العدد 619 صدر بتاريخ 8يوليو2019
في البدء كانت الكلمة، والمسرح كلمة، وقد بدأ المسرح شعرا، وكتبت أعظم المسرحيات العالمية شعرا، فالشعر جمال وفكر وروح، الشعر ليس مجرد نظم إيقاعي ووزن وقافية، لكنه عالم ساحر مختلف ومتنوع يجذب المتلقي بكلماته نحو عالم أرحب، ينثر قيم الحق والخير والجمال، وقد اندثر المسرح الشعري وطغى النثر على الحوار المسرحي حتى صار الشعر غريبا في بيته الأول. فأين هو الآن؟ لماذا عزف الشعراء عن كتابته؟ ولماذا هجره المخرجون؟ وهل نسيه الجمهور؟ هل من ضرورة لعودته وإحيائه مرة أخرى؟ كيف كانت بداياته؟ وما هي أهميته وما أهم خصائصه؟ وأسئلة أخرى متعددة نحاول أن نجد لها إجابة، كما نحاول إنعاش أحد أجمل أنواع المسرح الذي كان يلاقي استحسانا وإقبالا جماهيريا كبيرا في زمن ليس ببعيد.
يقول الشاعر الكبير فاروق جويدة أحد أهم رموز المسرح الشعري: إن المسرح الشعري إبداع جديد في الثقافة العربية. كان للشعر مدارس كثيرة في التاريخ العربي وكان لدينا المعلقات ولدينا كل هذه الإبداعات العظيمة شعرا، ولكن المسرح الشعري لم يكن يوما فنا عربيا، لذا فهو جديد علينا مثل الرواية تماما. ولذلك عندما دخل المسرح الشعري إلى الحياة الثقافية على يد أحمد شوقي كان شيئا جديدا وكان أيضا شيئا قليلا لأن الذين كتبوا المسرح الشعري منذ عرفته الثقافة العربية لا يتجاوز عددهم أصابع اليد؛ أحمد شوقي وعزيز أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وجيلي. والمسرح الشعري يواجه أكثر من مشكلة: أولا إن تراجع اللغة الفصحى في الحياة العامة وفي الشعر وفي التعليم وفي الثقافة، جعل اللغة العربية تعيش محنة قاسية، ولذلك عزف الشعراء عن كتابة المسرح الشعري حتى إنني سألت نزار قباني مرة: لماذا لم تكتب المسرح الشعري، وسألت البياتي أيضا السؤال نفسه، وكانت الإجابة أن كليهما لم يفكر في كتابته. المسرح الشعري مشكلته أنه يحتاج إلى دراما ونص وأحداث وشعر، وأنا كنت أقول دائما إذا كانت القصيدة عبارة عن شقة صغيرة يسكنها الشاعر، فإن المسرح الشعري مدينة كاملة يتجول فيها كيفما أراد والدراما ضرورة من ضرورات المسرح الشعري، لأن الشعر يغري بالكتابة خاصة مع الشاعر، في الجانب الآخر لا تستطيع أن تقول إن الفنانين لديهم القدرة على قراءة الشعر إلا القليل منهم. وأنا كانت لي تجربة ناجحة مع ثلاثة منهم في «الوزير العاشق» و»دماء على ستار الكعبة» و»الخديوي»، والممثلون الذين شاركوا في هذه الأعمال كانت لديهم قدرات لغوية مثل سميحة أيوب وعبد الله غيث ويوسف شعبان ومحمود يس. والجانب الثالث وهو الأهم أن الشعر يغري الشاعر أكثر مما تغريه الدراما، أي أنه يريد أن يغني طوال الوقت وهنا يمكن أن يسقط عنصر مهم جدا من عناصر المسرح وهو الدراما، وهذه الأخطاء قد حدثت حتى مع شوقي وعزيز أباظة، ومن تجاوزها هو صلاح عبد الصبور لأنه استطاع أن يصل إلى لغة مسرح شعري حقيقية. والجانب الأخير هو أن الدولة لا تهتم كثيرا بالمسرح الشعري، فأنا لي مسرحية حاليا بالمسرح القومي من إخراج جلال الشرقاوي ولم تظهر للنور مثل أعمال مسرحية أقل من العادية، وهذا التأجيل لا شك أنه يؤثر. وأنا كتبت هذه المسرحية في أربع سنوات، وكتابة مسرحية شعرية كهذه يحتاج إلى حشد نفسي وتاريخي، فأنا دائما ألجأ إلى التاريخ، وهذا يعني أنني لا بد أن أعود إلى الوراء خصوصا أنني لا أكتب تاريخا ولكنني أستشف روح التاريخ.
البدايات والخصائص
ويقدم الناقد المسرحي د. كمال عبد الرازق نبذة صغيرة عن المسرح الشعري وأهم خصائصه قائلا: ارتبط فن المسرح منذ بداياته الأولي بالشعر الذي كان خير أداة فنية للتعبير عن المضامين المسرحية المختلفة. وكان أرسطو في كتابه «فن الشعر» أول من قنن للعلاقة الوثيقة بين الشعر والمسرح حين قال إن الشعر فن من فنون المحاكاة كالموسيقى والرسم مثلا. ثم قسم الشعر إلى شعر سردي وآخر درامي. أما الشعر الدرامي قد يكون شعرا ملحميا أو شعرا مسرحيا. أضاف: المسرحية الشعرية فن من فنون الأدب الواسعة التأثير، وهي تحتوي على جميع العناصر الفنية التي يجب توافرها في الرواية النثرية من: عرض، وعقدة؛ وحل، ولكن الحوار وهو الكلام الذي يقع من أشخاص الرواية على خشبة المسرح، والذي يعتبر مادة الرواية التي عن طريقها تعرض حوادث القصة ويعالج الموضوع، يختلف في الاثنين فبينما يكون في الأولى شعرا يكون في الثانية نثرا.
والمسرحية الشعرية منتشرة في الآداب الغربية انتشارا واسعا ولها أهمية خاصة في توجيه ونقد المجتمع وهي عريقة في القدم لأن تلك الآداب ورثت هذا النوع من الفن من أشعار الأقدمين من اليونان أولا ومن الرومان ثانيا، ومع مرور الوقت طغى المسرح النثري على المسرح الشعري.
أما في الأدب العربي فإن المسرحية الشعرية من مستجدات العصر الحديث، دخلت إليه بعد حملة نابليون على مصر، وذلك لأن فن التمثيل لم يترعرع عند العرب إلا في وقت متأخر، فلم يشاهد الشعر العربي مسرحا يمثل عليه أدواره ولم يكن عند العرب دور للتمثيل لا في العصر الجاهلي ولا في عهد الخلفاء ولا عند الأمويين ولا العباسيين حتى انقشاع عصر الفترة المظلمة. وأول ما ظهر من المسرحيات الشعرية في الأدب العربي هي (المروءة والوفاء) لخليل اليازجي (1856 - 1889) وهي مأساة طويلة يتجاوز عدد أبياتها ألفي بيت، ونشط كثير من السوريين في معالجة المسرحية الشعرية وقد كثر صدور هذه المسرحيات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان من أهمها مسرحية الشاعر سعيد عقل (بنت يفتاح) ثم (سلوى) لعلي ناصر ثم المحكمة الساتيرية - لعمر أبو ريشة وأسماها محاكمة الشعراء. أما خصائص المسرح الشعري التي تميزه عن المسرح النثري فقد أشار عبد الرازق إلى: لغة الحوار في المسرح الشعري لغة إيقاعية بحكم أن التفعيلة الشعرية تحكم مسار الحركة في اللغة.
الحالة الشعورية في المسرح الشعري حالة مكثفة. - تدفع اللغة الحدث في المسرح الشعري إلى الأمام بقدر ما يكثف الحدث اللغة الشعرية ليجعلها تعبر عن الموقف الدرامي. - يسمح الشعر بوصفه فنا قائما على الرمز بهيمنة عنصر الإيحاء على عنصر الرسالة في المسرح الشعري، بمعنى أنه يضاعف من وظيفة الشفرة. - تسمح شعرية اللغة كما تسمح شعرية الحدث سواء بسواء بتصوير داخل نفس الشخصية على مساحة أوسع، بمعنى أن التركيز على العمق الداخلي للنفس يوازي التركيز على خارجها. - القدرة على تصوير اللامحسوس واللامرئي من خلال الصورة الشعرية (الكناية – الاستعارة)، والأسطورة التي تعد أقرب إلى الشعر منها إلى النثر.
تابع: ويعد من أهم رواد المسرح الشعري في الغرب: جارسيا لوركا، بول كلوديل، كريستوفر فراي، وت. س. إليوت. كما أغرى المسرح الشعري الكثير من شعراء العرب مثل: أحمد شوقي، عزيز أباظة، على أحمد باكثير، عبد الرحمن الشرقاوي، صلاح عبد الصبور، ونجيب سرور.
الصور المرئية في الشعر المسرحي
أما المخرج سعيد سليمان فتحدث عن ماهية العلاقة بين الكلمة والصورة الشعرية حيث قال: أعتقد أننا لو قدمنا مسرحا شعريا هذه الأيام، لكن بمواصفات معينة، فإنه سوف يجد إقبالا كبيرا، لأن النص الشعري هو كلمة، والكلمة مرتبطة باللغة والثقافة الإسلامية ولغة القرآن. لكن المهم هو كيفية تقديمه: هل في شكل إذاعي أو في شكل صورة؟ أضاف: هذا يقودنا إلى الفرق بين النص الشعري والصورة الشعرية لأن الاثنين متشابهان، فالصورة الشعرية للمسرح لا بد لها أن تكون موازية للنص الشعري، في كل جمله وحالاته وما تحت الكلمات. فما تحت الكلمات توجد صور مرئية ومسموعة لا بد أن توازي النص الكلامي لكن لو قدم المسرح الشعري بشكل إذاعي مقروء فرغم متعته فإنه لا يكفي في عصر الصورة والتكنولوجيا والإنترنت، وهكذا. لذا أرى أن المسرح الشعري كلمة وصورة ولا بد للمخرج أن يخلق صورة شاعرية توازي هذا الكلام الشعري، فهناك نص مرئي آخر موازٍ وليس مترجما للنص الكلامي، مثل نص مأساة الحلاج الذي قدم كثيرا، لكن الحالة التي يظهر فيها الحلاج مصلوبا على الشجرة، مفتقدة في كل العروض التي قدمته وهذه صورة شاعرية قدمها صلاح عبد الصبور وهي بمائة معنى، وتوضح العلاقة بين الحياة والموت، فالشجرة شجرة حياة، عندما يصلب عليها فكأن هذا مزج بين الحياة والموت، فتلك صورة مرئية وليست مجرد كلمات، وعندما قدم هذا النص لم يقدم بهذا المعنى وتلك الصور الشاعرية العظيمة لكنه قدم مجرد شخص على شجرة دون معانٍ ودلالات. وأنا أعشق المسرح الشعري جدا وأستفيد منه في الصور التي يمكن تقديمها على خشبة المسرح، أي أنه يمكن أن تختزل كل الكلمات الموجودة وتتحول إلى شعر مرئي وصوتي. وحديثي هنا عن الشعراء العظام مثل سينيكا وشكسبير. فالمسرح الشعري غني جدا ولو قدم الآن فيجب مراعاة الصورة المرئية المسموعة التي تعتبر نصا موازيا للكلمة المكتوبة.
مسرح خارج السياق
ويرصد الكاتب سعيد حجاج بعض أسباب عدم تقديم المسرح الشعري الآن، فيرى أن المسرح الشعري يحتاج أولا إلى عدد من الممثلين لهم دراية كبيرة باللغة، بالإضافة إلى أنه يحتاج إلى ميزانيات باهظة، كما أنه ليس عليه إقبال في ظل المسرح المتهافت المنتشر الآن، وهو هكذا سيصبح شاذا وخارج السياق، وقد تكون التجارب الوحيدة الناجحة في هذا النوع هي تجارب صلاح عبد الصبور وفاروق جويدة، لكن الحقيقة أن هذا النوع من المسرح سيكون للنخبة فقط.
أضاف: ليتنا نعمل على تكريس الجهد ليصبح جزء من ريبرتوار المسرح المصري مخصصا للمسرح الشعري، حتى لا يختفي. وهذا سيحفز عودته مرة أخرى وخصوصا أنه يوجد كتاب جدد مثل محمد السيد عمار الذي يكتب مسرحا شعريا لا أعتقد أنه قدم من قبل على خشبة المسرح، كما أن مسرح نجيب سرور هو مسرح جدير بالظهور مرة أخرى وهو مسرح شعري محترم وتجربة ليس لها مثيل في المسرح المصري.
تابع: علينا أيضا أن نقدم الدعاية المناسبة القوية التي تجذب الجمهور إلى المسرح، فنحن كمن يحرث في البحر ومهما قدمنا مسرحا عظيما فلا جدوى، لقد كانت الدعاية جزءا من الميزانية لكن الآن لا يوجد دعاية إلا في الفيسبوك، والنتيجة أننا نشاهد أنفسنا ونشاهد أصدقاءنا ولا جمهور يشاهدنا. ومنذ سنوات طفا «مسرح مصر» لأشرف عبد الباقي على السطح وأصبح الناس يظنون أن هذا هو المسرح، وبالتالي تصطدم بأي مسرح محترم، فما بناه المسرحيون في مائة عام هدمه «مسرح مصر» في خمس أو ست سنوات.
المسرح الشعري للأطفال
ثم يلقي الناقد والمخرج د. حسام عطا الضوء على وجه جديد ومختلف من أوجه المسرح الشعري وهو الموجه للأطفال، قائلا: (المسرح الشعري للأطفال: أحمد سويلم نموذجا) هذا عنوان رسالة الماجستير التي قمت بالإشراف عليها وأنجزتها الباحثة سيدة موسى نائل بقسم النقد والدراما بالمعهد العالي للفنون المسرحية الأسبوع الماضي، وقد تكون هذه المناقشة تمثل عودة إلى ضرورة أن يعود الاهتمام بتعليم الشعر والمسرح باللغة العربية الفصحى للأطفال، لأنه قد ظهر على سطح السنوات الماضية عدد من عروض الأطفال المأخوذة عن أعمال أجنبية، فبعض الكتاب يأخذون منجزات من تراث الثقافة الشعبية الأوروبية ويقومون بكتابة تعبير (تأليف) عليها، في حين أن معظمها مترجمات وباللهجة العامية بينما غادرت الفصحى، وهي جوهر الهوية الوطنية والعربية، معظم الأعمال المسرحية، فما بالك بالمسرح الشعري للأطفال، لذلك فالاهتمام بالمسرح الشعري للأطفال يبدو الحديث عنه بالقاهرة وكأنه حديث عن حلم من الماضي، وقد ركزت الدراسة على إبداعات الشاعر أحمد سويلم الذي كتب عددا كبيرا من نصوص الأطفال مثل «حي بن يقظان، جحا والدنانير، حكايات كامل الكيلاني»، وتلك المسرحيات الشعرية اعتمدت على شخصية الراوي والحكي وإشراك الجمهور في المناقشة وحضور حي للغة العربية الفصحى بوزن ورقة الشعر، وهذا الاهتمام بأحمد سويلم في المسرح الشعري للأطفال يبدو أنه جاء متأخرا، ولكنه قد حدث وقد تكون هذه الرسالة بمثابة إشارة إليه وتذكرة بالمسرح الشعري بالفصحى، إن عودة المسرح الشعري للأطفال قبل المسرح الشعري للكبار ضرورة مهمة، وربما الشيء بالشيء يذكر يحق لي أن أسأل: أين مسرحية فاروق جويدة «هولاكو»؟ ولماذا لم تظهر للنور حتى الآن؟
الفكرة قبل الشكل
وفي ظل المناخ المسرحي الحالي قدم المخرج الشاب محمود فؤاد صدقي تجربة مختلفة ومتميزة من المسرح الشعري حينما قدم مسرحية «مسافر ليل» برؤية جديدة، يحدثنا عن تجربته قائلا: الموضوع لدي يختلف عن فكرة الشكل الذي نضع فيه العرض، فلو قرأت نصا مثلا لصلاح عبد الصبور وبه الفكرة نفسها لكنها بأسلوب نثري، لكنت أخرجته أيضا، لأن ما يجعلني أقبل على تقديم النص هو الفكرة وليس شاعرية اللغة وميزة نص «مسافر ليل» أن وزن الشعر به جميل، وهذا بالطبع يشكل صعوبة على الممثل لأنه يرتبط بميزان الكلمات والأبيات، وهذا يستدعي أن يكون الممثلون على قدر كبير من الاحتراف والوعي.
أضاف: نحن لم نحذف حرفا واحدا من نص صلاح عبد الصبور لأننا ندرك أهمية الكلمة وأن الميزان سوف يختل، وكذلك في حالة إضافة كلمة أخرى سيحدث الأمر نفسه، ونحن نعرف أن اللهجة العامية أسهل من الفصحى، وفي الفصحى أيضا نحاسب على التشكيل. أما من ناحية النص المسرحي الشعري، فإن التأليف العامي النثري أصلا به أزمة، وقلما تجد نصا قويا ومناسبا، تشعر أن تربة مصر في التأليف المسرحي بها مشكلة، فمن يقدمون مسرحيات جيدة وبها الدراما مكتملة قليلون جدا، وقد لوحظ ذلك في معظم التجارب المقدمة بالبيت الفني للمسرح.. توجد مشكلات كثيرة على مستوى الدراما والتأليف. كما أنه يصعب أن تطلب من المؤلف أفكارا معينة يكتبها. فما بالك بالمسرح الشعري الذي هو أصعب ويتطلب تفرغا وتركيزا أكبر ويحتاج لبدائل لمعاني الكلمات لضبط الوزن والقافية. أما بالنسبة للمخرجين، فإن اللجوء للمسرح الشعري أو النثري إنما تحكمه الفكرة نفسها التي يستطيع أن يقدمها، فأنا مثلا لم أجد مسرحية نثرية تحمل الفكرة التي أود تقديمها، فلا يعنيني إن كان النص شعرا أم نثرا. أما الجمهور فكان لدينا في «مسافر ليل» كامل العدد يوميا، كذلك مسرحية «هاملت» لحسين محمود (رحمه الله) التي عرضت بمسرح الطليعة 2015 وكانت بممثلين هواة، فقد حققت حضورا جماهيريا كبيرا، وحققت أعلى الإيرادات حينها. تابع: على الفنان أن يقدم شيئا جميلا ويحترم الجمهور وسينتبه إليه الجمهور.
