«السيد بجماليون» ذات الأسطورة ونهايات مختلفة

«السيد بجماليون» ذات الأسطورة ونهايات مختلفة

العدد 773 صدر بتاريخ 20يونيو2022

هل نحن حقاً مخلوقون من يد إله؟ أم أننا من يصنع ذلك الإله؟ وهل يمكن أن تضج دهاليز وخبايا العقل البشري، وأن تحمل للعالم من الأفكار التي يمكن أن تعلن وبشكل صريح عن تمردها للخالق الأكبر وتخرج عن المألوف؟ 
العديد من التساؤلات التي جالت برأسي عندما شاهدت العرض المسرحي السيد بجماليون تأليف خاثنتو جراو وإخراج محمد العدل، ضمن فاعليات مهرجان فرق الأقاليم بالهيئة العامة لقصور الثقافة، قصر ثقافة الزقازيق-الشرقية  لعام 2022، على خشبة مسرح نهاد صليحة.
فبجماليون هو الأسطورة الأشهر في تاريخ الأساطير الإغريقية والرومانية لذلك النحات الذي اشتهر بكرهه للنساء، والذي استطاع أن يصنع تمثالاً من العاج لأمرأه جعلها الأكثر جمالاً بين النساء وقام بتزيينها باللؤلؤ والمجوهرات الثمينة ووقع في حبها وتزوجها وأنجب منها بنتاً بعد أن أحيتها فينوس إله الحب.
ثم يتناول برنارد شو ذات الأسطورة بنسيج اكثر تفصيلاً لذلك الأرستقراطي عالم الصوتيات الذي ينجح في تغيير بائعة الزهور خلال ستة أشهر في دخولها حياة المجتمع الأرستقراطي، فبعد نجاحها أمام الجميع ولا أحد يعلم ان تلك الفتاة هي بائعة الزهور، يشعر الأرستقراطي بالغضب لأنه الوحيد الذي يملك هذا النجاح، وينتهي الأمر برفضه الزواج من بائعة الزهور .
بينما يلجأ توفيق الحكيم إلى نهاية أكثر مأساوية لتصبح النهاية تراجيدية لتعود (غالانيا) إلى تمثال من العاج بعد ان بثت بها الحياة ويدمرها بجماليون ويموت.
أما نص السيد بجماليون لخاثنتو جراو فيستقي مادته المسرحية من ذات الأسطورة والتي تم توظيفها توظيفاً استعارياً، يمتزج في واقعيته بملامح من الخيال العلمي ليكسب الموقف الدرامي الواقعي بعدًا رمزياً وفلسفياً عاماً واضحاً، فالمسرحية تصور السيد بجماليون الذي يقوم بصناعة الدمي ومن ثم يمنحهم رتبة العائلة، حيث لا عائلة له سواهم، وجعل منهم أشكالاً وأحجاماً مختلفة، يجوب بهم العالم على خشبات المسارح المختلفة ليقدم بهم عروضاً كي يثبت للعالم مدى تميزه وجدارته على صنع دمية أشبه للإنسان بل وتتفوق عليه شكلاً ومضموناً، دمى بلغت من حد الكمال في الإبداع الفني ما يجعلها أكثر من حقيقية وإن كانت وهي بالأساس من صنع أنسان بشري وهو السيد بجماليون، وتنتهي الحبكة عند جراو بمقتل السيد بجماليون بالرصاص، وهو ما قام المخرج محمد العدل بتغييره في النهاية بقتله بالسم على يد بونبونينا بمؤامرة بين الدمى .
