العدد 739 صدر بتاريخ 25أكتوبر2021
التحول الذاتي :
تهدف هذه الدراسة فقط الي تسمية مجال التداخل بين المسرح والأداء . وبسبب هذا المجال , ينتمي الفن الى خطاب المسرح بعد الدرامي . ويمكنه قطعا تقديم تحليل ملائم للأداء نفسه كفن . وما هو قيد البحث هو التحول التالي : كان المسرح يعني أن يمثل الفنانون واقعا يحولونه فنيا من خلال المواد والايماءات . وفي فن الأداء , لا يتم اعداد فعل الفنانين لتحويل واقع بعيد عنهم والتواصل معه بفضل المعالجة الجمالية , بل بالأحرى يسعون الى التحول الذاتي . فالفنان – في فن الأداء , وبشكل ملحوظ غالبا الفنانة ) يرتب الأحداث , التي تؤثر علي جسمه وتستولي عليه , وينفذها ويعرضها . اذا لم يستخدم الجسد كموضوع للفعل وليس كهدف للفعل , ومادة دالة , فان هذا الاجراء كل مسافة جمالية – بالنسبة للفنانين أنفسهم , بقدر ما هو بالنسبة للجمهور . فقيام الممثل كريس بوردين في عرض « اطلاق النار Shoot “ (1971) بجعل شخص يطلق عليه النار , وقيام الممثل لول دو فريتسفي عرض « أمسية ساخنة A Hot Afternoon” (1977) بقطع طرف لسان الممثلة جينا بان بشفرة موس , يثير الأسئلة عن مكانة جماليات الاختلاف وفي النهاية المكانة التي يوضع فيها المتفرج . فعند النقطة التي يصبح فيها التحول قيمة رئيسية , يستنتج المسرح نتيجة مختلفة عن نتيجة فن الأداء . ففي المسرح أيضا , يمكن الوصول الى لحظة التحول الذاتي ولكنه يقف عاجزا عن تحويلها الي لحظة مطلقة . ففي الوقت الذي يريد فيه الممثلون أن يحققوا لحظات فذة , فانهم يريدون أن يكرروها . وربما يرفضون أن يكونوا مزدوجي الشخصية , وربما يظهرون كمؤدين ملحميين أو كمودين لذواتهم الفعلية , أو مثل المؤدون الذين يستخدمون حضورهم كمادة جمالية أولية , ولكنهم يريدون أن يكرروا العملية في اليوم التالي باعتبارهم انفسهم الحقيقية . وقد يحدث ذلك كمناورة غير قابلة للنقض في اجسامهم ولكنه ليس الهدف .
واذا ابتكر المؤدون صورة لأنفسهم كضحايا , واذا وجد المتفرجون أنفسهم كضحايا من خلال تجربة مشاركتهم في الأداء , وبالتالي يلعبون دور الضحية , أو عندما يتحول الأداء الي مناورة ذاتية في حدود ما يمكن تحمله , فهناك تشابه متكرر مع الطقوس القديمة في كل هذه الحالات التي لا يمكن أن خالية من المشاكل لأنها خارج سياقها الأسطوري أو السحري السابق . فربما يدعون مفهوم التحول الذاتي في الواقع الى اعتبار أداء الانتحار الشائع المنظور الأكثر تطرفا في الأداء , وفعل لا يشوبه أي حل وسط من خلال مجرد المسرحانية والتمثيل الذي من شأنه أن يمثل حاضرا حقيقيا وتجربة لا تتكرر . والأصالة الفنية والذاتية للأداء ليست محل شك . ولم ينتج عنها فقط لحظات فريدة , بل أيضا غيرت فهمنا للفن بشكل دائم . ونريد أن نحدد هنا فقط نقطة الانطلاق , والخيار فيما يتعلق بالعلاقة بين الحياة الحقيقية والفن , وهل المساقة الجمالية , حتى لو اختزلت جذريا , تظل هي مبدأ العمل الجمالي من عدمه ؟ فما يكمن وراء سؤال التحول الذاتي في الأداء والمسرح هو الاختيار الأخلاقي . وتستشهد روزلي جولد برج بعبارة من لنين” الأخلاق هي جماليات المستقبل “ , وهي مقولة ألهمت عنوان عرض لوري أندرسون “ الأخلاق هي جماليات المستقبل “ . وفي المسرح أيضا , يمكن أن يتعر الجسم للمخاطرة : لأن الجسم يستخدم أيضا كمادة في ممارسة مادية , والمسرح هو دائما تلويث للحدود بين العرض والمعروض . وهذه هي الحالة بالنسبة للبالية الذي يتطلب تدريبات شاقة , ويمكن تفسيره كممارسة متطرفة ( ومشكوك فيها أيضا) في أعمال كل من شليف وفابر وآخرين . والتمييز بين المسرح والأداء ( ونعلم أنه لا يوجد حد فاصل) ويجب أن يتم ذلك ليس فقط عند تعريض الجسم وتحققه الذاتي كمادة دالة في الموقف , حيث يتم استيعابه من خلال عملية الدلالة , ولكن حيث تيم اظهار الموقف بشكل تعبيري من أجل التحول الذاتي . فمن حيث المبدأ , يريد المؤدون في المسرح ألا يحولوا أنفسهم ولكن يحولون الموقف وربما يحولون المشاهدين . بمعنى آخر , حتى في العمل المسرحي الوجه نحو الحضور , يبقي التحول وتأثير التطهير (1) افتراضي , (2) تطوعي , (3) في المستقبل . وبالمقارنة , فان فن الأداء المثالي هو العملية واللحظة (1) الحقيقية , (2) والاجبارية عاطفيا , (3) تحدث هنا والآن .
ويمكن أي يقودنا هذا بعيدا عن المسار الصحيح لاكتشاف تفاصيل الخطوط الفاصلة بين التحول والتحول الذاتي في الاستخدامات المختلفة للطقوس . والأداء كطقوس , كما هو الحال في أعمال فرقة Vienna Actionists (نيتشوميهول) معني بتحول المتفرج . فأخلاقيات التطهير – اعادة العدوانية المكبوتة في الحضارة الي فضاء الوعي والتجريبي – تتطلب المشاركة وتجاوز العزلة الرائعة للمشاهد من خلال اثارة ردود فعل عاطفية لايمكن السيطرة عليها ( الخوف والاشمئزاز والرعب) . ومع ذلك يتم الحفاظ علي الهوية الذاتية للمؤدين , ويظل الحدث مسرحيا , وتظل لوحات أرنولف راينر فنية . ولأنني لست مهتما بالدراسة الأنثروبولوجية هنا فقد وطنت نفسي طوال الوقت علي التأكيد علي الجوانب الطقسية أو شبه الطقسية في أشكال المسرح والأداء . وربما نسلم بأنه من المشكوك فيه زرع أنماط السلوك المرتبطة بأنماط الخيال السحري والأسطوري في العصر الحديث . ولكن من الواضح أن الرجوع الى اللحظات الأولية , في تلميحات مدونات السلوك الحضاري , والتكيف مع أشكال السلوك الاحتفالي ( حتى لو كانت مزيفة) فانها تصبح مثمرة للفن , وتدعم بوجه خاص المقاومة ضد كبت الفن الراديكالي في اطار القواعد الجمالية التقليدية . وينقلب يوهان لوثر شرودر ضد الرفض العام الذي ينسحب من تحدي الأفعال عن طريق النفور من المستنير من الديني . فالطقوس في المسرح المعاصر وممارسة الأداء تستجوب امكانيات الانسان عند حدود ترويضه عبر الحضارة . وأن الفنان – ولاسيما المؤدي الهامشي – لا يمكن أن يتوظف فعلا ككاهن , أي كما هو واضح ومعترف به اجتماعيا ويحظى بالاعجاب ويتجاوز حدود الآخرين . وفي مجتمع اليوم ينفذ كل فنان الطقوس وفقا لأهدافه .
