المسرحانية والتقاليد ومبدأ الخيرية (2)

المسرحانية والتقاليد ومبدأ الخيرية (2)

العدد 628 صدر بتاريخ 9سبتمبر2019

• فلورا والتفسير ومبدأ الخيرية :
الشيء الأكثر صعوبة , من وجهة نظر دونالد ديفيدسون , هو مشكلة التفسير الجذري , وفهم الاتصالات الغريبة . فهي يمكن أن تأتي داخل اللغة أو بين اللغات, لذلك تتعلق الترجمة بالتفسير الجذري أيضا . ومثل هذه الأحكام تفيد في فهم الاتصالات التي تتوظف مثل اللغة , مثل أكروبات بيل ايروين الايمائي . علي أية حال , فان نظرية الحقيقة البسيطة أساسية لتوصيل الفهم , فضلا عن أن تكون الحقيقة محددة من لغة أو سلوك معين , فهي تقليد , متغير في الزمن والمكان والتعبير , المفترض بواسطة كل الاتصالات . فالتفسير الجذري , عند ديفيدسون اذن , يحاول الصمود .
    “ ثبات المعتقد الي أقصى حد أثناء الوصول للمعنى . وهذا مصحوب بتحديد شروط الحقيقة بالنسبة للجمل الغريبة التي تجعــل المتحـدثين باللغة الوطنية علي صواب عندما يكون ذلك ممكنا , بالطبع , طبقا لرؤيتنا لما هــو صواب . ما يبرر الاجــراء هو حقيقــة أن القــبول والرفض بالمثل واضحين فقط أمام خلفية من الاتفاق الهائل “
عندما يتعلق التفسير اذن بفهم تأثير معتقدات مثل تلك المعروفة لنا التي يتم التعبير عنها في الاتصال , سواء واقفنا عليهم من عدمه . الاتصالات الغريبة هي الحالات الأكثر صعوبة للتوجه التفسيري الذي يسميه ديفيدسون وكوين و آخرين , اتباعا لنيل ويلسون “ مبدأ الخيرية “ . وهذا المبدأ يفترض أن معتقدات المتحدث صحيحة غالبا ومترابطة , وأن السامع لذلك له ما يبرره  في منح ذلك التعبير خلفية معتقداته. يجب أن أوضح أن سياسات هذا الموقف ليست متعالية , بالرغم من خيرية المستمعين مثل “ثيزيوس” في مسرحية “ حلم ليلية صيف” , بالأحرى , فان الافتراض هو أن كل شخص يفهم , وربما يفهم بشكل مختلف , وأن كلام غريب كهذا يستحق السمع . والحقيقة التي يثبتها التقليد في النهاية من خلال التناقضات وعدم تناسق اللاعقلاني , سواء كان الكلام الغريب مغلوطا أو مخادعا , بمعنى أن الشك يستغرق أكثر قليلا من السخاء , وأن الملائمة التامة ليست بالضرورة سابقة علي الفهم – أو ضرورية له .
 ينطبق نموذج الخيرية و الفهم التفسيري بوضوح علي مجموعة كبيرة من المشاكل الانسانية . ولعل أحد طرق اختبار مداه , اذن , هو أن نتحرك خارج الاهتمامات الانسانية بشكل جاد , الي حالات اتصال أغرب , اذ تدخل الفيلة فلورا.   ففي عرض مارتا كلارك Martha Clarke “ كائنات مهددة بالخطرEndangered Species , يرسم اعداد الرقصات عدة مشاكل انسانية مهمة , مثل السياسة العنصرية والجنسية , ولكن ولكن تأتي أغلب الاتصالات الاجبارية  علي خشبة المسرح من حضور عدد من الحيوانات الغريبة : ف “برت” الحمل المصغر , و “توني” القرد الكبوشي , خصوصا الفيلة فلورا من شيرك يحمل نفس الاسم . وتسليما بتأكيدات ديفيدسون بأن الحيوانات عاقلة , رغم فقدانهم لقناعات مترابطة بسبب افتقارهم الي لغة , وأود في النهاية أن أتأمل سؤال الوصول الي التقاليد المسرحية التي أثارها “ برت “ الباحث الظاهراتي , وهو “ برت أو ستاتس” . ولا أوافق أيضا علي منظور “ديفيدسون” , صحيح أن الحيوانات التي تفتقر عموما الي لغة خاصة بهم , مع أنهم حيوانات ذكية , مثل “فلورا “ ربما تكون خيرية بما يكفي حتى أنها تستعير لغة البشر . وفيما يتعلق باللغة , فان الحيوانات يسمعون ويفسرون , يتحدون مرة أخرى بوسيلة أخرى .
