في ذكرى رحيل الممثل الروسي الكبير يفجيني ليبيديف

في ذكرى رحيل الممثل الروسي الكبير  يفجيني ليبيديف

العدد 617 صدر بتاريخ 24يونيو2019

إننا جميعًا جياد صغار
 فلاديمير مايكوفسكي
في التاسع من شهر...... تمر ذكرى رحيل الممثل الروسي الكبير يفجيني ليبيديف (1917 - 1997)، وكلما مرَت ذكرى رحيله، امتلكتني رغبة شديدة في الكتابة عنه، وفاءً لعبقريته المتميزة، فإبان سني دراستي في أكاديمية الفنون المسرحية بمدينة بطرسبرج في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، تيسرت لي فرصة مشاهدة عدد كبير من أدواره المبهرة، ولا بد أن أعترف بأنني لم أشهد في حياتي ممثلا مسرحيا يضاهيه في الخلق الفني إبداعا ومهارة.
تحل بعد أيام في الصيف الحالي الذكرى الثانية والعشرين لرحيل يفجيني ليبيديف ألمع ممثلي بلشوي تياتر بمدينة بطرسبرج، وأحد أهم ممثلي القرن العشرين. أثبت ليبيديف براعة متميزة في أداء عدد كبير من الأدوار المهمة من الأدب الكلاسيكي والمعاصر.
وكان من بين أدواره الأخيرة على مسرح البلشوي بمدينة سانت بطرسبرج الحصان خولستومير في مسرحية (قصة حصان) للروائي الروسي ليف تولستوي، وشخصية كروتيتسكي في (لكل عاقل هفوة) لألكسندر استروفسكي، والبروفسور في (الخال فانيا) لأنطوان تشيخوف.
نال ليبيديف جائزة الدولة مرتين في عامي 1950 و1968 وجائزة لينين عام 1986، وقد تم تكريمه بمنحه لقب فنان الشعب عام 1968، ويقدر عدد الأدوار التي قام بتجسيدها بأكثر من مائة دور على الخشبة وستة وستين دورا في السينما والتلفزيون.
لخّص ليبيديف مبدأه في الأداء في مقولة شهيرة: لا تتعمق في الدور فقط، إنما تعمّق في الحياة، فالحياة يجب أن تمثل برمتها.
وقد غدا اسم ليبيديف في ذهن محبي فن المسرح مرتبطا بأدائه المدهش لدور الحصان خولستومير في مسرحية (قصة حصان) طيلة أكثر من عقدين، إذ جرى العرض الافتتاحي للمسرحية في نوفمبر عام 1975 ولم يتوقف إلا بموت بطل المسرحية في التاسع من يونيو عام 1997.
ويذهب النقاد إلى أن عرض مسرحية «قصة حصان» هو أحد أطول العروض المسرحية من الطراز الدرامي الجاد البعيد عن الطابع التجاري السائد في الويست إند والبرودواي. ويتبوأ عرض المسرحية في البلشوي مكانة بارزة في تاريخ العروض المسرحية المتفردة في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم بفضل سماح السلطات السوفياتية له بالمشاركة في عدد من المهرجانات المسرحية العالمية في فنلندا والسويد وألمانيا وبولونيا والصين ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وفرنسا.
كان عرض المسرحية في مهرجان أفنيون عام 1979 حدثا فنيا كبيرا، حيث أثار موجة نقدية عارمة بين استحسان واستهجان النقاد. ففي حين ثمّنت الصحف المحلية رسالة المسرحية وأهدافها الإنسانية وأسلوبها الفني، مضت الصحف الكبيرة تصف الأسلوب الإخراجي بالتقليدية وبجمود ميزانسيناته «التشكيلات الحركية» الغارقة في التفاصيل وخلوه من الجرأة الفنية على حد قول بعض النقاد.
بينما أكد نقاد آخرون على أهمية أسلوب المخرج في إدارة الممثل ومهارته في تطويع الأداء الجسدي للممثل الذي بلغ مستوى استثنائيا في قصة الحصان.