لذلك أينما نظرنا وبغض النظر عن مسافة الرجوع يقول شيشنر « المسرح مزيج , جديلة من التشابك بين التسلية والطقوس « . أحيانا يبدو الطقس مصدرا , وفي أحيان أخري يبدو تسلية . انهم مثل اكروبات جيميني يتدحرجون فوق بعضهم البعض لا أحد في المقدمة دائما ولا أحد أولا دائما . وربما كان من غير الدقيق الحد من تسلل بواعث الطقس الى مسرح الستينيات والسبعينيات . وما تطور آنذاك قد رسخ نفسه في مسرح الثمانينيات والتسعينيات بأشكال متعددة . في المسرح الحقيقي, كما في أساليب العرض الموجهة للجمهور بقوة , وفي الأداء بقدر ما في العديد من الفعاليات المسرحية النظيرة Para-theatrical Activities , هناك مساحة بين المسرح والطقوس . وتؤكد مقولات المسرح الأنثروبولوجية أن القطبية الأساسية ليست بين الطقس والمسرح (فن الأداء ) ولكن في عوامل الفعالية (والتي هي علي المحك في الطقوس ) وبين التسلية (في الفن) . ويبقي أن نرى الى أي مدى يمكن أن يطبق هذا التمييز الأساسي بالنسبة للأنثروبولوجيا الثقافية علي تحليل المسرح الجديد. اذ تنشأ الصعوبة من حقيقة أن السلوك الجمالي , كما توحي صورة التوائم عند شيشنر , ينشأ في الحقيقة من تشابك كلى العنصرين . وبالتالي يمكن أن يسعى المسرح الى تنويعة من الفعالية لها علاقة بسيطة باجراءات طقوس المجتمعات الافريقية مثلا , وبالتالي تمثل أكثر من مجرد تسلية .
العدوانية والمسئولية :
من الواضح أن الأداء المتمركز حول الجسم والشخص هو غالبا مجال المرأة . ومن بين الفنانات المشهورات راشيل روزنتال و كاروليشينمان وجوان جوناس ولوري أندرسون . وقد أصبح الجسم الأنثوي باعتباره شاشة عرض مشفرة اجتماعيا للمثل العليا والرغبات والأمنيات والاهانات أصبح موضوعا خاصا لأن النقد النسوي قد جعل صور الذكور المشفرة للنساء , وكذلك الهوية الجنسية بشكل متزايد معروفة كبنيات مما رفع الوعي حول توقعات النظرة الذكورية . ويجب علينا أن نستشهد هنا بعروض مثل “ ضغوط المطبخ Kitchen Shoves” الذي قدمته بوبي بيكر التي بدأت حياتها كرسامة . ودعت بانتظام أكثر من عشرين متفرجا الى مطبخها الخاص (أو الى مطابخ الضيوف حول العالم) وهناك عن قرب , قدمت مونولوجا سرياليا متصاعدا حول استعباد النساء في المطبخ ( بالنسبة لكل فعل من أفعالها من خلال علامة مادية علي جسدها ) . وفي العروض الأخرى , يكون لحقيقة الجسد المعرضة للانقراض الأسبقية فوق كل الموضوعات الأخرى . وعندما قدمت ماريانا ابراموفيتش نفسها الى الزوار واشترطت بأنه مسموح لها بفعل أي شيء , يجب أن يحول الادراك الى تجربة ذات مسئولية . في هذا الأداء المذكور , برز العدوان الصارخ علي السطح بين بعض الزوار الذين سمحوا لأنفسهم بالاستفزاز لغياب الحدود , بحيث كان لابد من ايقاف العرض عندما اشهر أحدهم مسدسا محشوا علي فرقة الفنانة ثم وجهه اليها . وهنا الخطر والألم هما نتيجة السلبية المتعمدة , فكل شيء مفهوم لأنه متروك لسلوك الزوار .
