جان - كلود فان إيتالي: الثقافة الوسائطية والذات بعد الحداثية

جان - كلود فان إيتالي: الثقافة الوسائطية والذات بعد الحداثية

العدد 617 صدر بتاريخ 24يونيو2019

تعد مسرحيات الكاتب المسرحي الأمريكي البلجيكي الأصل (جان - كلود فان إيتالي) أكثر الأشكال المسرحية التجديدية التي تطورت في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد تأملت المناقشات المعيارية للدراما الأمريكية (فان إيتالي) ومسرحياته بشكل هامشي، ربما بسبب ميله إلى التجديد الشكلي، وغالبا ما يوضع اسمه ضمن مجموعة الكتاب الأمريكيين الأقل شهرة في الستينات، وهي المجموعة التي توجهت إلى اكتشاف الإمكانيات الدرامية، فضلا عن كتابة المسرحيات التي تحقق نجاحا. وإذا كانت هذه التصنيفات تقوم على النجاح التجاري وعدد العروض واسعة النطاق على مسرح برودواي، فيظل (فان إيتالي) بالتأكيد نموذجا هامشيا في الدراما الأمريكية المعاصرة، وذلك لأن البحث عن التجديد الدرامي هو الملمح المميز لمسرح (فان إيتالي) الذي يهب نفسه تماما إلى إطار النقاش بعد الحداثي، وبذلك يجعل مؤلفه مرغوبا فيه ككاتب مسرحي نموذجي جدير بالتقدير هنا (1).
تتضح المكانة الهامشية لمسرحيات (فان إيتالي) في القواعد الراسخة في التفسير المحدود للأدب الهامشي المقدم في أعماله. ففي أول دراسة بحجم الكتاب، التقط (جين أ. بلونكا Gene A. Plunka) جوهر مسرحه عندما يقرر أن البحث عن الشكل والبنية الدرامية هما مسرحه (2). بمعنى آخر، يهتم (فان إيتالي) بالمسرح نفسه، فمسرحياته بشكل مهيمن هي تأمل للدراما ومقوماتها، ولذلك فهي مسرحيات درامية شارحة بمعنى بعد حداثي مؤكد. فالكاتب واعٍ بجدول أعماله التجريبي، ففي خطاب يتعلق بمسرحية «الأفعى The Serpint» يعرّفها بأنها محاولة لكسر نوع من العقبات في الشكل المسرحي، علاوة على أنها محاولة لإضافة شيء لفهم المتلقي المعتاد لماهية المسرحية (3). وقد قام (فان إيتالي) ببساطة بأكثر من كسر العقبات، فقد غيرها بالأحرى، وهذا هو السبب الذي يجعل مسرحه هو مسرح تحولات ما بعد الحداثة.
ومع ذلك، لم يؤمن (فان إيتالي) يوما بالفن للفن، إذ أبدى اهتماما مؤكدا بالنقد الاجتماعي وربطه بشكل محير باهتماماته بالتجديد الشكلي. ويمزج منهج بحثه الفنون المسرحية بتيار خفي من النقد الاجتماعي، ولذلك هناك أسباب كثيرة لوصفه بالكاتب المسرحي السياسي أيضا، فلا تزال أعماله بالإضافة إلى مسرحية «مرحبا أمريكا America Hurrah» تقرأ في إطار جدول أعمال سياسي، ولكنها نادرا ما تناقش بإشارة مرجعية إلى ما بعد الحداثة (4).
وتستهدف الأجزاء الثلاثة لمسرحية “مرحبا أمريكا” (المقابلة Interview، وتلفزيون T.V، وفندق صغير Motel)، علاوة على أعماله التجريبية القصيرة، المجتمع المعاصر، وتفضح العنف المتوحش المتزايد، إذ تسخر هذه المسرحيات من المجتمع الذي تسيطر عليه صور الشاشة، وتركز هجومها عليها، وتحط من قيمة قوة الوسائط واسعة الانتشار، والأنماط السلوكية التي تتحول إلى طقوس باستهلاكيتها المفرطة. وبالمقارنة إلى النقد المبكر لمسرحية «تحية أمريكية» الذي كان موجها بشكل سائد إلى التعليقات الاجتماعية، فإن هذه الدراسة تركز على اكتشاف نماذجه الشكلية والنظرية من منظور ما بعد الحداثة، وعلى أساس الترابط بين جدول الأعمال السياسي للمسرحية وبنيتها الشكلية.
