قدميه ولهذا يريد منه أباه أن يصبح محامياً ولكنه يعشق التمثيل فتنازل عن اسمه وسمى نفسه موليير ، حمل لنا المؤلف اسماعيل ابراهيم طوال الوقت عقل موليير ووهمه الفنى وتصرفه فى الحقيقة فوضع لنا هذا العقل الباطنى على هيئة سجين معه فى السجن يوحى له بما عليه أن يفعله هذا العقل الوهمى الذى حمل بداخله ألما لموت والدته وعدم انقاذ الطبيب له فصنع كوميديا « طبيب رغم أنفه «.
ونجاح موليير فى صناعة فرقته ووصل لشهرته الشديدة وفى وسط ذروة نجاحه خسر حبيبته الأولى مادلين لقد خسر حبه الأول مقابل أنه قال كلمة واحدة أنا موليير والملاحظ انه كلما قال كلمة أنا موليير يضع نفسه وسط عقله فى السجن ليتحدث مع الوهم الذى صنعه والذى يخبره دائما بما عليه فعله والذى يخبره أن يكمل فى طريقه مهما كانت المعوقات ، تعرض موليير لهجوم شديد من النقاد الكلاسيكين والكنيسة وقرر فرض مسرحه لكى يصل إلى الملك ، هذه غايته منذ البداية وبالفعل وصل للملك ولكنه وضعه فى النهاية امام والده داخل القصر فشهرة موليير التى جائت بسبب اشارة الملك واحساس موليير أنه نجح فى هزيمة والده ولكن والده يواجهه انه ورغم كل ما فعله هو يفعل ما يأمر به الملك وليس العكس مما جعل موليير يقسو على والده ويلقيه أرضاً ، يكمل موليير عالمه الوهمى ويصاب بمرض صدرى لتأتى له اخت مادلين حبيبته الأولى ليقع فى حبها ويتزوجها رغم فارق السن ولكنه وبعد فترة تخونه ليخسر أيضا كل شئ تلك الخيانة وضعته فى مواجهة أخيرة مع عقله الوهمى والذى يخبره بالحقيقة وان ماهو فيه مجرد وهم يصنعه هو بنفسه وكان الكون يضع له الاشارات ولكنه لم يعيرها اهتماماً.
حاول الديكور أن يضعنا فى تلك الصورة منذ البداية بتسيم المسرح لكتلة يمين وكتلة يسار نستطع من خلالها تمرير المشاهد وترك للمتلقى مهمة تشكيل المناطق الخاصة به وإن كان هناك كتلة خلفية لم تستغل ولم تتواجد على ساحة الحركة أو الاستخدام على المسرح ولا أجد مبرراً لذلك، ما يعيب الديكور والنص المسرحى حقاً أنه لم يجب لنا على سؤال كان من السهل الاجابة عليه أين الوهم وأين الحقيقة ؟ مما أدى الى التشتت بشكل كبير كان ما يهم طاقم العمل أن يضعنا دائما امام الحالة الماساوية لموليير لكى يصل لنا برسالة العمل وهى أن الكوميديا التى أثرت فى تاريخ البشرية وهى كوميديا موليير جاءت من حياة شخص تمتلئ بالمأسى والحزن الشديد فظللنا نلهث وراء مشاهد مأساوية طوال الوقت.
ربما أفضل ما فى العرض عنصرين هاميين وهم العنصر التمثيلى والعنصر الموسيقى ، فالعنصر التمثيلي اعتمد بشكل كبير على إيصال الإحساس المأساوى للمتلقى فنحن نحزن على موليير وما يمر به وفى نفس الوقت نحزن على والده العجوز الذى فقد بصره من أجل خدمة الملك ويجعلنا نحزن على مادلين حبيبته الأولى التى شعرت أنه زائف ويجعلنا نحزن مع اختها والتى خانت موليير وهكذا ولقد نجح الممثلون فى ذلك نجاحا كبيراً كلهم بلا استثناء سواء لقاء الصيرفى بخبرتها وحنكتها على المسرح او نادر الجوهرى وتميزه فى لعب شخصية موليير الحزينة والمضحكة أو بارى الذى قدم شخصية الأب.
أما العنصر الثانى فهو الموسيقى التى تلائمت بشكل كبير مع حالة المشاهد المتتالية فلقد صنع أحمد حسنى موسيقاه بحرفية شديدة تداخل معه أحمد الشريف بكلماته لأشعار العرض وتحديداً الاغنية الاخيرة فى العرض التى تعبر عن رسالة كل فنان وحلمه حين يموت أن يحيى فنه بين الناس وفى الحقيقة أن العرض يحتاج فقط لإعادة رؤية من مؤلفه ومخرجه لتحديد مفهوم أين الوهم وأين الحقيقة؟ وهو ما قد يجعل العرض فى حالة أفضل .
فى النهاية وخلال ساعة ونص هى مدة العرض المسرحى قدم خلالها مأساة موليير بعنوان المتجول لنرى بداخل كل منا فنانا متجولاً يحاول الوصول حتى لو كان كوميديا فصناعة الكوميديا أكثر مأساة من صناعة المأساة نفسها .

 


محمد عبد الوارث