وقد سعى فناني الأداء في الستينيات والسبعينيات الى انتهاك المعايير القمعية اجتماعيا من خلال تجربة الألم والخطر . ففي عرض كريس بوردين « اطلاق النار» , اذ جاء خطر ايذاء النفس والألم وحتى وحتى الخطر الحقيقي علي حياته من خلال الفعل الذي ارتكبه شخص آخر ولكن بمبادرة من بوردين نفسه . وهنا أيضا , كان التنبؤ جزء من اللعبة وفي حدود سيطرتنا . ويتضح دور الضحية في كلتا الحالتين ولكنه يمتد من ارادة ذاتية مستقلة . ورغم ذلك فان ما يحدث عندما ندرك أن الاردة الشخصية نفسها مشروطة , وانها ضحية ونتيجة البنيات الاجتماعية . ويمكن أن توجد درجة جديدة من الغرابة في أعمال أورلانالتي تقوم عملياتها التجميلية العلنية وفقا لمثاليات الثقافة الغربية ( جبين موناليزا وأنف نفرتيتي وما الى ذلك ) علي تجميل وتشويه جسمها ولاسيما وجهها , وبالتالي تسحب أي هوية طبيعية . فالوجه يعد بشكل تقليدي التعبير عن الفردية التي لا لبس فيها , وهنا , بالمقارنة , يتغير باستمرار علي مدار عدة سنوات ثم يعرض بدقة ليس باعتباره هوية غير مسبوقة , ولكن كنتيجة للاختيار , والقرار الشخصي للارادة . وهنا يبدو أن الارادة الذاتية تزداد بالمقارنة مع تضحية المؤدين المذكورين آنفا بأنفسهم . ولكن في نفس الوقت تظهر مشكلة جديدة . وبما أن الذات تتخلص من جسدها طواعية , يتطور , من ناحية , تأليه الفرد الذي يريد الذات , ولا يستسلم للواقع المحدد سلفا , في مظهره الجسدي علي سبيل المثال . وتؤكد أورلان ميل حريتها المطلق الى اختيار نفسها , وهذا يمنحنا لمحة لمستقبل المجتمع متعدد الخيارات حيث لا يلزم اعتبار أي شيء أنه معطى بشكل طبيعي ولكن يجب علي الفرد أيضا أ يتحمل عبء الاختيار والمسئولية . ورغم ذلك , تكشف عروض أورلان , من الناحية الأخرى , بوضوح مخيف أن الارادة –حيث يبدو أنها في أقصى قوتها وشجاعتها – قد تنازلت فعلا : اذ تظهر نفسها وكأنها مشروطة كلية بالمعايير الثقافية , ومثاليات الجمال ونماذج التمثيل . فيظهر عمل أورلان , وهو الارادة الذاتية لأسلوب الجسد الشخصي المستوحى من الفن , تشويها لبلوغ الجمال , وتجسيدا مخيفا لعدم التحول, وهو ليس فقط تحول الذات الشخصية , بل تحول صورة الانسان . ويضبح تركيز المسئولية غير مؤكد بدرجة لا تطاق ولاسيما أن أورلان تجنبت جعل عروضها مقبولة بمساعدة أطروحات النقد الأيدلوجي ( مثل النقد النسوي للطاقة التجميلية) .
الأداء الحالي :
أوضح أورليخجومبريتشالى أي مدى تكون الايماءة الأولية لتقديم الحضور التي يبدو أنها أخذت مساحة من الأشكال والأنواع وطقوس التمثيل هي المسئولة عن تكويننا مع الرياضة ( كحدث حقيقي) . وطبقا لحجته , فانها مسألة تحرك الأشياء في المتناول لكي نستطيع لمسها . وقد كانت اعادة صياغة مقولات بنيامين القائلة بأن رغبة الجماهير التي لا تقهر لتقريب الأشياء كانت الأساس في الغاء التشريح من الفنون . وبالنسبة لهرمنيوطيقا تقديم الحضور , لم يعتمد جومبريتش الا علي القربان المقدس حيث يكون الخبز والنبيد رمزين لجسد المسيح ودمه ولكن الوجود الحقيقي هو فعل الفرقة وليس شيئا محددابل هو الجوهر, انه نمودج الحضور الدي يشير نفسه وينضم الي الجماعة في طقوس الاحتفال .وبهدا المعنى يقارن جومبريتش الحدث الرياضي بخشبة مسرح العصر الوسيط :هنا مثل هنا , هذا ليس التوجه الهرمنيوطيقي المطلوب .وعلى عكس المسرح الحديث وفقا لجومبريتش , لا يتظاهر الممثلون علي خشبة المسرح أنهم لا يلاحظون بل يتفاعلون معه.