 ولا بد أن أضيف أن “مارتا كلارك” تحب فلورا والحيوانات . ومفهوم وعنوان عملها يأتي من اقتناعها بالقيمة , واهتمامهم في الأداء – وهو نوع من الخيرية المبالغ فيها . ويفترض “ يرت أوستاتس “ من الناحية الأخرى أن الكلب علي خشبة المسرح هو في ذاته كلب , ساحر لأنه لا يعرف أنه في مسرحية , في سعادة فوق أو تحت اللعب, ونجد أنفسنا نهتف لأدائه لأنه ليس أداءا تحديدا . هناك شيء بالنسبة لحجة “ ستاتس” أن الاهتمام الأساسي في الكلب هو كونه كذلك , ولكني أعتقد أن هذا الاختزال يجعل الكلب منعزلا أيضا , فلو كانت الكلاب مثل المكتشف الذي أعرفه , مهتمين بالاتصال . واذا لم يعرف الكلب أنه في مسرحية , فان جزء من بهجتنا ربما تأتي من الحيرة بينما يحاول باخلاص أن يفهم الموقف , فلامبالاة الكلاب ربما تأتي فيما بعد , بمجرد أن يتوقف الكلب أو يبدأ الممثلون في تجاهله . فالكلب يعرف كيف يلعب , وربما لديه سوابقه للعب , ولذلك ربما يحتاج أن ينتظم , باعتباره كلبا خاصا ذا كفاءة ( مثل الكلب الذي استلهم منه جوته استقالته من مسرح فيمر الملكي) . هذا الموقف الأكثر خصوصية , والمشاركة الخيرية تجاه الحيوانات الفردية هو الذي تبنته مارتا كلارك تجاه صديقتها الفيلة :
   “ فلورا في فترة ما قبل المراهقة . فهي صاحبة براءة اختراع الأحذية الجلدية وجوارب الكاحل البيضاء . وما تزال تحب الدمى , رغم أنها فيلة , فهي تعرف أنها علي الحافة وأنهــا تنضج . فهي تفتح الحقائب وتلقي بالملابس . ولديهــا حفـلةبعضها خيالي . فقد تدربت . “
وبشكل مضاد الى ستاتس , أعتقد أن وصف كلارك أن فلورا تعرف كل شيء عن اللعب , وتعرف أنه مرئية : تتفق مع تقليد بلو الأساسي للعب عموما , وربما يتفق رغم ذلك مع مفهوم التظاهر عند كيندال والتون باعتبار أنه مفهوم عام في التمثيل . والصعوبة هي أن فلورا لايبدو أنها تعرف أي لعبة هي بداخلها , أو ماذا تمثل وتمثل من . مثل القرد الذي تم قطع دوره في النهاية لأنه مال الي الارتجال ( بمعنى أنه لم يأخذ الاتجاه الصحيح) , والتقاليد الثانوية هي التي تمنع فلورا كما تقول كلارك , “ عندما تعرف النظام جيدا تبدأ في اللعب “ . ولذل يتم السيطرة عليها بحرص في بضعة حركات , بما في ذلك خدعا مثل اغلاق أبواب كبيرة بأنيابها , وطبقا لفرانك ريتش Frank Rich  “ يكتسب أداء فلورا في عرض “ كائنات مهددة بالخطر” أقصي انتباه وأكثر تصفيق “ . ربما كانت سيرة فلورا هي التي ساعدت المشاهدين نحو التفسير الخيري في جلب فلورا اذا كان وجودها غامضا لأن المسرحية نفسها كانت فاشلة نقديا .
