نموذج البطل الإغريقي في مسرحية «النمرود»

نموذج البطل الإغريقي في مسرحية «النمرود»

العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023

 يناقش الكاتب المسرحي الشيخ سلطان القاسمي في مسرحيته «النمرود» علاقة البطل التراجيدي للمسرحية ببقية الشخصيات، وحثهم على تقديسه وعلاقته بالطبيعة وتحديه لها وعلاقته بالخالق وإنكاره لوجوده، ليستعلي وينصب نفسه ملكا بعد أن ساعد مواطنين مغلوبين على أمرهم نظرًا لوجود حاكم طاغٍ وخلصهم منه، لكنه لم يقنع باعتلائه عرش مملكتهم ولكنه ذهب إلى فيما وراء قدراته كونه بشرًا؛ بل استنكر ذلك وطار وراء أفكاره الشيطانية واقتراحات حاشيته ليحطم التابوه الإنساني والديني ويدعي الربوبية، وتتجلى، حينئذ، صورة الطاغية التي تعتبر النموذج الصارخ في المسرح العالمي. تعتمد مسرحية «النمرود» على نموذج البطل التراجيدي الإغريقي الذي يخطو بخطوات محددة نحو مصيره المحتوم لوجود سقطة في شخصيته، ويسعى بكل السبل لتحقيق أهدافه التي يحاول فيها أن يتحدى البشر ويرغمهم على الإذعان لتوجهاته بالسجن والتعذيب والقتل، كما يتحدى فيها الخالق ببناء صرح عالٍ ليصعد إليه بحثًا عن إله غيره وليثبت فكرة استعلائه للمنكرين الذين يشككون في قدرته على كونه ربًّا.
تبدو لنا العتبة البصرية، وهي الغلاف، بإبراز صورة النمرود وهو واقف أمام قصره المنيع بسطوته ومظهره المستبد ويحتشد من حوله حراسه وحاشيته بينما يتمدد بعض من رعيته تحت قدميه تذللا، وتبدو من بعيد بعض القلاع والخيام، تلك الصورة التي تختزل الكثير من الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط به تؤسس لشخصية مغايرة تستطيع أن تعلو بالحدث الدرامي وتحركه كما تستطيع أن تتفاعل مع الشخصيات الأخرى بمنطق السيد والعبد أو الإله والمخلوق. 
جاءت العتبة اللغوية، العنوان، لتعضد من قيمة العتبة البصرية وتؤيد خطوطها الفنية العامة، فيكتب العنوان بخط كبير يناسب أهمية الشخصية، ومن الناحية التركيبية، تُعرب كلمة «النمرود» خبرًا لحرف ناسخ «إنه النمرود» أو مضافًا إليه «قصة النمرود»، ويتفاعل العنوان مع الغلاف لإنتاج صورة بصرية تختصر حكاية النمرود بشكل جمالي ولإيجاد علاقة منطقية بينهما إذ تقود تلك العلاقة إلى نص مغاير ينتظره المتلقي بفارغ الصبر. 
في كتاب «فن الشعر» يقول أرسطو إن الفن يكمل ما تفشل فيه الطبيعة، أو يحاكي الأجزاء الناقصة، أن الأشياء التي يحاكيها المقلد هي أفعال يقوم بها أناس هم بالضرورة إما خيرون أو غير خيرين، وتبعا لذلك فإن الأشخاص كما يبدون في المحاكاة لا بُدّ وأن يكونوا إما فوق مستوانا من الخير، أو أدنى منه، أو مثلنا تمامًا. يرسم القاسمي شخصية النمرود الذي استدعاه من التاريخ لا يهدف إلى التأريخ ولكن ليضعه في قالب درامي ويسبغ عليه صفة البطل التراجيدي الذي يحرك الأحداث من خلال خيوط درامية متشعبة ويساهم في تصاعدها في صراع محموم، ويناقش من خلاله عدة قضايا مثل الجبروت والاستعلاء وادعاء الربوبية، كما يسقط على قضايا سياسية معاصرة مثل التحكم في مصائر الشعوب وتجويعها بالإضافة إلى قضية الظلم وتفريغ الأوطان من شعوبها والصراعات الإقليمية التي يؤججها حكام يسعون للسيطرة على أراضي جيرانهم. شيَّد القاسمي مسرحية «النمرود» في قالب فني رسم فيها شخصياتها التي تختزل الكثير من الشخصيات التاريخية وغيرها، كما أنه اعتمد على الاقتصاد في وصف المكان وتحديد الزمن لأسباب تتعلق بنظرته الثاقبة إلى تحويل المسرحية إلى نص مسرحي يضع فيه كل مخرج بصمته ورؤيته الإخراجية ولكي تكون المرجع المهم الذي يستقي منه كل دارس للمسرح في كل مكان. 