على الرغم من أن مسرحيات (فان إيتالي) تبدي ارتباطا سياسيا مؤكدا، إذ كانت مكتوبة في واقع الأمر خلال ما أشار إليه (بيجسبي) باعتبار أنه “عقد الالتزام committed decade”، إذ كانت رغم ذلك مسرحيات تحركها الأطروحة السياسية (5). ويبدو أن (فان إيتالي) يزعم أن السياسة والفن يمكن تصنيفهما منهجيا، ولكن ذلك لا يحدث عندما يلغي الشكل المضمون. وفي هذه الحالة يهيمن الالتزام السياسي على التجريب الجمالي، مع تضمين شكل الفن لا يحاكي فقط، بل يساعد بالأحرى في تخطيط بنية المجتمع. وعلى الرغم من أن الكاتب الدرامي قد تعاون غالبا مع الفرق المسرحية المعنية بالنشاط السياسي، مثل المسرح الحي، وفرقة تمثيل سان فرانسيسكو، أو مسرح الخبز والدمية، فإنه يرى مخاطر معينة في إبداعهم المسرحي. وفي مقالته التأسيسية “هل ينبغي أن يكون للفنان توجه سياسي في فنه؟”، يناقش (فان إيتالي) الخطر الفني الذي يصاحب المسرحيات التي تحمل أفكارا سياسية:
 “لأن الكاتب المسرحي الذي يقف بمسرحياته في الوسط من السياسة المعاصرة يفعل ذلك على مسئوليته الفنية. فقد تأكد مرارا وتكرارا أن المسرحيات الفكرية نادرا، إن لم يكن من المستحيل، أن تكون مسرحيات جيدة” (6).
وعلى الرغم من أن مسرحيات (فان إيتالي) ليست مسرحيات ذات طابع فكري، فإنها ترقى إلى تقديم نقد للمجتمع وممارسة تدريبية في الشكل الدرامي، فهو يركز في أعماله على التسلية الشعبية ويتأمل الوسائط التي تهيمن على المجتمع المعاصر، ولا سيما أنه يجعل تأثير الجهد الذي تبذله الوسائط على معنى الذات، تأثيرا دراميا. ومن أجل هذه الغاية، يدمج في مسرحياته الأفلام الجماهيرية ومشاهير الوسائط ومسلسلات التلفزيون وعروض الألعاب والإعلانات في مسرحياته، إلى حد جعلها المادة الأساسية في مسرحياته. لذلك تحمل أعماله بصمة تناص تمحو حدود التصنيفات العامة الجامدة السابقة. فأعمال (فان إيتالي) ليست فقط أعمال تناص في إشاراتها المتعددة إلى الثقافة الشعبية المعاصرة، بل إن المؤلف منجذب بالتساوي إلى أشكال وملامح الدراما التقليدية. وبعكس الفنانين التجريبيين الآخرين في الستينات، لم يحاول مقايضة المبادئ الدرامية التقليدية كلها بالمغامرات الشعبية الفنية، إذ توضح أعماله بالأحرى اهتماما قويا بالدراما الأوروبية المعترف بها، وكرس في السبعينات أعماله الدرامية إلى اقتباس المسرحيات الشهيرة بقصد المزيد من التعلم من الأشكال والبنيات الدرامية التقليدية. ومن أبرز إنجازاته المسرحية في هذه الفترة تقديم معالجات درامية لمسرحيات (تشيكوف) “طائر البحر” و”بستان الكرز” و”الشقيقات الثلاث” و”الخال فانيا” (7).