استغرقت كتابة رواية خولستومير (قصة حصان) فترة طويلة بدأت عام 1863 وانتهت عام 1889، وقد كتبها تولستوي بأسلوب واقعي خشن خالٍ من الزخرفة اللفظية، متجنبا الأسلوب الرومانتيكي والمغالاة في التعبير عن الأحاسيس. حيث كان هذا الأسلوب سائدا في العصر الذي عاش فيه تولستوي.
ويروي تولستوي الذي كان نباتيا معروفا بحبه للجياد في خمس ليالٍ على التوالي مأساة حصان يدعى خولستومير وهو يعاني من الشيخوخة والوحدة والاغتراب بين مجموعة من الجياد المفعمة بالحيوية والعنفوان.
ويمضي المؤلف في سرد الرواية على لسان بطلها خولستومير في كل أجزاء الرواية المؤلفة من إثني عشر جزءا وخاتمة مقتضبة، باستثاء الجزء العاشر حيث ينتقل السرد إلى لسان الكاتب.
يتعرض تولستوي إلى المعاملة القاسية التي تتلقاها الحيوانات من قبل الإنسان معمّقا الشعور بالاغتراب بين الطرفين على مستويين مختلفين. فخولستومير يضع البشر أمام امتحان إنساني عسير من خلال معاناته وآلامه العميقة. ويلاحظ أن تاريخ الأدب الروسي منذ القدم حافل بالنظرة الإنسانية العميقة النابعة من تفهم غربة الحيوان. وليس أدل على ذلك من قصة تشيخوف الشهيرة عن العلاقة الحميمة بين الحوذي وحصانه.
وفي الشعر عبّر مايكوفسكي عن ذلك بقوله: نحن جميعا جياد صغار.
لكن تولستوي يذهب أبعد من ذلك، فهو يتناول الاغتراب الإنساني متجذرا في وجود خولستومير ككائن أجنبي غير منتمٍ إلى المجموعة التي لم ولن تعترف بوجوده. والأقسى من كل هذا أن المجموعة الجديدة تسارع إلى إخصائه ما أن تنشأ علاقة حب بينه والفرس ميلوي “قامت بأداء الدور الممثلة الكبيرة فالنتينا كوفل (1923 - 1997)”.
تبدأ المسرحية بمشهد استهلالي يتم فيه بيع الحصان الأعرج خولستومير بمبلغ 800 روبل لضابط من قوة الفرسان.
يقول خولستومير “أقدم على شرائي من باب الشفقة، فلا أحد يريد حصانا يعرج”. وفي الوقت نفسه يصف الفترة التي قضاها في خدمة الفارس بأسعد فترة في حياته، في حين يتم بيعه لأحد الأمراء. والأمير هو الآخر يكن شعورا عميقا لخولستومير. لكنه سيفقده بعد حين قصير من الدهر.
أما مشهد التقائهما ثانية دون أن يتعرف على حصانه، فهو من أجمل مشاهد المسرحية. في هذا المشهد يستلقي الأمير بجانب خولستومير وهو يقول: حصان، كلا بل صديق!
العالم الذي يجسده تولستوي عالم قاسٍ فظّ قائم على التعصب وإلغاء دور الفرد المتميز والمختلف عن المجموعة. إنه في الصميم عالم الإنسان ذاته لكنه مجسّد بمنظور ورؤية جواد يختلف عن الجياد الأخرى في لون جلده، الأمر الذي يسبب له متاعب ومشقات تحيل حياته جحيما.
إن الحصان هذا يولد كمهرج لعوب مرح يتدفق حيوية وعنفوانا، يرنو حوله مزهوا في اللحظات الأولى من وجوده بين قطيع من الجياد الذي يتميز عنهم برقصاته العنيفة وشقلباته وقفزاته على صدر أقرانه. إن المشاهد الأولى من العرض تعكس أفكار تولستوي حول الخير والفضيلة والقيم السامية، مؤكدا من خلاله على كون الطبيعة الشريرة طبيعة مكتسبة وهي من خلق البشر، فالإنسان كما يراه تولستوي خالق ماهيته ومسئول عنها.