ان الأطروحة القائلة بأننا نتعامل في الرياضة مع ظاهرة الأداء كأعراض لتطور الطفرة الثقافية , التي لا تعمل وفقا لسجلات التمثيل والتفسير الهومنيوطيقي, تبدو منطقية . فهي تبدو في الواقع أن حالة الأهمية المتزايدة للأحداث الرياضية ربما تكون جزء من تحول أكبر داخل الثقافة المعاصرة , والتي تكتسب أهمية الظاهرة الثقافية للعرض (وليس التقليد أو التمثيل ) . ومع ذلك فانه سؤال آخر , ما اذا ابعد الواقعي للنصر والهزيمة (اللحظيين) والمكسب والخسارة , لا يمنع ظهور الحضور , بحيث لا تزال الرياضة في النهاية مختلفة عن الطقوس المسرحية – وهو سؤال لا يمكن مناقشته باستفاضة هنا . علي أية حال , فان التنفيذ الساذج أو التجديفي للاحتفال السحري والأداء التفاعلي , وتقديم الحضور هو فكرة مضيئة لمسرح ما بعد الدراما . اذ يفسر اصرار الأخير علي الحضور , والميول الاحتفالية والطقسية والميل لوضعه علي قدم المساواة مع الطقوس الشائعة في كثير من الثقافات . ولم يتجاهل جومبريتش أن مثل هذا الحضور يستحيل أن يكون «هناك» , أو يتحقق بالمعنى الكامل للكلمة , وأنه يستعيد دائما شخصية الشيء المشتاق اليه والمشار اليه والذي يختفي دائما عندما يدخل في التجربة المنعكسة . كما يرجع الى فكرة شيللر عن المرجعية غير الساذجة ولكنها عاطفية لكي نتأملها كميلاد للحضور, والقدوم والمجيء , انه مجرد حضور يمكن تخيله .
في نفس الوقت المهم في المسرح ليس فقط الرؤية الثاقبة في الصيغة الافتراضية للحضور المجرد , ولكن أيضا في خاصية الحضور المفرطة في التحديد أخلاقيا أعني التحدي المتبادل . واذا كانت هناك مفارقة في الممثل (ديدرو) عندئذ هناك المزيد من المفارقة في حضوره . فهناك الصوت والايماءة التي يقدمها لنا – ولكن ليس انبثاق من ذلك الممل الموجود هناك , ومن غزارة حقيقته , بل كعنصر ناتج من خلال الموقف المركب للمسرح ككل , وكموقف لا يمكن اختصاره في مجمله . فما نواجهه هو الحضور الواضح ولكنه نوع مختلف عن حضور الصورة , انه حضور الصوت وحضور قطعة معمارية . انه فعلا حضور مشترك يشير الى ذواتنا – حتى لو لم يكن متعمدا . وبالتالي لم يعد واضحا ما اذا كان الحضور معطى لنا , أم أننا انتجناه نحن المتفرجين في المقام الأول . ان حضور الممثل ليس مثل حضور الشيء , أو حضورا موضوعيا , بل حضورا مشتركا بالمعنى الضمني الذي لا مفر منه للمتفرج . فالتجربة الجمالية للمسرح – حضور الممثل هو الحالة النموذجية هنا لأن وجود الانسان الحي يحتوي علي الغموض والالتباسات المتعلقة بالحدود الجمالية بما هي كذلك – هي فقط في طريقة الانعكاس. وهذه الأخيرة تحدث بأثر رجعي ولن يكون لها دافع حتى لولا التجربة السابقة للحدث المتأمل أو المنعكس , والذي بهذا المعنى , له صفة الصدمة . وتعرف كل التجارب الجمالية هذه القطبية الثانوية : اولا المواجهة مع وجود مفاجئ ومن حيث المبدأ هذا الجانب من التمزق ( أو ما ورائه) ومضاعفة الانعكاس , من ثم تجهيز هذه الخبرة .
وتؤكد جماليات الخوف عند كارل هاينز بوهرر فائدتها في أي شيء يتعلق بالحضور الذي يتعامل معه الأداء وتلك الأشكال المسرحية التي تتخلى عن نموذج المسرح الدرامي . ولا يتم ترجمة الزمن الجمالي بأنه مجازيا الزمن التاريخي . فالحدث الوجود في الزمن الجمالي لا يشير الى أحداث الزمن الفعلي . وما نعتبره زمانية محددة للأداء نفسه – باعتباره مميزا عن الزمن الذي يتم تمثيله – ليس هو صورة الصدمة والخوف عند بوهرر . بل علي العكس , فاننا نكتشف سؤال الخوف كعنصر في جماليات المسرح . وهنا يجدر بنا أن ننظر الي شرح بوهرر للخوف . وبتأمل لوحة كارافاجيو “ الميدوزا” باعتبارها مثال , فانه يشرح لنا أن جماليات الخوف تختلف عن الخوف الحقيقي من خلال الأسلوبية