ولكن (تشيكوف) ليس الكاتب الوحيد الذي أثر في (فان إيتالي) الذي أشارت أعماله بطرق عدة إلى كل تقاليد المسرح والدراما الغربية، وبذلك تحمل الكثير من الإشارات إلى كثير من صيغ الكتابة الدرامية، فمسرحية «مقابلة interview» مثلا تشير في بنيتها العروضية إلى الأجداد التأثيريين في محاولة للتعبير عن بنية العقل الإنساني بأجهزة عقيمة وصور أبيض وأسود تعني التجرد. ومع ذلك، لم يكن لأساليب تيار الوعي والتشويه الذاتي للواقع النموذجي في النزعة التأثيرية من نواح أخرى، مكان في مسرحية «مقابلة». وباتباع التقاليد العبثية جزئيا، ينقل مسرح (فان إيتالي) غالبا وضع الإنسانية المتوحش في العالم: يعترف الكاتب عن طيب نفس بهذا التأثير العبثي: “أعتقد أننا جميعا نكتب في الوقت الحالي متأثرين ببيكت ويونيسكو. ولست أدري إن كان من الممكن ألا أكتب بهذه الطريقة، فقد كنت واعيا دائما بكل من يونيسكو وبيكيت” (9). وعلى الرغم من التأثر بالدراما العبثية والتعبيرية، فقد كان من المستحيل أن نتأمل (جان - كلود فان إيتالي) بدون أن نتأمل المسرح المفتوح (10). فقد بدأ التعاون بين (فان إيتالي) والمسرح المفتوح في سبتمبر 1963 عندما قدّم الكاتب إلى (جوزيف تشاكين) مؤسس المسرح المفتوح. وبالنسبة لفان إيتالي، قدم له المسرح المفتوح الفرصة لاختبار حدود التمثيل المسرحي، بذلك أصبح المسرح المفتوح البيئة الإبداعية التي أكدت التجريب والتحدي الفكري على حساب النجاح التجاري. وفي المقابل، غيّر (فان إيتالي)، ككاتب مسرحي فعال، من ارتجالات وتدريبات الفرقة المفككة إلى مسرحيات، إذ كانت عملية التعاون بين (فان إيتالي) والمسرح المفتوح عملية تبادلية، ففي بعض الأحيان كان من الممكن أن يعد الكاتب الدرامي مسرحية قصيرة يمكن أن يكتشفها الممثلون معا، وكان يمكنه أن يحذف المقاطع التي كانوا يشعرون أنها غير ملائمة، أو يضيف عناصر جديدة إلى ارتجالاتهم. وفي أحيان أخرى، قد يشاهد الكاتب المسرحي ارتجالات الممثلين ويحاول استنتاج نص يقوم على الحالة السائدة التي يلتقطها من هذه الأداءات. وقد كان لعملية التعاون هذه نتائج متعددة في ما يتعلق بمفهوم التأليف في مسرحيات (فان إيتالي)، فهي غيرت مكانة الكاتب المسرحي، الذي كان يُرى سابقا باعتباره المبدع الأوحد للمسرحية، الآن يجب أن يتنازل الكاتب عن مكانته المهيمنة على العملية المسرحية ويعترف بمساهمة الممثل والمخرج في الحدث أو الأداء النهائي. كما كان التأثير على النص الدرامي أيضا بلا حدود. وبسبب التأكيد المركز على المشاركة المسرحية، لم يعد النص الدرامي يحتل المكانة المركزية في عملية الإبداع الدرامي. فـ(فان إيتالي) يطرح العلاقة بين التأليف والنص الدرامي بالاعتراف بمشاركة الممثلين في تطوير المسرحية، بينما في الوقت نفسه يكشف عن توجه نقدي نحو هذه المشاركة، إذ يقول: “الممثلون ليسوا شعراء، وهم على الأقل كذلك أثناء وقوفهم على خشبة المسرح أمام المشاهدين” (12). ومن الناحية الأخرى، توجد ملحوظة تمهيدية في مسرحية “الأفعى” تؤكد على الطبيعة التعاونية في العملية المسرحية، حيث يقول “إنها احتفالية أبدعها المسرح المفتوح من إخراج (جوزيف تشاكين) بمساعدة (روبرتا سكالار Roberta Sklar)”، ويحدد فيها أن البناء الدرامي والكلمات من تأليف (كلود - فان إيتالي) (13).