تبدأ أحداث المسرحية بمجموعة عمال المسرح الذين يقومون بأعمال الصيانة والتنظيف في إطار استعراضي غنائي بأغنية (السيد بجماليون سيعيد المسرح للحياة)، ينتهي الاستعراض بانتظار إثنان من المنتجين المسرحيين للسيد بجماليون ومعهم الدوق الذي يحاول أن يغريهم بمدى أهمية حضور السيد بجماليون، معرباً عن كونه فناناً من طراز فريد، ويصل السيد بجماليون (رجل يرتدي ملابساً بيضاء، يحمل في يديه سواطاً يضعه خلف ظهره)، ويتحدث بجماليون عن علاقته بدماه، (بدلاً من أن اكون السيد أصبحت عبداً لدماي، أعطيت الدمى الحياة التي تمنيتها، خاصة «بونبونينا» أنها ليست دمية ولكني أحبها ولا أستطيع الحياة دونها فهي سحر وأي امرأة بجانبها لا شيء)
ويؤكد بجماليون على انه عندما قرر صناعة الدمي قرر ان يصنع منها شيئاً مثالياً بعيداً عن التمرد والتفوق في الميكانيكا، فصنع الدمي ووضع بداخلها الأحشاء والشرايين والأعصاب، صنع نماذج مختلفة من الدمي تحمل أسماءاً أسبانية، وتمثل الصفات البشرية من الغدر والطمع والحب والخيانة والمكر والجمال، فهي نماذج تمثل كل ألوان الطيف البشري، ثم تدخل صناديق الدمى، ويأمر بجماليون بخروج الدمى الذكور، ثم يأمرهم بالعودة كل إلى صندوقة إلا واحداً وهو («ليندو») ذلك الشاعر والعازف ووصيف بونبونينا، ثم يأمر بخروج الإناث، وتخرج بونبونينا التي تسحر الموجودين بجمالها، ويسأل بجماليون بونبونينا سؤالاً في غاية الأهمية التي قد تأخذنا في التفكير للعديد من التساؤلات : تشكري من في فضله في وجودك بونبونينا؟ فترد أشكر الله، فيضجر بجماليون، مسترسله ألا تؤمن بالله سيد بجماليون؟ 
ثم يبدأ الجميع في استعراض بروفة العرض المسرحي بأغنية ( مولانا خالقنا بيديه والراحة من راحتيه، أنشأنا في هيئة دمى ثم سما فوق السما ...الذاهبون العائدون الصامتون ....أرواحنا تهفوا إليه ....)، ثم تعود الدمى إلى صناديقها ويخرج الجميع.
وفي المشهد التالي يدخل الدوق وعامل المسرح ليحيك الدوق مؤامرة تهرب بونبونينا من المسرح بواسطته والعامل، ثم يخرجان، لنجد الدمي تخرج من الصناديق واحد تلو الأخر، وكأن المخرج يعطي لنا ملمحاً عن كل شخصية من شخصيات الدمى، فتتضح كل شخصية مثل بونبونينا التي تحاول أن تخرج من سيطرة بجماليون، لوكاس الرجل القوي ذو العين الواحدة، ومينجو القصير الثمين الذي تواعده بونبونينا طمعا في المال، دوندونييلا العاهرة، لوثيندا الدمية البارعة في خلق الأكاذيب، باكو الفلاح الغشاش ذو الملابس الرثة، خوان الغبي التعيس، بريكتور المحب للنساء، القائد الذي صنع له بجماليون تاريخاً وأصبح قائد الدمى، ليندو الشاعر والعازف وهو وصيف بونبونينا، وأورديمالاس الدمية الأكثر ذكاءاً ودهاءاً بين الدمى.  
يدخل عامل المسرح ويحاول تهريب بونبونينا بينما يستوقفها العم باكو ويعرب عن حاجتهم جميعا للهرب من بجماليون، وتعرب كل دمية عن أسباب كرهها لبجماليون، ويقررون وضح حداً للقيود التي يضعها بجماليون عليهم، طامعين في الحرية المفقودة عن طريق الهروب، وهنا يعلن اورديمالاس عن تخطيطه للخلاص من بجماليون باحتفاظه بالمادة –العقار الذي يحقنهم به بجماليون والمناسب للدمى ولكنه سماً قاتلا للبشر، فيوافق الجميع على الخلاص من بجماليون بتلك المادة إذا ما وقف بجماليون امام حريتهم المفقودة.
يخرج الجميع بينما يبقى القائد ومعه دميتان من النساء هما دوندنييلا ولوثيندا، ويدخل الدوق ليأخذ بونبونينا ويهربان .
يعلم بجماليون بأمر هروب الدمي ويستشيط غضباً على القائد بينما تحاول الدميتان من النساء أن يستميلاه ناحيتهما معربين عن كرههما الشديد لبونبونينا التي تركته وهربت، ويقوم بجماليون بقتل الثلاث دمى .
ثم تحدث المواجهة والمكاشفة بين الدوق وبجماليون، بينما يستطيع بجماليون في استعادة الدمي ووضعهم داخل صناديقهم، معلنين تمردهم وكأنهم داخل أسوار السجن، وعلى لسان بونبونينا (لم نكن نطمع إلا في الحياة، الحرية، من أنت كي تسلبنا الحق في الحياة؟) ليرد بجماليون (لأنني من منحكم إياها)
فتبدأ مؤامرة التخلص من بجماليون بكأس تقدمه بونبونينا يحتوي على العقار السام وكأنه معاهدة سلام وبداية جديدة بين الدمى وصانعهم بجماليون، يشرب بجماليون الكأس ويموت، ولكن قبل موته يقول (سيكون لي ألف جد وسيكون لي أل وريث)
يشتبك الجميع حول من سيتولى قيادتهم إلى أن تقرر بونبونينا بأن عامل المسرح هو قائدهم الجديد، فيمسك العامل السياط وتبدأ رحلة العبودية من جديد.