التي تحول الخوف الى شكل زخرفي . وبالتالي , فان التطابق المتخيل هو الذي يحدث فقط . والخاصية الثانية أهم بكثير . فوجه هذه الميدوزا ليس اهانة للخوف نفسه ولكن يبدو أن هي نفسها ترى شيئا مخيفا ( وهو مصيرها الأسطوري , ان جاز التعبير) . فالارتعاش في ذاته , والمظهر الجمالي موجودان فيما وراء تمثيل الخوف التجريبي . فهو لا يمثل شيئا مخيفا فعلا . وكحقيقة جمالية , لا يستدعي المظهر الحالي التفسير أو البحث أو التفسير التراجيدي للخوف ( مثلا ) , بل انه التجربة التمثيلية للخوف . ومشاهد اللوحة يمر بادراك الخوف الذي تطرحه الصورة . ويستنتج بوهرر من هذا النموذج خصائص الكثافة وخصائص الغموض , التي يعتبرها العناصر المكونة للتجربة الجمالية , والتي يمكن وصفها بدورها بصيغ مساوية « للظهور المفاجيء” و” الاستيعاب الذاتي الاشارة « . وخارج نطاق نظرنا الحالي الى أي مدى تحدد الزمانية الجملية للاستيعاب الحداثة حصريا . ويذكر بوهر وجود الاغريق وجماليات الخوف الجديدة , ويتأمل استيعاب الخوف باعتباره بنية جمالية تحدث في مختلف أطوار الأدب الأوروبي وتاريخ الفن , ويعتبر أثينا في القرن الخامس عصر النهضة المتأخر ويعتبر القرن الخامس في أثينا وعصر النهضة المتأخر وعصر القرن العشرين أرضا خصبة لنمو ظاهرة الخوف ( التي لم تتأسس تاريخيا بل تأسست جماليا ) .
وعند هذه النقطة , رغم ذلك , من الملائم أن نربط فكرة بوهرر بالمسرح وأن ننوعها . فيمكننا أن نقول ان قدر رأس الميدوزا أنها ترى . في حين أن خزفها يرتبط بحقيقة المخيف الذي لا يمكن تسميته على الاطلاق . ولهذا السبب بالضبط , وطبقا لمنطق اللوحة و فان موضوع الخوف يجب أن يبقى خارج العالم القابل للتمثيل . فهو بلا ملامح . والنظرة المرسومة للرأس المقطوع في اللوحة لا تنظر , ولكنها من منطق الصورة المرسومة تعبر عن نظرة الميدوزا الميتة بدقة , أي أنها لا ترى . أن موت النظرة وخوائها هو الشيء المخيف . وبالتالي , يدخل الدافع الأساسي في نظريات الفن والمسرح ضمن سياقنا : فكرة الصدمة ( عند بنيامين ) وفكرة المفاجأة ( عند بوهرر) , وفكرة التعرض للهجوم ( عند أدورنو) , وفكرة الرعب ( عند ايرشريكين) , وفكرة الضروري للادرك ( عند بريخت ) , وفكرة الخوف ( عند شريكين) , وفكرة أول ظهور للجديد ( عند موللر ) , وفكرة التهديد بعدم حدوث شيء ( عند ليوتار ) . فكل الأشكال المسرحية غير الدرامية , التي تنقل نوعا من التأمل الفارغ والأشكال المرعبة والخارقة لأداء الألم يشكل متطرف تظهر التفسير النفسي للخوف الذي يشكل تجربة وجود غير كاف ( وهذا فعلا ليس مهما عند بوهرر أيضا ) . وهناك علينا أن نفكر في الخوف باعتباره محفزا بشيء أو حالة قابلة للتمثيل . ورغم ذلك , في بعد جماليات المسرح يجب أن نلاحظ بنية الصدمة التي تكون اثارتها علي مستقلة عن الشيء – ليس الخوف الناجم عن قصة أو حدث بل خوف من الخوف نفسه ان جاز التعبير . ويمكن توضيح ذلك من تجربة الشعور بالدهشة عندما ندرك فجأة أننا نفقد شيئا ما أو عندما لا يمكننا تذكر شيء – لا يكننا قول ماذا – وهذا عدم امتلاك أو جهل يدخل فجأة الى الوعي كتجربة للفراغ – اشارة لا يمكننا تفسيرها ولكنها تؤثر فينا مع ذلك . فالحاضر الذي يعتبر بهذه الطريقة معلقا أو قابل للتعليق , هو تجربة ضياع شيء أو فقدانه . وتحدث تجربة الفقدان هذا عند خط الزمن . وبعكس شكوك النزعة الجمالية , فان تجربة جماليات الدهشة المسرح يمكن أن تكون اسما آخرا لجماليات المسئولية . فالأداء يوجه نفسه أساسا لمشاركتي : مسئوليتي الشخصية لادراك التركيبة الذهنية للحدث ؛ وأن يظل انتباهي مفتوحا لما لم يصبح موضوعا للفهم , واحساسي بالمشاركة فيما يحدث حولي ؛ ووعيي باشكالية فعل الفرجة نفسه .