تشهد الكثير من الملامح على الطبيعة التعاونية في أعمال (فان إيتالي). والشيء المهم في هذا السياق هو تدريبات ممثلي المسرح المفتوح المتقنة التي أكدت مثل كثير من أفكار وتدريبات الفرقة أن لها الأهمية الأساسية في تطور المؤلف ككاتب مسرحي بعد حداثي. فقد صممت مثل هذه التدريبات لاكتشاف الطرق التي تشكل بها الوسائط حياتنا وتتحكم فيها. وقد حاول أعضاء فرقة المسرح المفتوح من خلال جهودهم التعاونية أن يختبروا انتشار صور الوسائط المبالغ فيه التي تظهر الرجال والنساء الفاتنين في الإعلانات وبرامج التلفزيون والأفلام. وفي حوار مع (ريتشارد شيشنر Richard Schechner) يشرح (تشاكين) أسباب تدريبات “الخبراء perfect people”:
 “نطرح أسئلة مثل: ما نوع البلد المزدحم بالخبراء الذين يتحدثون عن السجائر وورق التوليت وصلصة المكرونة الاسباجتي ومنظفات الغسيل وآلاف المنتجات الأخرى التي نستهلكها؟ ومن هؤلاء المستهلكون؟ وتؤكد لنا ليلة واحدة من مشاهدة التلفزيون أنهم (خبراء)، فلو كانت هذه الصورة من وحينا فليساعدنا الله” (14).
تلفت هذه التدريبات الانتباه إلى زيف فكرة الخبراء، على سبيل المثال عن طريق تجاور مختلف السياقات الحصرية المتبادلة. ويمكن غالبا أن يبدأ هذا التدريب بتجسيد لأحد الخبراء كما تقدمه الوسائط، وعندئذ يمكن أن ينفعل الممثلون باستجابات منحرفة على مستوى السلوك المقترح. فالممثل يمكنه مثلا أن ينغمس في حوار مرح بينما يتظاهر أنه لم يلاحظ أن المشهد يحدث في قاعة جنازات، أو معسكر اعتقال أو سجن. يؤكد (تشاكين) عموما على استلهام الثقافة المعاصرة التي تهيمن عليها النزعة الاستهلاكية. فبالنسبة له تعمل تجربة التلفزيون اليومي باعتبارها إعدادا للتوجه السابق. وفي كتابه “حضور الممثل The Presence of the Actor” الذي يحمل إهداء إلى كل من (فان إيتالي) و(جوديث مالينا) المؤسسة المشاركة للمسرح الحي، حيث يشرح (تشاكين) الطرق التي يفهم بها المجتمع الأمريكي الشخصيات في السينما والتلفزيون. والفكرة من وراء تدريبات الخبراء هي أنه يتم تحويل مشاهير الوسائط إلى نجوم يتحولون إلى أيقونات في التجارب اليومية، بالإضافة إلى اعتبارهم نماذج لأنماط السلوك (15). ويتم التقليل من قيمة الحياة اليومية فترى في مجملها من خلال اختلافها الصارخ عن النماذج المثالية المقدمة على الشاشة. فتدريبات المثاليين تتحول نتيجة لذلك إلى صياغات ساخرة للمجتمع، إذ تصور التلفزيون أو شخصيات الإعلانات بشعاراتهم وأكلاشيهاتهم بناء استخدام أسلوب تمثيل مبالغ فيه ومتأثر بهم.
وكترياق لمفهوم “الناس المثاليين”، أعد (فان إيتالي) «المغفل الأول The first fool» وهو نص لكي يمارس من خلاله الممثلون والمخرج التجريب حول مفهوم “الشخصية” (16). فالمغفل الأول هو الشخصية التي تفهم باعتبارها الإنسان الساذج البريء حديث العهد بالعالم. ويقف هذا المفهوم كمفارقة قوية مع الناس المثاليين في التلفزيون. وفي سعيه إلى تحديد شخصية بديلة بلا عيوب، يلجأ (فان إيتالي) إلى صورة الكهف الأسطورية كمشهد حاسم:
 “استيقظ المغفل الأول في الكهف والظلام يلفه. فهو يعيش في ظلام من لحظة ميلاده، وهو يمتلئ باليقظة وأحزانها، يجلس على الأرض وينظر باندهاش إلى حوائط الكهف، تسقط قطرات الماء من رواسب كلسية مدلاة، يلمسها بأنامله، ويبلل لسانه من الصخرة المبتلة” (17).