(المعنى والمعنى المضاد)
ان مسرحية السيد بجماليون لجراو تحمل تحذيراً بالغ الوضوع في مستقبل العقل البشري المتمرد ومستقبله الذي مزقته الفردية وانعدام التواصل البشري، فكيف لصانع الدمى أن يطور مفارقة الإنسان /الألة/ الدمى، ويعمق دلالاتها عن طريق تكثيف عنصر المسخ من جهه والمشاعر من جهه أخرى والوصول به إلى ذروة المأساه، وهنا بدأت مفارقة تختلط فيها المعاني والمعاني المضادة لها .
(الهزيمة والانتصار) هزيمة الإنسان أمام أبداع الخالق، واعتقاده في القدرة على صناعه بشري مكتمل .
(المشيئة والإرادة) حيث أرى أن المشيئة أمراً لصيقاً بالخالق الأكبر وفيها قدر من الغموض وعدم المعرفة بالمستقبل، بينما الإرادة فهي أمر يتعلق بالإنسان حيث تحمل جزءاً من تحديد الهدف والوصول إليه وهو ما كان يرنو إليه بجماليون وإرادة الدمى في التخلص من العبودية جنوحاً للحرية المفقودة.
(الفرفور والسيد) تلك العلاقة الأبدية والتي لعب عليها يوسف إدريس في مسرحيته الفرافير، والحقيقة أنها تيمة مستمرة ومتجددة طوال الوقت، وكيفية تبادل الأدوار بين الدمى وصانعهم، فمن صنع من؟ هل الدمي هي صنيعه بجماليون؟ أم أن بجماليون هو صنيعة الدمى؟ هل نحن حقاً من نصنع الإله البشري ونعطيه السياط كي يسلب أدميتنا وحريتنا ؟ فلقد لعب محمد العدل مخرج العرض على ابراز تلك المعاني وما يتضاد معها في قالب مسرحي مثير يداعب العقل البشري طول العرض في طرح العديد من التساؤلات منها الوجودي والفلسفي على حد سواء.
وهنا يجب أن نؤكد على فكرة أهمية الفن الذي يقدم ليداعب خيال وأفكار المتلقي (الجزء الأعلى والأهم)  (وهو ما حدث بالفعل في عرض السيد بجماليون)، في ظل وقت تقدم فيه فنون تداعب الغرائز والجانب الدنيء من النفس البشرية .
و جاء ديكور العرض عبارة عن عدة مستويات مختلفة بين مستويات (20-40-60) حادة الزوايا فنحن بالفعل على خشبة مسرح داخل اللعبة المسرحية ذاتها تغطي المستويات بقماش يميل للون الذهبي بعض الشيء وهي نفس تلك الصبغة التى جاءت بها صناديق الدمى والتي جاءت وكأنها توابيت للدمى البشرية .
فلقد حاول المخرج أن يصنع المنظر المسرحي في نسيجاً واحداً ودماً واحداً بالوحدة اللونية المستخدمة للتأكيد على فكرة الصناعة فهي هنا ليست مخلوقة بيد الخالق، ولكنها صناعة بشرية خالصة .
فيتحول الفضاء المسرحي إلى فضاء نفسي في بعض اللحظات الذي تتوالى فيه الصور وتختلط فيه الأمكنة، فيصبح فضاءاً خاوياً، بارداً تارة وتارة ملتهباً، ويراوغنا المخرج بتلك النافذة الوهمية في صندوق الدمى وكأنها ملاذ الخروج والحرية ولكن بأمر السيد بجماليون، فلقد وظف المخرج الدلالات المعتادة لشكل التابوت بصورة ساخرة تعكس المعنى فيصبح صندوقاً لحفظ دمى السيد بجماليون الذي يتحدى في صناعتها خليقة البشر .
ورغم الخصوصية الحركية والنمطية لكل شخصية من شخصيات الدمى إلا أنها تحولت إلى لوحات تشكيلية بإستخدام تلك الصناديق رغم مسحة مسخ الشخصية التي طبعت على معزوفة التمثيل عامة .
أما الإضاءة فجاءت لتعميق بعض اللحظات ببؤرة ضوئية في منتصف مقدمة الخشبة للسيد بجماليون تارة، وتارة لأورديمالاس، كذلك للدوق وبونبونينا، وأخيراً لعامل المسرح، وكأن المخرج يؤكد على انطلاق الحدث القادم من تلك البؤرة .