 ولأن جميع الحيوانات تتصف بسمة الخيرية , فربما تعطينا فكرة بأن نعرف بالضبط ما يجب أن يكون علية حتى يكون أحدهم . وأحد أفضل أمثلة شكلوفسكي في التقاليد الشكلية هي مثال قصة توليستوي التي رويت من وجهة نظر حصان . ولكن هذا النوع من التحول التام ليس ممكنا تماما , كما يفسر توماس ناجل في “كيف يمكن أن تبدو خفاشا ؟ “ :
      “ لن يفيد أن تحاول تخيل أن شخصا لديه حزام علي ذراعيه , يساعده علي الطيران عند الغسق ويهبط لاصطياد الحشـرات بفمه , وأن تكون له رؤية ضعيفة , ويفهم العالم المحيط بنظام تردد اشارات الصوت , وأن يقضي النهار معلقا رأســا عـلي عقب علي قدم واحدة داخل علبة . بقدر ما أستطيـع أن أتخيــل هذا ( والذي هو ليس بعيدا) , فانه يدلني ماذا يحدث لـو كنــت خفاشا . ولكن ليست هذه هي المسألة . أريد أن أعرف احساس       أن تكون خفاشا . ومع اني اذا حاولت أن أتخيل هذا , فأنا مقـيد بمصادر عقلي . وتلك المصادر غير ملائمة للمهمة . “
 ومن الناحية الأخرى , فان الفهم الفهم هو نتاج الاتصال , ليس الاتصال بين الأجسام , وربما يكون كافيا لفهم الخفاش , رغم طموحك لامتصاص الدماء , وبدون الاصرار علي النزعة الجسمية البشرية كشرط أساسي للمعرفة . ف كلارك مع كل تعاطفها مع فلورا لا يمكنها أن تكون فلورا وتظل تحبها .
 اذا استطاعت الحيوانات أن تتصل ببعضها البعض أو تتصل بالناس , مثل توماس سيبوك Thomas Sebeok  يمكنني أن افكر في حجة غير مقنعة , فلماذا لا يمكنهم ذلك أيضا , عند اذن تكون لديهم فرصة متاحة الي فهم تقليدي أساسي . انهم يستطيعون أن يتعلموا القواعد , وقواعد الآخرين أيضا رغم ذلك , ويتصرفون بعقلانية خلال بعض اختبارات الواقع الأساسية . والأهم من ذلك , من نظرية ترابط المعرفة التي يدعمها ديفيدسون , فان ادراكات التشابه والاختلاف التي تبني اتصالا مشفرا في مواقف الترجمة المتطرفة والتفسير الخير ممكنة فقط للكينونات ذات العقول المركبة والمتكاملة , بخلاف المفاهيم الوضعية الأقدم في النزعة التقليدية التي لا تزال تطارد علماء اجتماع مثل بارنز وتجريبيين مثل نيلسون جودمان , ومقارنة العلامات بالمفاهيم هذه تفترض من خلال التقاليد الأساسية أن الذوات لها وعي كامل فضلا عن أنها صفحة بيضاء . والتفكير بطريقة مختلفة يعني ارتكاب خطأ في نظرية العقول والمعرفة بمعنى افتراض مثل افتراض كوينس – أن المسرحية يجب بناؤها من الألف الي الياء ( بالكامل ) كل مرة . وكما يوضح عمل أيروين يحناج البناء من الألف الي الياء بعض التقاليد الأساسية البسيطة بشكل منطقي , علاوة علي التاريخ المعقد لاجراءات حرفية بعينها . وبالمقارنة مع الناس عند هوروفيتش , فان أداء فلورا بكينونة حيوية يوضح أنه من الأسهل مشاركة التقاليد البدائية والمحافظة علي اللعب مع الحيوانات أكثر من الاتصال بشكل أكثر جدية وتحديد عبر اللغات مع بشر آخرين . وكلما زادت الفروق بين المتصلين استطعنا أن نميز الفرق بين الغابة والأشجار . ويقدم لنا تقليد تارسكي  الحد الأدني لنظرية الحقيقة العاملة , ولكن ربما من المهم للمسرح أن يستطيع أن يستلهم تقليد تارسكي في المسرحانية , الذي لا يحاول أن يستمد تعريفه من جزء أساسي لأي مسرح تاريخي , أو من اتفاق ثقافي ما يشكله داخل المؤسسة الاجتماعية . ولا يخدم  كاستعارة مخصصة للتطوير وفقا لهواه , لما لم يتم السماح للبعض الآخر بنكتة ذات يوم . وتقليد تارسكي الثاني الذي يقول ان الوعي المشترك بالأداء اساسي جدا لللاتصال حتى يكون مستمدا من شيء غير المشترك , وربما المفهوم ضمنا , والافتراض التقليدي بأن الأداء هو الحالة .
-----------------------------------------------------
• هذا المقال هو الفصل الخامس عشر من كتاب “ فلسفة الأداء المسرحي : التقاطع بين المسرح والأداء والفلسفة “ الصادر عن جامعة ميتشجان عام 2009 .
• مايكل كوين عمل حتى وفاته في عام 1995 استاذا للدراما بجامعة واشنطون – سياتل .. وله العديد من الكتب والمقالات أبرزها “ سيميوطيقا المسرح: نظرية المسرح في مدرسة براغ

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح