قراءة في مذكراته أثر الحراك الاجتماعي في التحولات الأدائية للريحاني

قراءة في مذكراته أثر الحراك الاجتماعي في التحولات الأدائية للريحاني

العدد 618 صدر بتاريخ 1يوليو2019

«لا شك أنني كنت في ذلك الحين، أهوى التمثيل من كل قلبي لكنه ميل كان منصبا على نوع واحد من الفن هو (الدرام). أما الكوميدي فلم أشعر نحوه بأية عاطفة، كما أنني لم أخلق له، وإذا ما بدا لي أن أظهر في دور كوميدي فسيكون السقوط حليفي.. والطماطم.. من الجمهور نصيبي».
بين الجد والهزل
يشير هذا المقطع من مذكرات نجيب الريحاني (1883 - 1949) إلى أشياء عدة في فترة تكونه الفني أو لنقل تلك الأفكار والمفاهيم التي سوف تحدد رؤيته لفن المسرح، فالشاب الذي تعرف على فن التمثيل من خلال عروض مسرحيه تنتمي لما يطلق عليه حينذاك «الدرام» أو المسرح الجاد، الذي يعتمد طرائق محددة في الكتابة الدرامية والأداء التمثيلي الذي يعبر عبر الوضوح في مخارج الحروف والخطابية والاهتمام بالبلاغة الشكلية عبر استخدام الممثل لجهازه الجسدي والصوتي والانفعالي، هذا الفهم لفن المسرح، هو ما جعل نجيب الممثل المبتدئ يفضل الدرام على الكوميديا، الأقرب له حسب المواصفات الشكلية له على أقل تقدير، وهي مواصفات عادة ما تحدد مسار الممثل.
إلا أن الأمر اللافت هنا هو دلالة تفضيل نجيب للنوع الجدي رغم تكوينه الجسدي الذي يرشحه للنوع النقيض، المؤكد أن هذه الصورة قد كونتها الثقافة السائدة للمجتمع تلك الثقافة التي ترى الجاد أكثر قيمة من الهزلي أو الضاحك أو الفرِح، وهي ثنائية سوف تحدد المشوار الفني للريحاني فالجاد/ الهزلي أو الفصحى/ العامية، هذه الصورة هي أحد تجليات هذه الثنائية، كما هو واضح من هذا المقطع هو تطعيم الفصحى ببعض التعبيرات العامية، لإنتاج نوع من المفارقة اللفظية أو المحاكاة الساخرة ليضع الجليل أو الجاد في سياق ساخر وهزلي. وهو الأسلوب الفني الذي يحدد رؤية الريحاني لفن الأداء التمثيلي الذي سوف يتبناه كأسلوب فني للتعبير، أعني الوقوف بين ما هو مأسوي وما هو كوميدي سعيا وراء تعبير أكثر صدقا عن الواقع، الذي يختلط فيه التراجيدي بالهزلي، لكن الريحاني الذي ظل طوال حياته الفنية يحلم بلعب أدوار جادة أو تراجيدية، وهو ما سوف يحاوله لكنه وجد أن مثل هذا النوع من العمل قد سقط سقوطا واضحا لا لبس فيه وتسبب في إفلاسه وحل فرقته المسرحية (1) ليدرك بشكل قاطع أنه لا يصلح إلا للأدوار الكوميدية.
وتبقى شخصية «بوشيه» التي لعبها الريحاني، في رواية «خلي بالك من إميلي»، وهي كوميديا من نوع الفارس farce (2)، هي باكورة إنتاج فرقة الكوميدي العربي إخراج عزيز عيد (3) تأليف الكاتب الفرنسي جورج فيدو (4).
وعلى الرغم من أن الدور ليس كوميديا تماما فإن الريحاني استطاع انتزاع ضحكات الجمهور ومن ثم غير أداءه ليصبح أداء كوميديا خالصا، بل إن شخصية «بوشيه» جعلته يدرك تماما أن عليه أن يتخصص في هذا اللون الفني، كما أنه أدرك أيضا أن هذا اللون لم يتخصص فيه أحد غيره؛ فقد كانت الساحة الفنية تميل حينذاك للتخصص في لون فني واحد، فالمسرح الجاد وريث الأدوار التراجيدية الصارمة، كانت مجالا لصنوه جورج أبيض (5) الذي اهتم بتقديم شخصيات مثل أوديب لسوفوكليس (6) أو هاملت لشكسبير أو لويس الحادي عشر.. إلخ، بأداء يعتمد على المبالغات الحركية واللفظية والإلقاء الفخم، الذي يهتم بإبراز مخارج الحروف، فقد كانت جودة الممثل تقاس بملامحه الجسدية القوية وجهاز نطقه السليم، فيصبح قادرا على إيصال الحوار الدرامي دون لبس، لكن هذا الأسلوب الفني في مجال التمثيل قد يصل في كثير من الأحيان إلى فخ القولبة أو الأسلبة والاعتماد على الكليشيهات الجاهزة، وكأن الممثل يمتلك قدرا من الحيل الجاهزة التي يستخدمها عند اللزوم، لكن الريحاني المبتدئ في مجال التمثيل وعبر الممارسة، قد لاحظ أن الأسلوب الجاد الذي مثله في هذه الفترة الممثل ومدير الفرقة اللبناني الأصل جورج أبيض، لا يتلاءم مع تكوينه الجسدي على الأقل، حدث هذا حين حاز فرصة في إحدى المسرحيات وهو دور صغير في رواية «شارمان الأكبر»، عبر أستاذه وصديقه المخرج عزيز عيد، المهم - هنا - أنه في هذا الدور الذي أدى فيه شخصية ملك النمسا، قبيل اندلاع الحرب العظمى الأولى التي دخلتها النمسا، حاول الممثل المبتدئ أن يقترب من ملامح ملك النمسا، التي كانت معروفة للجماهير حينذاك فقد كانت تُنشر صوره في الصحف حينذاك، ففوجئ الريحاني بتجاوب الجمهور معه بالضحك من حركاته المبالغ فيها، ووضع شخصية ملك النمسا الحقيقي في سياق ساخر(7)، عبر علاقة المشابهة التي ابتكرها الممثل المبتدئ.
لقد كانت هذه الرواية، التي شرعت في تقديمها فرقة «سليم عطا الله» (8) قد أكسبته استراتيجيته الخاصة، فقد أهلته لمراوحة بين الجاد والهزلي، والتي تجلت فيما يخص الأداء التمثيلي، وهو النشاط الأساسي له لكنها سوف تحدد رؤيته لكل ما هو فني، فسوف نلاحظ تبدياتها، في اختياراته للنصوص المسرحية – فيما بعد - التي سوف يقدمها في صورة مشاهد تمثيلية أو فواصل مسرحية (اسكتشات) التي سوف يقدمها في أماكن اللهو والشراب، وهي الفترة الخاصة بتقديم شخصية «كشكش بيه» وصولا إلى النصوص المسرحية المعدة سلفا للتقديم على خشبة المسرح، وهي تبدٍ آخر لثنائية الجاد/ الهزلي؛ فإذا كانت المشاهد الدرامية أو الفواصل، تتأسس على مفهوم الارتجال كما نفهمه في أي كوميديا شعبية، فإن الاعتماد على نصوص لها بناء درامي أو حبكة منتظمة وحدث له بداية ووسط ونهاية لهي خطوة كانت تعرف بالمسرح الجاد، حتى لو كان النص كوميديا أو هزليا، وبخاصة إذا كان هذا النص المسرحي مكتوبا باللغة الفصحى.
الكوميديان السوقي المهرج
بعد النجاح الذي حققه الريحاني مع فرقة التمثيل الكوميدي العربي، في شخصية بوشيه هذا الجندي الذي يعمل في البوليس وتعوله ابنته الجميلة، في نص «خلي بالك من إميلي» وهو نص كوميدي من نوع الفارس، هذا النوع الذي تخصص فيه جورج فيدو، يسرد لنا الريحاني الأدوار الأخرى التي لعبها خاصة في الأبيه دي روز (9) مع صديقه ورفيق دربه الممثل استيفان روستي، وهي عروض تعتمد على مشهد وحيد أو هي اسكتش فني، في سياق استعراضي راقص، يعتمد موقفا دراميا بسيطا له طابع فكاهي، انتقادي، وهو الأسلوب الفني الذي اعتمد عليه في فترة البدايات أو فترة تدريبه الفني، فترة ما قبل الحرب العظمى حيث ازدهار أماكن اللهو والكباريهات وقاعات الميوزك هول، إن هذا الأسلوب ينتمي لفنون خيال الظل أكثر من أن ينتمي لفنون المايم، فالنوع الأول، نابع من الظواهر المسرحية التي كانت موجودة في التراث الشعبي أما المايم فهو ينتمي لتقاليد فنية أخرى، هي فنون الكوميديا دي لارتي، التي سوف يتعرف عليها الريحاني لاحقا، مع تعرفه على فودفيلات فيدو، عبر أستاذه عزيز عيد، الأكثر تأثير في هذا الجيل، أول من جعل الإخراج مهنة مستقلة، في هذه المرحلة التأسيسية من عمر المسرح المصري.
المهم أن أماكن اللهو والكباريهات هذه، قد انتشرت، منذ بداية الحرب العظمى في مدينة القاهرة، وذلك بسبب تدفق جنود من كثير من الجنسيات من إنجليز، أستراليين، يونان وفرنسيين.. إلخ، وهم الجسد الأساسي لارتياد هذه الأماكن بجانب بعض المصريين من أبناء الطبقات العليا المدينيين، وكثير من محدثي النعمة من أصحاب الأراضي الزراعية، زارعي القطن الذي وصلت أثمانه لأرقام خيالية في تلك الفترة، بسبب ظروف الحرب وازدياد الطلب عليه، خصوصا أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.
إن ما كان يقدمه نجيب الريحاني لم يكن عروضا بالمفهوم الاصطلاحي للكلمة، ولهذا السبب لم يكن في حاجة لمخرج متخصص كما هو الحال في تقديم نص مسرحي أعد سلفا كي يقدم على خشبة المسرح، فما كان يقدمه لم يتعد مشهدا أو اسكتشا فنيا - كما ذكرت سابقا - في حالة «أبيه دي روز» مع روستي، كان الاسكتش الفني على هيئة «خيال ظل» وانحصر دور الريحاني في شخصية خادم بربري، الذي يلازم الشخصية الأساسية التي كان يلعبها استيفان روستي، أن نوعا من هذا الظهور أمام الجمهور، يبتعد كثيرا عن مفهوم الأداء التمثيلي، الذي يعتمد على التقمص الداخلي بمفهوم «ستانسلافسكي» على سبيل المثال، قد يكون نوعا أوليا له، أو هو شكل بدائي للتمثيل، ليقترب أكثر من مفهوم مؤدي الصالات الاستعراضية التي تستفيد من فنون المايم (10) عبر نوع من الفكاهة السوقية، إنه أداء يزاوج بين هذه الفنون، لكنه يقترب أكثر من مفهوم الكوميديا الشعبية، أو ما اصطلح على تسميتها الكوميديا دي لارتي، هذا النوع الفني الذي انتشر في إيطاليا في القرن السادس عشر ثم انتقل إلى فرنسا وهو ما يطلق عليه أحيانا الكوميديان «صاحب الأنف الأحمر دلالة على السُكر وعدم الاتزان» (11).
الموكد أن الريحاني ثقف وتأثر بهذا النوع الفني عبر فارسات أو فودفيلات جورج فيدو، وبخاصة في نصوص مثل: «خلي بالك من إميلي»، «يا ست متمشيش كده عريانه» وهو تمصير لنص جورج فيدو «ولكن لا تتجولي عارية هكذا» (12) فودفيل من فصل واحد، عُرضت للمرة الأولى في 25 نوفمبر سنة 1911 على مسرح فيمينا، يعتمد النص على مجموعة من المفارقات الضاحكة، وذلك من خلال شخصية الزوج «فونترو»، المتزوج من «كلاريس» الزوجة الشابة، التي تظهر طوال الوقت بملابس عارية أمام الضيوف وأمام الخدم، مما يسبب الحرج للزوج، خصوصا حين يزوره «هوسيبي» وهو مسئول كبير ونائب في مجلس النواب، مما يهدد مستقبل الزوج في الانتخابات التي ينوئ خوضها، وهو ما يحدث أيضا مع الصحفي في جريدة «الفيجارو» «دوجيفال» الذي يحضر لمقابلة الزوج، مما يتسبب في إحداث مفارقات لها طابع هزلي، يعتمد بالأساس على عنصر المفاجأة بجانب التلميحات ذات الطابع الجنسي المكشوف.
ذلك النوع الذي اهتم بتقديمه المخرج الأول في مسرحنا «عزيز عيد» ثم نص «توباز لمارسيل بانيول» الذي سوف يقدمه الريحاني فيما بعد باسم «الجنيه المصري» في بداية الثلاثينات من القرن المنصرم وتفشل جماهيريا، ويعود لتقديمها مرة أخرى بعنوان «الدنيا ماشيه كده» في السنة التي تسبق وفاته، وتنجح نجاحا عظيما.
لكن هذا التأثر، لم يمتد إلى المفاهيم التي تخص فن الممثل فحسب، بل امتد إلى الكثير من السمات المسرحية القارة في إنتاجه المسرحي والسينمائي. إلا أن مفهوم ممثل الصالات، الذي يمزج فنونا متنوعة في تركيبة فنية محكمة منها فنون المايم، فنون الاستعراض، الغناء الموقع أو الملحن، وسط إطار من الفكاهة والمرح، قد تبلور بشكل أكثر وضوحا في شخصية «كشكش بيه». يبقى أن نشير إلى أن انتشار هذه النوعية من العروض المسرحية، على حساب ما يطلق عليه المسرح الجاد، الذي يعتمد على النصوص المعدة سلفا للتقديم على خشبات المسارح، ليصبح الارتجال مقابلا للنصوص الجاهزة، له علاقة بالتغيرات التي حدثت في مصر ما بين الحربين العظمتين لدرجه أننا نستطيع إطلاق هذه التسمية على تلك النوعية من الفنون، تحديدا في فن الغناء والطرب.
ثمة شريحة اجتماعية قد ظهرت على الساحة، وهي تملك المال والنفوذ وتبغي التعبير عن نفسها، كما أنها تبغي أن ترى نفسها ممثلة على خشبه المسرح، وهو ما حدث في كل الأنواع الفنية من دراما، غناء.. إلخ.
هذه الشرائح أو القطاعات من الشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة، التي أثّرت إبان الحرب الأولى، من أثرياء الريف والمدن، نتيجة ارتفاع القطن، وهي الظروف التي هيأت لابتكار شخصية كشكش بيه فالمؤكد أن الطبقة الاجتماعية هي التي حددت نوعي هذا المنتج الفني وقضاياه وأفكاره، وهي التي مولته وشاهدته أو استهلكته وفرضت عليه ذوقها ورؤيتها للعالم والأشياء.
يحدثنا نجيب الريحاني عن شخصية «كشكش بيه» في المذكرات، وكيف اهتدى لهذه الشخصية قائلا: وفي فجر هذه الليلة، ولست أدري أكنت نائما أم مستيقظا وإنما الذي أؤكده أنني رأيت بعيني رأسي خيالا، كالشبح يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة فقلت في نفسي، ماذا لو جئنا بشخصية وجعلناه عماد روايتنا والمقطع نفسه يقول: كان عبارة عن أن عمدة من الريف، وفد إلى مصر يحمل الكثير من المال، فالتف حوله فريق من الحسان، أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم، ويقسم أغلظ الأيمان، أن يثوب إلى رشده وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل. هكذا ابتكر هذه الشخصية الدرامية التي تعتمد بالأساس على ملامح ثابته في تكوينها النفسي والدرامي، وتتيح إمكانية الارتجال في المواقف التي سوف تعرضها على خشبة المسرح كأي شخصية فنية تنتمي لتراث الكوميديا الشعبية.
كانت هذه الشخصية هي أول تعاون بين نجيب الريحاني وبين ملهى «الأبيه دى روز «وكانت أول عروضه هو عرض «تعاليلي يا بطه» الذي ألفه وأخرجه ووضع موسيقاه ومناظره، والغريب أن هذا العرض/ الاسكتش، قد حاز على إعجاب الجمهور، وهو ما شجع الرجل نحو المضي في هذه النوعية، التي يغلب عليها الطابع التجاري غير الفني، وقد أصبحت هذه الشخصية كشكش بيه، فيما بعد هي القاسم المشترك في كل عروضه، في هذه المرحلة من حياته، كما أنها سوف تتحول لموضة فنية، يتم استنساخها، في عروض كثيرة في مصر وخارجها لكن المؤكد أن هذه الاسكتشات الاستعراضية كان بها كثير من الصخب والبذاءة واللعب بالألفاظ، قد يطرب لها الجمهور لكنه طرب وقتي، أجوف لا يرقى بمشاعره وأحاسيسه، وحين تتطور هذه الأساليب، سوف تتحول لفكاهة مبللة بالدموع، قد تثير الابتسام وتثير – أيضا - التفكير والتأمل، هنا يكون فنان الكوميديا قد غادر محطة التهريج الصاخب، الذي له طابع ساتيري، إلى رحابة الكوميديا التي تدعو للفكر والتأمل، لا لتخدير المشاعر بشكل وقتي تمحى الذاكرة بمجرد الخروج من قاعة العرض، وذلك لغياب العنصر الفكري، أهم ما في فنون الكوميديا من عناصر.
إن شخصية العمدة الغافل المتلاف، الريفي، الساذج، اللئيم في بعض الأحيان، الذي ينفق أمواله على الحسان، والذي أضاف له الريحاني، تابعا يدعى «زعرب» يمثل شيخ الغفر، وقد أسند تمثيل هذه الشخصية للممثل عبد اللطيف المصري وتتوالى هذه العروض التي تعتمد على هذا الثنائي، مثل «خليك تقيل»، «هز يا وز»، «إديله في الجامد»، بمشاركه محترف الكتابة الدرامية، ذات الطابع التجاري أمين صدقي. الذي سوف يختلف من الريحاني لاحقا، المهم في هذا السياق نجاح «شخصية كشكش» وللتدليل على النجاح الكبير للشخصية، أن الريحاني حين اختلف مع صاحب كازينو «الابيه دي روز» وكان من شأن هذا الخلاف، أن ترك الريحاني المكان وانتقل إلى «الرينسانس» ولقد كانت هذه الحادثة سببا في إفلاس «الابيه دي روز»، أما الفرقة التي تكونت في الرينسانس فقد تكونت ممن كان يتعاون معهم الريحاني وهم أمين صدقي، استيفان روستي، عبد اللطيف المصري ثم انضم إليهم عبد اللطيف جمجوم، وكانت أول رواية هي اسكتش «ابقى قابلني» ثم اسكتش «كشكش بيه في باريس»، التي حققت نجاحا ملحوظا، ثم اسكتش «وصية كشكش» التي قدمت بنفس الأسلوب الفني الذي يعتمد على الفكاهة اللفظية والتهريج وكل ما يخص الكوميديا بمفهومها الشعبي الفلكلوري، الذي يحوي عنصرا يتسم بالبذاءة اللفظية وهو مكون أساسي في هذا النوع الفني، وهو أحد بقايا المسرحية الساتيريه satiric أو مسرحية التيوس كما كان يطلق عليها في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كان أفراد الكورس وقائده يرتدون جلد الماعز وهو الحيوان المقدس لدى الإله باخوس إله الخصب والخمر وفن المسرح، كانوا يتبادلون النكات البذيئة التي تدور أساسا حول الجنس، وتقدم هذه العروض في كرنفال يسكر فيها الجمهور ويتبادلون الفحش، احتفالا بالإله ديونسيس أو باخوس في أعياد الدينيسا، في مسرح الأكربول في أثينا القديمة، ثم حظر بعص الحكام هذه العروض كما اعتمد الاسكتش على عنصر الاستعراض، التي كانت تؤديه راقصات أجنبيات، لكي يقمن بالاحتيال على عمدة كفر البلاص وإن أضاف الريحاني أسلوبا آخر وهو ما يطلق عليه, «التأويز والتريقة» ويبقى اسكتش «حمار وحلاوة» الذي قدمه نجيب الريحاني في نحو عام 1917 بعد أن انضم للفرقة الممثل «حسين رياض» ليتحول الريحاني بعد أن انضم الأخير للفرقة إلى مرحلة جديدة، وصلت فيها شخصية كشكش لأقصى درجات الشهرة، وهي الفترة التي قدم فيها اسكتش «حمار وحلاوة» الذي صاغه دراميا أمين صدقي - مؤلف الريحاني في هذه المرحلة - لكنه بسبب «حمار وحلاوة» اختلف مع الريحاني، فقد أراد أن يملي شروطه المالية عليه، بما حققه من أرباح، وهو ما رفضه الريحاني. كانت أول رواية تعاون فيها الريحاني مع بديع خيري، هي رواية على «كيفك» 1918 - 1920 وهي الرواية التي استعان فيها بالملحن السوري «كاميل شاميير» لكي يضع ألحانا لأناشيد الرواية، وهي لم تكن مبتكرة خصيصا، بل بعض الألحان المشهورة، ثم تركب عليها كلمات الأغاني، وهي غالبا تنتمي للقدود الحلبية المعروفة سلفا، فالتلحين الحقيقي، سوف يوجد حين ينضم الموسيقار الناشئ حينذاك «السيد درويش» للفرقة، وهو ما حدث في نفس الفترة، حين شاهد الريحاني مسرحية «فيروز شاه» التي كتبها الكاتب الهاوي «عبد الحليم دولار» ولحنها السيد درويش، ورغم فشل العرض فإن التلحين كان عنصرا بارزا، وتعاقد معه الريحاني، لتبدا المرحلة الأكثر فنية في مشواره المسرحي.
مرحلة النضج الفني
«قرر الفنانون يوما أن يقوموا بمظاهرة، أسوة بسائر الطوائف في مصر، وكانت كل مظاهرة تخرج وقد استعدت للعودة بعدد لا بأس به من القتلى والجرحى.. وفي الساعة المحددة، خرجت كل فرقة من المسرح الذي تعمل به وقد حملت علما كبيرا والتقت الفرق كلها في ميدان الأوبرا أمام فندق الكونتينال.. وكان في السائرين (جورج أبيض، وعبد الرحمن شكري، وعزيز عيد، ونجيب الريحاني وزكي طليمات، ومحمد عبد القدوس، ومحمد تيمور).. وكل من كان يعمل في المسارح ممثلا أو مخرجا أو عاملا، وكان بعضهم يلبس ملابس عربية وبعضهم يلبس ملابس فرعونية، وغيرها، من ثياب القومية المصرية..».
هكذا تصف «فاطمة اليوسف» المشهد الأول لاندلاع الثورة، هذا الحدث الضخم، الذي غير الكثير في منظومة القيم في كل مكان، اعتقال سعد زغلول ونفيه إلى مالطة هو الشرارة التي فجرت ثورة 1919، فأغلقت الحوانيت وأضربت المواصلات عن العمل، وخرجت المظاهرات في كل أرجاء مصر تهتف بحياة الزعيم والاستقلال لمصر.
ضروب الحياة ومنها - أو في الصدارة منها - الجانب الفني بعامة والمسرحي بخاصة، إذا نحينا جانبا بقية الجوانب الاجتماعية والسياسية، على أهميتها. وقد تزامن هذا الحدث مع خطوة أخرى خطاها الريحاني في مشواره الفني، وهي تعرفه على رفيق دربه الشاعر والدراماتورج بديع خيري بديلا لأمين صدقي، لأن انضمامه لفرقة الريحاني، أضاف لمشروعه الفني بعدا سياسيا واجتماعيا بجانب البعد الأولى والفني بالطبع، تمثل في تناول الطوائف الشعبية والعمال والطبقات المهمشة، لتصعد هذه الشرائح الاجتماعية لأول مرة على خشبة المسرح في مشروع الريحاني، أو قل رسخت هذه الفرقة قيما فنية، جعلتها تشتبك مع معطيات المجتمع المصري حينذاك. وقد اكتمل المشهد بانضمام السيد درويش، فأصبح ملحنا لأزجال يكتبها بديع خيري في عروض مسرحية، يلعب أدوارها الأساسية نجيب الريحاني، رغم أننا ما زلنا في مرحلة «كشكش بيه»، فإنها مختلفة، كانت البداية مع عرض «ولو» الذي وضع أزجاله «بديع خيري» ولحنها «السيد درويش». ومن ألحان هذه الرواية لحن يعوض الله.
ثمة روح جديدة تسود المسرح بكل فنونه، كالغناء الجماعي لسيد درويش، خصوصا في الألحان التي تتناول الطوائف الشعبية وأغاني العمل كما في لحن «شد الحزام يا سيد» أو «احنا تجار العجم» أو لحن «التحفجية» إضافة إلى الألحان المسرحية، أما فن الريحاني فقد ظل وفيا لأصول أقل قربا من هذه الروح الجديدة، التي سادت رغم أن نشاطه الذي عبر من خلاله هو فن المسرح، الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بالقيم الفنية نفسها، التي عبر عنها «السيد درويش» وأن المسرح باعتباره فنا جماهيريا، ينبغي أن يشتبك بشكل مباشر مع معطيات الواقع الذي ينتجه ويستهلكه، مثله في ذلك مثل الغناء، وقد يكون أكثر قربا في بعض اللحظات، وذلك لتلك العلاقة المباشرة بين منتجه ومستهلكه أو بين المبدع والمتلقي. الموكد أن ثنائي بديع خيري والسيد درويش، قد أضافا روحا جديدة أو رؤية سياسية واجتماعية أكثر وضوحا وأكثر التزاما لمشروع الريحاني الفني، وهو ما كان يعرفه الريحاني، بعين الممارس وصاحب الفرقة، عبر خبرته العريضة في المجال، لذا سعى لضم بديع خيري وهو الهاوي المغمور حينذاك، كما استعان بدرويش عبر صديقه الكبير «جورج أبيض» الذي كان يلحن له سيد درويش أبريت فيروز شاه بل إنه ترجاه أن يترك له سيد درويش ومن ثم استطاعت هذه الألحان أن تتجاوب مع جماهير مسرح الريحاني، كما أنها - أيضا - استطاعت أن تكون معبرة عن الثورة ومبشرة بها دراميا، وأن تفرز شخصيات جديدة تتصدر خشبة المسرح، كالأعيان المتوسطين، المحامي، ناظر الوقف، السكرتير الفلاح، المعلم البلدي، الخواجة والحماة. من هنا تخلى نجيب الريحان عن الجبة والقفطان واللحية المستعارة، كما في فارسات كشكش بك، واقترب أكثر من شخصية الرجل الصغير أو الرجل العادي أو الرجل الغلبان بالمفهوم الشعبي، سيئ الحظ وهي الخطوة التي تقربه من الكوميديا الانتقادية، التي استلهم فيها أسلوب الفنان العظيم «شارلي شابلن»، هذه الشخصية التي رمت بظلالها على معظم من قدم اللون الكوميدي في المسرح والسينما حينذاك رغم أن الريحاني لم يذكره في مذكراته، باعتباره من الآباء المؤسسين لأسلوبه الفني. هنا سوف يتوارى الاسكتش الفني ذو الطابع الفكاهي، ليحل محله النص المسرحي في بواكيره الأولى، هذا النص الذي أُعد سلفا لأن يقدم على خشبة مسرح لجمهور ممهد لتلقيه، لا لجمهور يشاهد نمرة لها طابع درامي - تقدم في كازينو - يعتمد بالأساس على الترويح، أن هذا التطور الذي طرأ على مشروع الريحاني، هو ما أنتج نوعا آخر من الكوميديا قوامها النقد السياسي والاجتماعي للطبقة المتوسطة الصاعدة في مجال السياسة والمال أما على المستوى الفني، فقد تزامن هذا التطور مع بروز فن الكاريكاتير الساخر، وهو أحد نتائج الاحتدام الثوري لثورة 1919 الذي ازدهر مع ازدهار الصحافة، ونستطيع القول الكاريكاتير أسلوب فني له طابع انتقادي، انتقل من الصحافة لفن المسرح، في لحظة فارقة في تاريخ مصر.
الهوامش
إبراهيم المصري، ذكريات مسرحية ص 52 يحكي أنه عندما عرض مسرحيته «الفريسة» على مسرح فرقة رمسيس، تمثيل يوسف وهبي، وقابل نجيب الريحاني الذي أسر في أذنه أنه قد تأثر بالراوية ويريد التحول من الكوميديا إلى الدراما، فحذره قائلا: إياك أن تفعل أنت ممثل كوميدي بالسليقة والطبع ونصف نجاح الفنان يرجع إلى اهتدائه بسليقته وطبعه، فلا تخالف طبعك وإلا ندمت.
 2 - الفارس أو الكوميديا الهزلية هو ضرب من ضروب الكوميديا، التي تقوم على المبالغة بصرف النظر عما هو محتمل أو منطقي وهي تعتمد على المواقف التي تنتج الضحك عبر الحركات البدنية العنيفة، وهي تعالج النواحي الإنسانية، بتصويرها لعيوب الإنسان ومثالبه الواضحة، لذلك فهي تتناول التصرفات التي تخص الشخصية في صراعها مع البيئة، التقاليد وترجع جذورها إلى المسرح الكلاسي في بلاد اليونان وروما، كما اعتمد عليها المسرح الأوروبي فيما بعد، خاصة في القرن 17 الميلادي، ونصوص موليير، أحد النماذج لهذا النوع الفني.
3 - راجع المذكرات
4 - راجع المذكرات
5 - ممتل وصاحب فرقة تمثيلية، ثم فيما بعد أستاذ التمثيل بمعهد التمثيل، من أوائل من درس فن التمثيل دراسة منظمة، وذلك حين أوفد لدراسته في فرنسا، وقد تتلمذ على يد الممثل الفرنسي الشهير «سيلفان»، قدم «أبيض» للمسرح المصري، كلاسيكيات مثل أوديب ملكا، لويس الحادي عشر، الأب ليوتار، أندروماك، وهو رائد الأسلوب الرومانتيكي في فن الأداء التمثيلي.
كان «أبيض» يميل لتقديم المسرحيات ذات الطابع الكلاسي، من تراجيديات تاريخية، رومانسية وميلودرامية، معتمدا في ذلك على الثقافة الفرنسية، وعبر أسلوب يعتمد على الإمكانيات الصوتية والجسدية وهو بحق رائد هذا الأسلوب في مسرحنا المصري، من عروضه أيضا عطيل، ماكبث، الملك لير، نابليون تيمورلنك، شارل السادس كما قدم عروضا لها طابع اجتماعي، مثل مسرحية مصر الجديدة ومصر القديمة لفرح أنطون عام 1913 أسرار القصور باسم القانون لعباس علام، عاصفة في بيت لأنطوان يزبك، كما قدم الشيخ متلوف، النساء العالمات، دون جوان، مدرسة الأزواج، وهي عروض عن نصوص لموليير.
6 - سوفكليس، هو ثاني المثلث الذهبي في المسرح الإغريقي بعد أسخيلوس، كتب التراجيديات أوديب ملكا، أنتيجونا، أياس، أوديب في كولونا، الكترا، فيلوكتيس، ترجم أعماله للغة العربية الدكتور طه حسين.
7 - المذكرات، مرجع سابق.
8 - كون سليم عطا الله فرقة مسرحية مع أخيه أمين، وكانت تضم الملحن كميل شاميير، هذا الملحن الذي عمل في بدايته مع نجيب الريحاني قبل تعرف الريحاني بسيد درويش.
كانت فرقة عطا الله فرقة غنائية لها طابع استعراضي، تخصصت في تقديم العروض التي يطلق عليها الفرانو أراب، بتأثير من نجاح الريحاني في مرحلته الأولى (مرحلة كشكش بك) لذا تخصصت الفرقة في تقديم هذه الشخصية خاصة في بلاد الشام، ضم في فرقته إبريز ستاتي، سرينا إبراهيم، بديعة مصابني، ببا عز الدين، فاطمة سري، حسين رياض، وآخرين، توقفت هذه الفرقة عام 1935، لكنه عاود نشاطه فيما بعد من خلال تكوينه لفرقة صغيرة للميوزك هول، التي قدمت بعض الفودفيلات الراقصة.
9 - الأبيه دي روز، مقهى إفرنجي بناه الإيطالي روزاتي، بشارع الألفي، مكان، ملهى شهرزاد الآن، ازدهر أثناء الحرب العالمية الأولى، شهد مولد ونجاح شخصية كشكش بك وبدايات ظهور نجيب الريحاني.
10 - المايم هوفن الأداء الصامت دون استخدام الحوار المنطوق، انطلاقا من أن الكلام يفسد الجمال العظيم، الذي يوحي به الصمت، كما في أفلام شابلن.
11 - راجع قاموس المسرح
12 - النص مترجم للعربية، ترجمه الدكتور حمادة إبراهيم.


عز بدوي