في «كارمن» ريم حجاب.. كلنا خوسيه.. كلهن كارمن

في «كارمن» ريم حجاب..  كلنا خوسيه.. كلهن كارمن

العدد 623 صدر بتاريخ 5أغسطس2019

كارمن اسم له حنين خاص، ما أن تسمعه حتى تتذكر تلك الفتاة الغجرية التي خلدها الموسيقار جورج بيزيه في أوبرا تعد أحد أشهر أوبرات مرت بتاريخ الموسيقى. فتاة لا يتحكم فيها شيء ولا إنسان، تعيش بالحب وللحب، تقترب حين تريد وتبتعد حين تريد، لا يحركها في ذلك إلا صوت قلبها. حتى باتت رمزا للحرية المقرونة بالحب وعنفوان الجسد. كارمن لم تكن يوما بغيا، إذ لا تبيع جسدها لمن يدفع أكثر، لكنها تعطيه لمن يعشق قلبها، وتلفظ هذا العاشق إن سخر من حبها أو إن كان على غير قدره. وهو ما حدث مع عريف الشرطة (دون خوسيه) الذي كلف بحراستها على إثر اتهام بقتل زميلتها في المصنع فوقع في هواها تاركا عالمه المنضبط المستقر، ليهيم معها في عالم مناقض لما يعرفه وتربى عليه، عالم لا تحكمه قوانينه المستقرة بل تتحكم فيه قوانين أخرى أهم ملامحها هي الحرية المدانة سلفا من عالمه القديم المحكوم بأطر فرضتها مهنته ومجتمعه، فكان من الطبيعي أن يقع ضحية صراع بين عالمين ليقف في المنتصف منهما، مجنون بعشقها راغب في أن يكون على قدرها، وممسوك في الآن نفسه بعوالمه (بيئة ووظيفة) فيسقط في بئر سحيق.
كارمن غوت فتاة المسرح (ريم حجاب) فعكفت عليها تقرأها وتتساءل عن سرها وسر خلودها، ثم قررت أن تعيدها برؤية خاصة تعتمد على (التفكيك) وعلى الكشف عن سر ارتباط كارمن - الرواية والشخصية - بما تحياه امرأة الشرق الآن. معتمدة في ذلك على الرقص المسرحي الحديث في طرح وجهة نظرها، التي ربما ستختلف معها أو تتفق، لكنك أبدا لن تنظر إلى هذه الرؤية نظرة عابرة أو ساخرة.
اعتمدت ريم في رؤيتها على عنوان عام مفاده (أن كلهن كارمن وكلهم خوسيه) مستفيدة من كارمن أخرى كان قد أعدها المخرج السينمائي الإسباني كارلوس ساورا الذي أعاد كارمن إلى جذورها الإسبانية ووضعها بمعاونة مصمم الرقصات الأشهر أنطونيو جاديس في بيئة عصرية تقف على حبل رفيع يفصل ما بين الحقيقة والخيال، وتتخذ من عوالم البروفات المسرحية مجالا يذوب فيه هذا الحبل الرقيق ليجبر مشاهده على التساؤل: هل ما أراه بروفة عمل مسرحي أم حقيقة واقعة تحدث الآن؟
ما بين “كارمن” الأصل و”كارمن” ساورا جاءت تجربة ريم حجاب تقف على الحافة، تستفيد من هذا وذاك لتشكل رؤيتها الخاصة. فهي من جانب تستفيد من بيئة (البروفة المسرحية) مؤكدة عليها بمنظر مسرحي بسيط يشيع فيك كمشاهد هذا الإحساس، إحساس البروفة أو الاستعداد لعمل لم تكتمل أركانه بعد. ومن جانب آخر تذكرك كل حين بـ”كارمن” الأصل سواء بالحفاظ على تراتب (الحدوتة) أو باختيارات متقنة من موسيقى بيزيه حتى وإن كانت على كلمات بلهجة مصرية خالصة. وللحفاظ على هذا الحبل الدقيق ستحرص ريم حجاب على أن تدور كل المشاهد في المكان نفسه، فقط تغييرات بسيطة عبر أقواس معدنية يحركها الممثلون الراقصون بأنفسهم لتشير من بعيد إلى المكان وتحافظ في الوقت نفسه على إحساس (البروفة)، ليبقى المشاهد في كامل انتباهه ينظر من علٍ على أحداث لا تسأله تعاطفا بقدر ما تسأله حكما عادلا على ما يدور، بل وتنزغه بمكر أن (انتبه ربما كنت أنت أحد هؤلاء الـ(خوسيه) أو كنتِ أنتِ إحدى هؤلاء الـ(كارمن).
من عمق هذه الرؤية ستختار ريم حجاب أن يكون كل فتى على المسرح هو (خوسيه) وكل فتاة هي (كارمن). بل وستزيد ريم في التأكيد على هذا المعنى باختيارها لتكرار الحوار المنطوق سواء عبر الجماعة أو عبر الثنائيات. هنا أنت لن تتعاطف مع كارمن ولا خوسيه، فلا كارمن واحدة ولا خوسيه واحد، وستلقي عنك هذا التعاطف لتتبع بدقة المعنى والهدف، معنى أننا جميعا بقدر أو آخر كارمن وخوسيه. بل إن الإمعان في هذا المعنى سيصل إلى حد أن الفتاة الريفية (خطيبة خوسيه السابقة) هي واحدة من الـ(كارمينات) وهي بالفعل كذلك، فما الذي سيدفع بفتاة ابنة بيئة محافظة على قطع كل هذه المسافة وفي ظلام الليل متحدية كل الكوارث التي يمكن أن تقابلها من أجل الاطمئنان على حبيب وزوج موعودة به إلا إذا كانت تحمل قلب وشجاعة وحب كارمن؟
كارمن ريم حجاب عمل متقن أجمل ما فيه هو محاولة التفكير ومغامرة تجسيد الأفكار بلغة خاصة أهم ما يميزها هو المزج بين الرقصة والكلمة، وهو عمل كاشف – من ناحية أخرى – على جهد تدريبي شاق أثمر حالة من الاتساق والتوافق على خشبة المسرح ومنح عدد هائل من ممثليه وراقصيه فرصة لتحقيق عرض سيظل علامة في مشوارهم الفني.
ولن يبقى إلا أن أتوقف عند ملاحظة ليست أكثر من وجهة نظر لا تفرض نفسها كحقيقة بل تقف عند حدودها كوجهة نظر، وهي تخص المشهد قبل الأخير الذي سيمهد لطعن كارمن وضياع خوسيه للأبد. ذلك المشهد الذي أصرت ريم حجاب أن تستدعي (خوسيه) من الصالة في خروج كما أظن عن نسق العمل. أعرف أن ريم أرادت بهذا الاستدعاء أن تؤكد على المعنى الذي كان واضحا وهو أنكم بقدر أو آخر ذلك الـ(خوسيه). لكنه جاء استدعاء من خارج نسق العمل ووضع خطوطا غليظه تحته لم تكن ريم بحاجة إليها. أو هكذا أظن.
تحية للمخرجة الكاتبة المصممة ريم حجاب، وتحية لكل أفراد العمل من شباب أغلبهم أراهم لأول مرة على خشبة مسرح، وتحية لإدارة مسرح الهناجر على هذه الفرصة التي تنتمي وبحق إلى عوالم الهناجر الخاصة.


محمد الروبي