انقلب الهرم واختلف المناخ
وأخيرا، كان لا بد أن نلتقي بأحد رموز المسرح المصري الفنانة القديرة سميحة أيوب التي سطرت تاريخا عظيما للمسرح الشعري عندما قدمت عدة مسرحيات شعرية من أشهرها «الوزير العاشق»، و»دماء على ستار الكعبة»، و»الخديوي»، حيث حكت عن تجاربها مع المسرح الشعري قائلة: في تلك الظروف وفي تلك البيئة المحيطة لا بد أن يختفي المسرح الشعري. فالمناخ العام غير مهيأ ولا يتحمل تقديم الشعر على المسرح، فقد أصبح كل شيء سطحيا. فمن يعمل لا يريد أن يبذل قدرا من الجهد. والمبدعون الذين يريدون تكوين ركيزة إبداعية لأنفسهم قليلون جدا. أما الباقون فلا يفكرون إلا في المادة فقط. إن الإنسان الذي يملك طموحا ويريد أن يبني نفسه ويصنع أساسا وقاعدة فنية وإبداعية جيدة ليذكره التاريخ لم يعد موجودا إلا قلة نادرة، فقد انقرضت تلك الأجيال، فأين يجد المسرح الشعري مكانا بين كل ذلك؟ فقد اختلف المناخ واختلفت الحياة في الفن والذوق والاحترام واختلف السلوك والشارع، وحدثت فجوة كبيرة جدا. وانقلب الهرم تماما.
تابعت: لم يعد بيد الفنانين شيء لأن أصحاب القرار أو المنتجين والممولين يعملون على تسطيح الفن وكل شيء. فماذا يفعل الفنانون الكبار وهم تملؤهم الحسرة على البلد وعلى شباب البلد، اللهم إلا أقلية من الشباب الواعي والمدرك الذي يحلم بنهضة مصر. أما المسرح القومي والمنوط به الحفاظ على هيبة واحترام الفن فقد صار مجرد مبنى، فهو لم يكن قوميا بالمبنى فقط ولكن بناسه وبالعقول التي تديره وترسم خططه وتنفذها.
وعن أعمالها قالت: «الوزير العاشق» قدمناها في وقت كانت فيه الساحة متردية جدا، حيث انتشر العري والرقص وأصبحت الساحة المسرحية هزيلة ويغرقها الإسفاف، فتعجبت ومعي الراحل عبد الله غيث بعد شهر من البروفات، ما هذا الذي نفعله وسنقدمه للناس، فتوجسنا وقلت له: هل سنقدم شعرا في ظل المناخ الهزيل المملوء بالعري والرقص، فقال لي إنه كان يفكر بهذا الأمر، فقلت له إننا نسير على منهج ومبدأ واضح، فلو نجحنا فقد قمنا بواجبنا وإذا حدث العكس فقد فشل الجمهور، وإنه هو الذي ينشد التفاهات. ولكن حينما بدأنا العرض حدث الإقبال الجماهيري الكبير، لدرجة أنني في اليوم الأول لم أصدق وقلت إنه جمهور دعوات الصحفيين والنقاد، وفي اليوم التالي قلت إنه بقية الدعوات، وفي اليوم الثالث تم وضع مقاعد زائدة بالصالة، إذن الجمهور يريد من يحترم عقليته ويشعر أن الفنان يجتهد بجدية ويعطيه احترامه. وعندما لا يجد هذا فإنه يذهب إلى أي شيء ثم يعتاد على الهزل والتفاهات.. والجدية لا بد أن ترتبط بفرجة ومتعة وجمال ورسالة.