عندئذ يستحضر المؤلف صورة الشخصية البدائية قبل أي تأثيرات اجتماعية أو ثقافية أو تقاليد. إذ تشير الصورة إلى مفهوم «المرة الأولى» كما طورها (ميرسيا إيلياد Mircea Eliade) التي تشير إلى إمكانية الوصول إلى زمن أسطوري لا تاريخي ورد فعل إلى ذاكرة المرة الأولى (18). علاوة على ذلك، يستبعد في هذا البعث الأسطوري للحاضر أكبر قوة مؤكدة في تشكيل الشخصية في عصرنا، وهي الوسائط المعاصرة. وفي الوقت نفسه، يستخدم «المغفل الأول» كتعليق ساخر على فكرة التجربة الصادقة ومفهوم النقاء الفني. وفي ما يتعلق بالشكل الدرامي، رغم ذلك، يعدل (فان إيتالي) التدريب لكي يتأمل مقومات ما نراه كشخصية درامية.
وفي هذا السياق، من الجدير بالملاحظة أن (فان إيتالي) في مجمل أعماله يمزج بين اهتمامين متبادلين حصريين: الطبيعة الزائلة للثقافة الوسائطية الشعبية، والميل إلى المرات الأولى أو الاستغلال الأسطوري للزمن القديم. ويستخدم كل منهما في اكتشاف وتكوين وتفكيك الذات في ثقافة ما بعد الحداثة (19).
وكانت تجارب (فان إيتالي) حول أفكار الشخصية والذات والتأليف واستكشافهم تنفذ في المسرح المفتوح من خلال ما يسمى «تجارب الداخل - الخارج». ويشير المصطلح فعلا إلى انقسام مفهوم الشخصية ويثير إشكالية تشظي الذات بالمعنى الحداثي. وقد كانت التجربة هي أن أي كاتب (فان إيتالي مثلا) يضطلع بمسئولية شخصية معينة، بينما يخلق الممثل، في إطار قواعد وحدود بعينها، الداخل الفعلى لهذه الشخصية. وعرض “تنويعات على أفكار أوديتس” الذي كان جزءا من أداء المسرح المفتوح لتقديم عرض “صور” المستمد من تجربة الداخل – الخارج. ويشرح (فان إيتالي) قواعد اللعبة:
 “ما فعلته كان (الخارج) الواقعي لما تمنيت أن يكون نوعا جديدا مختارا بعناية من أشياء صغيرة من عند أوديتس. ووضعت قاعدة معينة للعبة من الداخل. وكانت كالتالي: أن تظل الشخصية كما هي، ويظل الاهتمام الأساسي بالمشهد كما هو. وكان مسموحا أن يتغير المشهد واللغة، وأن يعبر الممثلون عن الفهم ماداموا لم يستخدموا حوارا فعليا. وتقول القاعدة أن نبدأ بالتفاصيل في أي سيناريو، ولكن تبقي الأجزاء الداخلية لعبة، بحيث يستطيع الممثلون أن يفعلوا ما يريدون في حدود معينة. إذ إن ما يفعلونه يمكن أن يتغير نظريا في كل أداء. فالأجزاء الداخلية والخارجية متبادلة. ويجب أن يتطابق أول مع جزء آخر” (20).
لذلك يقسم (فان إيتالي) الكينونة المعروفة سابقا بأنها شخصية إلى داخل وخارج، وبذلك يعبر عن التفاوت بين المشاعر الداخلية والمظهر الخارجي، والأهم من ذلك، مراحل مفهوم ذات ما بعد الحداثة المتشظية، ويقتبسها في مسرحياته. وتعد هذه التجارب محاولات لما يمكن أن يسمى «التحول الموجه». ورغم ذلك، يدعم (فان إيتالي) علاوة على ذلك فكرة المسرحية الارتجالية، لأنها تسمح للممثلين أن يرتجلوا في إطار معين ويغيروا بعض أجزاء السيناريو. وبعيدا عن تأكيدهم على اتساع لعب ما بعد الحداثة، تساهم هذه التجارب في مفهوم مغاير في التأليف والأصالة. لأن جزء «الخارج» الأخير يجب أن يكون متطابقا مع الجزء الأول دائما، إذ تتبع التدريبات نموذجا دائريا، فضلا عن النموذج المرتب زمنيا. وحتى إذا غيّر الممثلون المشاهد فلن يمكنهم إنشاء تطور يتقدم بالأحداث إلى الأمام، لأن المؤلف يشترط أن يظل المشهد كما هو، وبذلك تتحرك المشاهد والشخصيات في الفراغ، فضلا عن الحركة في الزمن، وتكون نتيجة التدريبات إبداع صرح مكاني كمجال استطرادي كان يشار إليه فيما سبق بأنه شخصية.
وفي التدريبات الهزلية ينزل النص من مكانته كعنصر سائد إلى عنصر مكمل للأداء المسرحي. وبالنظر إلى الخطاب الذي أضافه إلى مقدمة مسرحية “الأفعى”، يبدو أن توجه (فان إيتالي) نحو النص الدرامي متأصل في عدم الثقة في اللغة اللفظية:
 “أصبحت الكلمات تستخدم بشكل خاطئ كما تعلم. ولكي تحول هذه الكلمات، ببساطة، على خشبة المسرح (أو قلدتها ورددتها بسخرية) فإنها غير كافية” (21).
بالطبع، لا تهتم مسرحية (فان إيتالي) «الأفعى» بتأثير الوسائط على المجتمع بشكل أساسي. ومع ذلك تصور بدقة كيف أن السينما، وأعني هنا فيلم (زابرودر Zapruder) عن اغتيال كيندي، يمكن أن تترك بصمة أخيرة على الوعي الجمعي للمشاهد. ويبدو أن (فان إيتالي) يقصد نقاشا مبكرا أثير بين منظري وسائل الاتصال (مكلوهان) و(فيور). جنازة كيندي هي التي أكدت قدرة التلفزيون الشديدة لاستغلال المناسبة باستخدام شخصية «الشريك المتعاون» (22). فقوة الوسائط بعد الحداثية هذه هي بوضوح في قلب أعمال (فان إيتالي) الدرامية، كما يتخلل هذا التأثير الواسع النطاق لمعنى الذات مسرحياته.
وكما توضح أعماله بشدة، يهتم (فان إيتالي) بالشكل الدرامي أكثر من اهتمامه بتحديد الشخصية وتطور الحبكة، إذ يفضل شكل المسرحية ذات الفصل الواحد في مغامراته التجريبية. وقد يفسر هذا الميل الواسع افتقار أعماله إلى النجاح التجاري. ففي سعيه الدءوب للتجديد الشكلي، يرفض (فان إيتالي) أن يرتبط بأسلوب درامي أو صيغة محددة في الكتابة، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة تصنيفه من جانب النقاد، أو أن يعقدوا مقارنات بين أعماله وأعمال الكتاب الآخرين. لأن أعماله تتحدى التفسيرات المسبقة، ولذلك، يمكن أن تكون مصدرا للاضطراب والضيق. فهو يرفض الرؤية المزعومة المنسوبة إلى الفنانين ويتجنب أي شكل ذا نزعة تعليمية. وبالطريقة نفسها، لن يثقل كاهل المشاهد بالحقائق الكلية ويرفض أن يميط اللثام عن المشكلات الاجتماعية، ناهيك باقتراح الحلول لها. وهذا يلقي ظلالا من الشك على بعض معايير تقويم الكاتب المسرحي. إذ يزعم نقاد مثل (جين بلونكا Gene Plunka) أن (فان إيتالي) يزعم لنفسه دور المراقب الذي يقوّم باعث المجتمع المعاصر، ويفسر مسرحه بأنه العلاج النفسي لشفاء الآلام الشخصية والعامة (23). علاوة على ذلك، يحذرنا الناقد من أن الفشل في الانتباه المبكر إلى هذه التهديدات التي يشير إليها (فان إيتالي) سوف يؤدي إلى نهاية العالم، ويزعم أن نموذجه في انتصار الروح الإنسانية من خلال الفهم الروحي للأصدقاء والأسرة والنيات الطيبة، سوف يسمو بنا في النهاية إلى كوكب (عالم) متوازن (23). وعندما احتاط من تلك التفسيرات الغائية والأخلاقية لمسرح (فان إيتالي)، لا أريد أن أنكر طبيعته السياسية، فمسرحه يحتفظ بجدول أعمال سياسي دون افتراض منطلق شبه تنبؤي. ولكن المسرحيات سياسية لأنها تقدم نقدا للتمثيلات الدرامية الحالية للعالم والذات بينما تسعى في الوقت نفسه إلى اختراق هذه التمثيلات، لكن تنشئ تمثيلات جديدة تصبح وسيلة نقل لاهتمامات الكاتب بعد الأحداثية بشكل أصيل. وتحدد هذه العملية التحولية، مرة ثانية، أن دراما ما بعد الحداثة هي فعلا مسرح تحولات.
 الهوامش:
(1) يشارك فان كلود ايتالي تجارب كثير من كتاب المسرح التجريبييم الآخرين . وقد تابع كتابة اعماله عن طريق منح التدريس في مختلف الجامعات . اذ كان يدرس الكتابة للمسرح في مدرسة البحوث الاجتماعية الجديدة ( في نيويورك سيتي) خلال الأعوام 1967, 1968, , 1972, وفي مدرسة يول للدراما عام 1969 . وعمل محاضرا في جامعة برينستون في عام 1973 و عام 1980 . وحصل علي درجة الدكتوراة الفخرية من جامعة ولاية كنت .
(2) كتاب حين كلود بلونكا “ جان كلود فان ايتالي ومسرح خارج برودواي ( لندن 1999)
(3) فان ايتالي , خطاب , مسرحية العقرب ص 12 .
(4) أنظر هربرت جرابس في  كتاب “ احتمالات النقد الاجتماعي في مسرحية فان كلود ايتالي مرحبا أمريكا .
(5) كتاب ( بيجسبي ) “ ما وراء برودواي Beyond Brroadway ص 294
(6) فان ايتالي “ هل يجب أن يكون الفنان سياسيا “ مجلة نيويورك تايمز العدد 17 سبتمبر 1976
(7) يشرح هنا فان ايتالي اهتمامه بالأعمال الكلاسيكية .
(8) فيما يتعلق بالتعبيرية كتأثير علي فان ايتالي , فقد تأثر بأعمال الرسام أوسكار كوكوشكا وقصصه القصيرة مثل “ القاتل “ و “ أمل المرأة “  ( 1907)
(9) اقتبس من كتاب ( بلونكا ) “ خارج برودواي “ . ا يزعم أن مسرحيات ايتالي تشبه مسرحيات الفصل الواحد المبكرة ليوجين يونسكو ,
(10) المسرح المفتوح موجود باعتباره فرقة تمثيل تجريبية في الفترة من 1963الي 1973 تحت قيادة المحرج جوزيف تشاكين .
)11) قبل انشاء المسرح المفتوج اشترك تشاكين مع جوليان بيك وجوديث مالينا في المسرح الحي ,
(12) فان ايتالي , “ خطاب “ مسرحية العقرب ومناقشة هذا الخطاب في الجزء الثاني  (13) مسرحية العقرب 1969 .
(14) شيشنر المسرح المفتوح حوار مع جوزيف تشكين  - مجلة دراما ريفيو 1964.
(15) انظر تشكين ( حضور الممثل ) ص 73
(16) الأحمق الأول يستخدم كأساس في مسرحيته التالية ( الصياد والطائر )
(17) الأحمق الأول  مجلة ثياتر كورترلي  1974 – 1975 ص 49
(18) أنظر ميليكا الياد “ العالم والتاريخ : أسطورة العودة الأبدية  نيويورك 1959
(19) أنظر أمبرتو ايكو (ىالتحول الأسطوري لما بعد الحداثة .
(20) فان ايتالي , الكاتب المسرحي في اثناء العمل : خارج خارج برودواي “ مجلة دراما ريفيو 1966
(21) فان ايتالي , “ خطاب “ مسرحية العقرب ص 12
(22) مارشال ماكلوهان و كوينتين فوير , “ الوسيط هو الرسالة  نيويورك 1967
(23) بلونكا , “ خارج برودواي “
(24) بلونكا , خارج برودواي
هذه المقال تمثل الفصل الثالث من كتاب “مسرح التحولات : مابعد الحداثة في الدراما الامريكية : theater of transformation postmodernism in american drama “  تأليف كريستين شميدت .. وقد صدر في نيويورك عام 2005


ترجمة أحمد عبد الفتاح