وابتداءَ من المشهد الافتتاحي يبرز الحصان خولستومير (ليبيديف) ليبدأ قصة حياته واقفا وسط المسرح الضخم المزدان بحيطان من الخيش الأبيض والمساند الخشبية بلونها الطبيعي. المصصم (إدوارد كيتشيرغين) من ألمع مصممي السينوغرافيا في روسيا، وهو أستاذ مادة السينوغرفيا بأكاديمية الفن المسرحي بمدينة بطرسبرج.
في قصة حصان ابتكر كيتشرغين عالما مجازيا من الخيش الأبيض، موحيا بعالمين: عالم الحيوان - الإسطبل وعالم الإنسان - السجن.
تتخلل نهايات المشاهد فواصل من غناء شجي ذي مضامين إنسانية عن الغربة والحنين والتوق إلى الماضي الجميل، تلك مضامين مألوفة يتغنى بها الروس عادة في جلسات الخمر وحول موائد العشاء. ويتميز أداء الممثلين بالطابع النفسي العميق المشوّب بروح السخرية والدعابات التمثيلية الخفيفة المستمدة من تقاليد المسارح الشعبية.
يقول الناقد أناتولي سميمليانسكي في كتابه (المسرح الروسي بعد ستالين): إن تولستوي كان يميّز بين صنفين من الأصوات يرمزان إلى عالمين مختلفين: الأصوات المنبعثة من الصدر والأصوات الصادرة من الحنجرة، فصوت خولستومير ينطلق من الصدر، في حين تخرج أصوات قطيع الجياد المتجمعة على شكل كورس، من الحنجرة وكأنه ضرب من غناء عجري أجش. إن عذوبة الغناء وغناه اللامحدود وطربه المعدي، انتصار للقوي والمنسجم مع المجموع على المتلونين بلون آخر، كان هذا يفهم من قبل المخرج توفستونوغوف كقانون من أقسى قوانين الحياة. ويصدح القطيع بالغناء “فقط أولئك الذين يملكون كل شيء يبقون في الطليعة...”، إن سلم التوزيع النغمي للعرض كشف عن هذا: أحد أعمق تناقضات الحياة الذي اهتدى إليه ليف تولستوي.
وتحدد الناقدة الروسية إليتشيفيا الخصائص الإبداعية لهذا الإنتاج المسرحي عند استئناف عرضه ثانية في السادس والعشرين من شهر يونيو عام 1990، بعد توقف قصير بسبب موت المخرج توفستونوغوف في العام نفسه، في ثلاث نقاط، مؤكدة في النقطة الأولى على أهمية الأداء الصوتي والمؤثرات الصوتية، فصوت ليبيديف كان يعبر عما يجيش به أعماق الحصان خولستومير من رعب وحب وغم، نافذا إلى أعماق المتفرجين، على الرغم من أن عمره كان قد جاوز السبعين. وكانت صعوبة الأداء الصوتي تكمن في كونه قائما بشكل عام على الصراخ والترنيمات الشعبية البدائية الشبيهة بالعويل.
لقد استلهم ليبيديف نحيب الحصان من سني طفولته. ويؤكد الناقد سميمليانسكي على أهمية تقنيات منهج ستانيسلافسكي لليبيديف في تجسيده دور الحصان، خصوصا على مستوى الأداء الصوتي. فهو يقول: لقد سألت ليبيديف بعد عدة سنوات من العرض الافتتاحي للمسرحية عن المصدر الذي استلهم منه بكاء الحصان، حيث إنني لم أجد في فرادته ما يماثل الأصل. فاسترجع الممثل أحداث طفولته في عام 1930، قائلا: «كنت ابنا لقس، وكان هذا يكفي كي ينظر الكل إليّ كمنبوذ في المجتمع، (فالكنائس كانت تهدم، ورجال الدين تعرضوا لاضطهاد شديد من قبل السلطة الشيوعية، ف.ج) وكنت أراقب أفراد التعاونية من الفلاحين وهم يقودون قطيع الأبقار بعيدا عن القرية، كانت ثمة امرأة تتبع الرجال منتحبة لفقد أبقارها، مولولة في نحيب ينطلق من الصدر، هو ذات النحيب الذي كان يخرج من صدر حصان تولستوي بعد عقود من السنين».