يستهل القاسمي مسرحية «النمرود» برسم شخصياتها ويحددها حسب ظهورها في الأحداث؛ المعرف وبعض الأشخاص والملك الضحاك وحاشيته وشالح بن أرفخشد الذي يصفه بأنه رجل ذو هيبة والنمرود وحاشيته وبعض الجنود والمحتشدين والوزير والحاجب وغيرها من الشخصيات. تلك الإطلالة تخفي خلفها معاني عدة؛ مثل أن الشخصيات في حد ذاتها لا تمثل الضرورة القصوى لنمو الحدث المسرحي بقدر ما أنها تحرض على نموه وتسعى للتأكيد على أهمية الوصول بالبطل التراجيدي لتحقيق النظرية الأرسطية نحو قدره المحتوم. تحمل تلك الشخصيات في مكونها الشكلي الطابع الإغريقي ولكنها تحاول في نفس الوقت أن تكون لها سمات خاصة تبعد عن تطابقها تمامًا. 
في مسرحية القاسمي «النمرود» يحول التاريخ إلى مسرح كبير تتصرف على خشبته الشخصيات لتؤدي مهمتها الكبرى وهي الإيهام، كما تبدو قدرة القاسمي على رسم شخصيات كل مرحلة دون أن يؤثر ذلك على استمرار الحدث وديمومته ونموه، حدث ذلك بانتقال سلس إلى كل مرحلة بمزيج درامي خصب.
يقول جورج لوكاتش «تعني الدراما عملا مكتوبا، يستهدف الوصول إلى تأثير قوي لجماهير محتشدة داخل قاعة مسرح» ومن هذا المنطلق كتب القاسمي مسرحية «النمرود» للتأثير في المتلقي عن طريق التكريس لدرامية الأحدات التي جاء فيها التصاعد الدرامي بشكل منطقي يؤسس لمسألة الإيهام ولم يسع إلى وضع المتلقي في مكانة المقارن خصوصًا في الوقت الراهن، لأن المتلقي أصبح واعيًا ويفهم الرمزية وإسقاطاتها بشكل كبير ولا يحتاج لأن يهدم الكاتب المسرحي الجدار الرابع ليكون جزءًا من العمل المسرحي، ولكنه وضعه في مكانته الواعية والمدركة للقضايا التاريخية وأهمية إعادة إنتاجها في قالب مسرحي. 
إن القاسمي يوجه خطابًا مسرحيًا مهمًا لمتلقٍ واعٍ، ربما يكون نخبويًّا إلى حد ما وربما يكون أقل درجة، لكنه على أي حال، يضع في اعتباره أن المتلقي في الوقت الراهن يفهم إلى حد كبير ما يوجه إليه من خطابات توقظ وعيه وتراهن عليه.
جاءت اللغة في مسرحية «النمرود» خصبة وثرية وتحمل في طياتها دلالات متعددة كما أنها تناسب كل شخصية، وكان لها العامل الأهم في نمو الحدث المسرحي. بالإضافة إلى ذلك تمثل اللغة الضلع الأساسي في الصراع الدرامي، إذ إنها حققت هدفها في رسم الشخصيات وحشدتها لإضفاء حالة من الملحمية على الحدث المسرحي الذي يتحول إلى صراع درامي بين كل الشخصيات كما يقول عبدالعزيز حمودة في كتابه «البناء الدرامي»: الصراع الدرامي يجب أن يكون بين إرادات إنسانية، تحاول فيه إرادة إنسان ما أو مجموعة من البشر كسر إرادة إنسان آخر أو مجموعة أخرى من البشر. إن اللغة في مسرحية «النمرود» على الرغم من بساطتها تمثل السهل الممتنع لأنها جاءت بصورة تناسب كل لسان ينطق بها دون زيادة أو نقصان وكأنها وُضعت بقطارة. جاءت قدرة المؤلف على صياغة الحوار بطريقة تجعله ينسجم مع الموقف وتكثيف العبارة التي تميل إلى ثراء معرفي، وإن تطبيق تقنية السرد يوفر ضرورة درامية معينة، وتحمل لغة الحوار خصائص فنية ومقومات أسلوبية ولغوية جمالية تقوي من الشخصيات دون نسيان المضامين والقضايا والأحداث التاريخية.
كان عنصر الزمن في مسرحية «النمرود» غامضًا جدًّا ومقتصدًا لأقصى درجة، وكأنه شخصية تظهر في بداية المسرحية مرة واحدة فقط ثم تختفي لكنك لا تلحظ اختفاءه نظرًا لأهمية اختفائه، أو لأنه أدى ما عليه أو وضع الشخصيات على أول المضمار وتركها تتصارع لتقدم لنا الحدث المسرحي الذي لا يضع للزمن أهمية بقدر ما يمزج الأحداث معًا حتى ينفي عن نفسه مغبة أن يكون قد جاء بهدف كتابة التاريخ. لكن المتلقي قد يلحظ شبحه هنا أو هناك وربما يعتبره المحرك غير المرئي للأحداث وهو الذي يساهم في نموها وهو الذي قاد البطل نحو قدره المحتوم. كما أن اختفاء عنصر الزمن يؤكد على فكرة درامية الأحداث التي تشكل وجدان المتلقي دون أن تزعجه بمسألة زمنية حدوثها. جاء عنصر المكان متوافقًا مع الأحداث الدرامية وتعانق مع نموها بشكل مطرد وتماهى معها في بعض الأحيان، كما أكد على أهمية الحبكة والصراع الدرامي من خلال صوره المتعددة في المسرحية وامتزجت معه تمامًا وجاءت مسألة اختزاله مهمة لتطور الحدث الدرامي من خلال خيوطه المتعددة.    