وجاءت الملابس والأكسسوارات للشخصيات معبرة ورمزية لكل شخصية، فالسيد بجماليون ذو الملابس البيضاء والبالطو الأسود في بداية ظهوره، قد تبدو دلالة من وجهه نظر السيد بجماليون وربما المخرج أيضاً أن السيد بجماليون هو شخص نقي طيب القلب ويراه الناس بأنه قاسي (البالطو الأسود) رغم ظهوره وهو يحمل السياط بيديه، للدلالة على مدي التضاد الكائن بالشخصية الدرامية (الملاك القاسي) .
والدوق ذو الملابس الفخمة والذي يمسك بالعصا المرصعة الألماس دلالة على مستواه الاجتماعي والمادي وهو مدخله للإغرار ببونبونينا، أما العامل الذي يرتدي البنطال والسديري وهو الغريب على شخصية عامل، ولكن سرعان ما ينكشف من وراءه شخصية الفنان الذي طالما حلم بالوقوف على خشبة المسرح، وملابس كل دمية جاءت معبرة عن كينونة كل شخصية بشكل واضح .
فلقد اعتمد المخرج على رمزية الملابس من جهة وأيضاً لعب على تضاد المعنى الأولي لها، لتأخذ معناً درامياً أخر يحمل من المعاني معانيٍ مضادة للشخصية المسرحية .
أما الأداء التمثيلي، فلقد أجاد الممثلون في الأداء الهزلي المنضبط والواقعي، فمحاولة اختراق حاجز الوعي الزائف إلى مخزون اللاوعي بحثاً عن الحقيقة والحرية تم بنجاح، ثم انتصار الوعي الحقيقي في اللوحة الأخيرة للسيد بجماليون وقتله، لتعود الكارة مرة أخرى فتدخل الدمى(الممثلون) لمنطقة الوعى الزائف بعد أن نصبوا عامل المسرح مديراً متحكماً في فرقتهم، فيصنعون إله جديد مرة أخرى، والجدير بالذكر تميز الممثل محمود جمال في دور اورديمالاس بكل ما تحمله الشخصية من شموخ في كونها الأفضل والأكثر ذكاءاً بين الدمى الأخري، وعلى نقيضة عمر وفيق الذي قام بدور خوان الغبي التعيس وهو دور أشبه بالدجاجة الذي لم ينطق جملة سوا ( كوكو) واستطاع أن يحزن ويفرح ويهرج ويتمرد فقط بالأداء الجسدي والتعبيري والإيماءة، كذلك شخصية بجماليون (حسام قنديل) الشخصية التي تحمل من متناقضات الحب والكره، القسوة والحنية، الأبيض الخارجي والأسود من الداخل، الخانع والمتمرد، وشخصية ليندو (عمر حمدي) الشاعر والعازف والحبيب، ذو المشاعر الحساسة، كذلك من النساء سهر عثمان في دور بونبونينا، وسما هلال دوندونييلا، ومريم ذكي في دور لوثيندا.
فعمل الأداء التمثيلي لكافة الشخصيات على التأكيد على المعني واللعب على المشاعر الداخلية في إطار نفسي تحقق في برواز الشخصية الدرامية المكتملة .
وهنا يمكن أن نتلمس مدى توظيف عناصر العمل المسرحي لخدمة الفكرة الرئيسية بدءاً من الاعداد على النص المسرحي الأصلي لجراو، وتكثيف الحدث الدرامي واختزال العديد من المشاهد التي قد لا تخدم وجهه نظر المخرج المطروحة والغير مخله بالنص المسرحي، وتغيير نهاية النص فبدلاً من القتل بالرصاص القتل السم، نفس المادة التي يحقن بها السيد بجماليون دماه (فكيف لمادة تساعد على بقاء الدمية ان تقتل بشرياً؟)، ففي اللحظات الدرامية المركزة التي نسج بداخلها عدداً من اللوحات الغنائية والاستعراضية والتى طرحت جميعها في منظر مسرحي واحد وثابت غالبية العرض، صبغت العرض جانباً فلسفياً ومراوغاً في التفكير بطرح تساؤلات عديدة داعب بها المخرج خيال المتلقي، ليؤكد المخرج بتضافر عناصره المسرحية المختلفة على التشابك بين الخلق وما يحمله من صفات الأبداع الإلهي وبين الصناعة التي مهما وأن ظهرت كاملة يشوبها النقصان، كذلك ان وجود الروح ليس دليلاً على الفعل الدرامي للشخصية وإن كانت دمية، فكل ما حولنا يمكنه أن يتمرد على صانعه إذا ما سلبناه حريته وحقه في الحياة .


لمياء أنور