ويذكر سميمليانسكي: إن هذا بحد ذاته مثال ناصع للاستفادة الصحيحة من تقنية ستانيسلافسكي المسماة بـ(الذاكرة الفعّالة).
يبسّط ليبيديف فلسفته في الأداء، بالاستناد على تقنية ستانيسلافسكي في تجزئة بنية الدور إلى وحدات متميزة، بوضوح وفاعلية خالية من التعقيد، فهو يبلور مفهوم التمثيل بمقولته الشهيرة: التمثيل عبارة عن نقاط “محطات”، ولا شك أن المحطات تشكل بنية الدور وإيقاعه الدقيق.
تتمثل خصوصية المخرج توفستونوغوف الثانية في تأكيده على الأخلاقية الفردية. إن العرض مثله كمثل معظم نصوص تولستوي، قائم على المبدأ التعليمي، ولكن ماذا بوسع عرض قصة الحصان أن يعلّمنا؟ إنه لأمر جيد أن يكون المرء شابا وقويا مثل الفرس (ميلي) التي هام بها خولستومير، وأن يكون المرء ميسور الحال يكسب ربحا طائلا. قوانين الحياة بحد ذاتها لا ترحم أحدا، فليست هناك عدالة أو إنصاف في معاملة البشر، المرء يعيش حياته كيفما اتفق، ويردد الكورس: «لا يمكن العيش دون أن يكون الفرد محميا». إن البشر قساة ليس مع الحيوانات فحسب، بل مع بعضهم أيضا.
أما الخصوصية الثالثة للمسرحية فتتجلى في غزارة أفضيتها الموسيقية الرحبة. فالشكل الموسيقي كان معدوما في العروض الروسية عام 1975 على حد قول الناقدة إليتشيفيا، فقد بنى توفستونوغوف عرضه في هيكل موسيقي متكون من المقاطع الموسيقية المؤلفة خصيصا لهذا العرض، إلى جانب إنشاد الكورس لبعض المقاطع من النثر الكلاسيكي.
لقد كان بناء العرض موسيقيا تماما، على الرغم من أن قصة حصان ليست مسرحية موسيقية، وهي في صميمها مأساة محزنة جدا.
وهي في الوقت نفسه ملهاة مفرحة بهيجة تستعرض ألعاب الجياد ورقصاتهم العنيفة، على غرار عروض المهرجين والمضحكين، بينما المجموعات الإنسانية تتحول باستمرار من هيئة إلى أخرى كما يحدث في الحكايات والأساطير.
إن للعرض بدءا من إعداد رواية تولستوي طابعا ملحميا إلى درجة يصح تسميته بالعرض الملحمي البريختي. حتى إن الناقد المسرحي نيكولاي زايتسيف أطلق عليه اسم تولستوي علامة شارحة بريخت (تولستوي - بريخت). وعلى صعيد فن الممثل والأسلوب الإخراجي فإن توفستونوغوف، المعروف بكونه من أشهر مريدي منهج ستانيسلافسكي الذي أكد طيلة مسيرته الفنية الطويلة على اعتبار المنهج النفسي في الأداء والمنهج الشرطي كطرفي نقيض، نراه في هذا العرض يضيق الهوة بين طرفي النقيض هذا، ليخلق عرضا قائما على أسس ستانيسلافسكي وبريخت. ففي العدد الثاني من مجلة المسرح الروسية لعام 1976، اعترف توفستونوغوف بهذا التمازج وباستخدامه التغريب البريختي في قصة حصان. ذلك التمازج الذي حدا بالناقد زايتسيف إلى أن يكتب: إن هذه المسرحية قصيدة عن الحياة.


فاضل الجاف