المسرح بعد الدرامي هو مسرح الحاضر , واعادة صياغة الحضور في كلمة الحاضر , في اشارة الى مفهوم بوهرر « زمن الحاضر المطلق» , يعني في النهاية أن نفهمه كعملية وكفعل . فهو ليس شيئا ولا مادة ولا موضوع ادراك بمعني التركيبة التي تتأثر بالتخيل والفهم . ونتعامل مع فهم الحضور باعتباره شيئا يحث , بمعنى الاعتماد علي التصنيف المعرفي كتمييز عن المجال الجمالي . ولا تتناسب صيغة « الحاضر المطلق « عند بوهرر مع جميع المفاهيم التي تعتبر الجمالي وسيطا أو واسطة أو استعارة أم ممثلا لواقع آخر . فالفن ليس واسطة للحقيقي , أو الانساني أو الالهي أو المطلق . والفن ليس الحضور الحقيقي بالمعنى الذي قصده جورج شتاينر . وبدلا من ذلك , يتم انشاء الآخر الذي هو خال تماما من المحتوى في هذه اللحظة وليس كمخمس جمالي , ولكن باعتباره تجسيدا فريدا من نوعه في حضور العمل الفني . ويمكن استنتاج هذه المتغيرات الخاصة بمثل هذه الظواهر منهجيا ولكن لا يمكن تحليلها وتشريحها الا في أشكالها المادية . وهذا الحاضر ليس نقطة موحدة , ولكن باعتباره اختفاء دائم لهذه النقطة , هو بالفعل انتقال وفي الوقت نفسه فترة انقطاع بين الماضي والمستقبل . فالحاضر بالضرورة هو تعرية وانزلاق للحضور . انه يهب الحدث الذي يفرغ الآن وهذا الفراغ نفسه يجعل الذاكرة والتوقع يومضان . فلا يمكن ادراك الحاضر مفاهيميا ولكن يمكن فهمه فقط كانقسام ذاتي دائم للآنية في داخل الشظايا الجديدة للآنية . انه يتعلق بالموت أكثر من ارتباطه بالحياة المسرحية التي غالبا ما يتم استحضارها . وكما يقرر هاينر موللر « وخصوصية المسرح ليست هي بالضبط حضور الممثل الحي بل حضور الشخص الذي يموت بشكل محتمل . وفي المسرح بعد الدرامي , فان الحضور بهذا المعنى الغائم السائل – والذي يدخل التجربة في نفس الوقت باعتبارها انتهت , وباعتبارها غياب , وباعتبارها مغادرة بالفعل – يلغي التمثيل .
وربما في النهاية سوف يكون المسرح بعد الدرامي هو اللحظة التي يمكن أن يحدث فيها اكتشاف ماوراء التمثيل علي كل المستويات . وربما ينفتح المسرح بعد الدرامي علي مسرح جديد تأتي معه التجليات الدرامية من جديد , بعد أن انفصل المسر عن الدراما . وربما يكون الجسر هو الأشكال السردية والتخصيص التافه والبسيط للقصص القديمة , وليس الحاجة الى العودة الأسلوبية الواعية والزائفة للهروب من تخمة صور المذهب الطبيعي . سوف يأتي شيء جديد , ولنردد معا كلمات بريخت :
هذا التافه السطحي المجنون بالحداثة
الذي لن يرتدي نعليه أبدا
ولن يقرأ كتبه لنهايتها
وهذه هي القفزة الطبيعية
المرحة لهذا العالم
وحتى لو لم تكن شيئا جديدا
فانها أفضل من كل شيء قديم
.....................................................................................
هذا المقال يمثل الفصل الثالث من كتاب هانز سيز ليمان « المسرح بعد الدرامي Postdramatic theater” الذي صدر عن روتليدج عام 2006.
سبق لمجلة مسرحنا تقديم عدة مقالات لنفس المؤلف في أعدادها السابقة تضمنت تعريفا مختصر لهذا المنظر المسرحي الألماني الكبير .