يقول جورج لوكاتش في كتابه «تاريخ تطور الدراما الحديثة»: إن المادة الدرامية لا تستطيع ولا تحتمل العيش إلا بين الناس، الشخصيات، وما يجري لهم من أحداث. تنقسم المسرحية إلى ثلاثة فصول، يحتوي الفصل الأول على مشهدين أما الفصل الثاني يحتوي على ثلاثة مشاهد بينما يحتوي الفصل الثالث على مشهدين. تختزل المشاهد حقبة زمنية طويلة رسمها القاسمي إذ وضعها في قالب مسرحي محكم، تلك المسرحية، التي يمكن أن تندرج تحت مسمى جيدة الصنع، إذ تفوقت في ربط الأحداث وتصاعدها بشكل سلس يوحي بأن المؤلف قد كتب الأحداث من وحيه. تجلت قدرة القاسمي أيضًا في إعادة صياغة الأحداث التاريخية بطريقة محددة إذ استغنى عن عنصر الترتيب الزمني في المشاهد وإن كان قد ذكر أن بداية الأحداث كانت منذ أربعة آلاف سنة، مما جعل نمو الأحداث يستند على تسلسلها المنطقي وفي نفس الوقت لا تظهر فيها الفجوات الزمنية التي تحول المسرحية إلى سردٍ تاريخي محض. 
يتصاعد الحدث الدرامي في سياق متتابع بشكل منطقي يتحول فيها النمرود من شخص متعالٍ متكبر وطاغٍ إلى شخص مرتبك يعاني من حالة اللاقرار والتشتت الذهني والنفسي ليكون المشهد الأول في الفصل الثالث هو بداية السقطة للشخصية الدرامية التي حددها أرسطو في كتابه «فن الشعر»، وتتفجر بداخله كتلٌ من الضيق والخوف من الغد الذي حدده الملاك تسببت في دخوله في حالة من عدم القدرة على التفكير بشكل صحيح، ثم تحولت إلى تشتت ذهني يقوده إلى الفاجعة وهي نهايته بشكل مأسوي ليظلم المشهد وهو على تلك الحالة لتكريس فكرة السقطة الدرامية لشخصيته. 
تدخل سحابة البعوض إلى قصر النمرود فيختبئ الجنديان كما يختبئ النمرود خلف أحد الأعمدة، وينظر مجموعة من المواطنين بداخل القصر ويكتشفون أن أحد الجنديين قد تحول إلى هيكل عظمي، فيصيح أحد المواطنين بأن الهيكل العظمي خاص بالنمرود، وحينما يسحبون الهيكل العظمي للجندي الثاني يظنون أيضًا أنه الهيكل العظمي للنمرود، وحينما يرون ملابس الجنديين يتأكدون أن الملابس تخصهما، ثم يبحثون عن النمرود فيجدونه وهو يضرب برأسه في العمود فيسحبونه إلى مقدمة المسرح.
في نهاية المشهد الأخير يتم الإظلام ليعبر عن تلك الحالة وهي الضرب المستمر الذي سوف يُفضي حتمًا إلى إزهاق روحه، بعد لحظة التطهير التي جاءت بشكل درامي خصب، تداعب خيال المتلقي نقدًا وتعاطفًا واستنكارًا وشماتة، كل تلك المعاني فجرتها اللحظة الأخيرة في حياة البطل. ترك القاسمي النهاية مفتوحة على الضرب حتى يتعذب النمرود ويشفي كل مواطن غليلة في سفاك الدماء وناهب الأموال الذي تسبب في مجاعة جعلت الكثيرين يؤمنون به ويشفي كل متلقٍ غليله في كل طاغية يراه في خياله. نال النمرود النهاية المأساوية التي كان يتجه نحوها منذ أن جاءه الملاك يحثه بأن يعود إلى رشده ويؤمن بربه، لكنه استعلى وسعى إلى قدره المحتوم، ولكي يتلذذ ويتشمت كل مظلوم نال ظلمًا من ظالمه ولم ينل منه حقه، وليسترح في قبره كل من سُفِك دمه، ويرضى حينئذ كل من نُهبت أمواله. يستقر في ذهن كل من قرأ مسرحية «النمرود» أن النهاية قد صنعت من النمرود نموذجًا للبطل التراجيدي الإغريقي.


ترجمة عبد السلام إبراهيم