في قاعة صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة يدعونا المخرج أكرم مصطفى لنعيش مع أبطال عرض «نوح الحمام» حالة الانتظار الممتعة مع نجيبة أم وطني وهي تثور تعنف وتضرب زوجة ابنها وابنة أخيها في الوقت ذاته، لأنها تلجأ إلى الدجل والشعوذة لجلب زوجها الغائب عنها، فنراها المرأة العاقلة المتدينة التي ترفض الخرافات، وحين نستمع إلى حكاياتها الأسطورية القديمة التي تحتوي الحكمة والتسلية نتذكر الجدة بحكمتها ورزانتها وعقلها الراجح التي حفر الزمن ملامحها وترك آثاره عليها، وفجأة نجدها تحكي لزوجة ابنها عن أدق التفاصيل التي كان يحكيها لها ابنها الغائب عن عشيقاته وهي تضحك، ثم نراها ترحب بإحدى عشيقاته وتستمع إلى كلامها عنه وعن علاقتها بزوجها التي تتحملها فقط لأنها تتخيله هذا العشيق، ولم تكتف بذلك بل تهدي هذه العشيقة سرًا زجاجة عطرٍ من النوع الذي يفضله ابنها، على الفور تقفز إلى ذاكرتنا ميمي شكيب في أكثر أدوارها شهرة. نشعر بوجعها الخفي لغياب ابنها الذي تنتظر عودته دون أن تصرح به، فنجد أنفسنا نتساءل ما هذه القدرة على التنوع والتشكل في أداء هذه الشخصية التي تمتلك كل هذه التناقضات البشرية والموجودة بالفعل في حياتنا فهي ليست أسطورية.هكذا أطلت علينا بعد غياب دام سنوات طويلة انتقلت فيها من الفتاة الصغيرة ذات الفيونكات التي اشتهرت بمقولة «طانط أوسا» «سوسن ربيع» وقد صقلت هذه السنوات موهبتها وأكسبتها خبرة لم يكتسبها ممثلين وممثلات لم يتركوا خشبة المسرح يومًا واحدًا، إضافة إلى الملابس والإكسسوار والمكياج الذي يميزه سمرة الوجه والوشم المرسوم عليه، فأطلت علينا بقوة لم يكن يتوقعها أحد.ببراعة شديدة أيضا تجسد نشوى حسن دور «وديدة» الزوجة المقهورة ليس لغياب زوجها فحسب، بل إنها مضطرة لاستقبال عشيقة زوجها في بيتها، لكنها تمتلك القدرة على إخفاء هذا الشعور بالقهر بل تحاول مضايقة غريمتها حين تتظاهر باللامبالاة فتحمل الفوطة وتذهب لأخذ حمام، فتوحي لها بأنها تهتم بنفسها وتتجمل في انتظار زوجها.الفنانة إيناس المصري في دور صفية العشيقة التي وقعت في أسر العشق حد الجنون، فكل أهل القرية يعلمون بقصتها مع وطني وهي تحكي ببلاهة أحيانا وبوقاحة دائمًا. فيتنوع أداؤها بين المرأة اللعوب والحبيبة المعذبة.يضم هذه الشخصيات الثلاث بيت ريفي صعيدي به كل مفردات المنزل الصعيدي، لم ينقصه شيء لدرجة أن المتلقي يشعر وكأنه يجلس فيه خصوصا أن المخرج جعل الجمهور يجلس على مصطبة مفروشة بسجادة «القصاقيص» التي ما زالت تصنع في بعض القرى حتى الآن.في مستوى آخر أو «لوكيشن» آخر نجد سلام وصديقه الأخرس يجلسان على قارعة الطريق في انتظار «وطني» بعد أن ترك سلام عمله وبيته ولم يعد له هدف في الحياة سوى انتظار وطني للثأر منه بقتله لأنه قتل شقيقه، في هذه الجلسة الممتدة لسنوات طويلة يتحاوران فيحكي الأخرس بلغته التي يفهمها جيدًا سلام عن مغامرات وطني وعدد من قتلهم، بينما يتحدث سلام في قوة شديدة وعنف عن مصيبته في مقتل أخيه واصفًا اللقاء المنتظر وكيفية قتله لوطني إلى أن يصرح بمدى خوفه من هذا اللقاء بمنتهى الضعف في نقلة عبقرية من حالة إلى حالة يتبين منها قدرته التمثيلية التي لم نكتشفها من قبل في أكرم مصطفى، كذلك أحمد مجد الدين الذي جسد شخصية الأخرس لدرجة أن خيل لي لبعض لحظات أنه بالفعل أخرس.في «اللوكيشن» الأخير نجد أحد ضحايا وطني الضابط علاء بك وقد وقع فريسة للخمر الذي لم يخسر وظيفته فحسب بل كُسر من داخله الكسر الذي لا يمكن أن يلتئم أبدًا، فهو الضابط القوي الملتزم بكل ما تعلمه والمنفذ لأوامر قياداته، الذي لم يخسر من قبل ولم يهرب منه متهمًا، فيأتي وطني الذي لم ينتصر عليه ويصيبه ويهرب منه فحسب بل ينال من كبريائه حيث كشف له زيف الحياة التي كان يحياها، كما أنه تعامل معه في الوقت نفسه بنبل حين نقله إلى المستشفى بنفسه قبل أن يهرب، لم أتخيل فنانا آخر يمكنه أن يؤدي هذه الشخصية بهذه البراعة غير ياسر عزت.وأخيرا البارمان وهو الشخص الوحيد من أهل القرية الذي لم يخف من وطني ويرى إنسانيته، فيحكي عنها بسلاسة وهدوء وحكمة الكبار الذين أصبحوا لا يريدون من الحياة شيئًا، يجسد هذه الشخصية الفنان إبراهيم البيه، بوعي وذكاء فني ملحوظ.تلعب الإضاءة التي صممها الفنان عمرو عبد الله الشريف دورًا جوهريًا في الانتقال من مشهد لآخر بطريقة القطع الدرامي، كذلك الموسيقى والمؤثرات الصوتية للفنان محمد حمدي رءوف التي عبرت عن حفيف الأشجار وصفير الصرصور وغيرها من الأصوات التي لم تنقل لنا القرية بل نقلتنا إليها، كذلك ديكور المبدع الكبير فادي فوكيه الذي لم ينس مفردة واحدة من مفردات القرية الصعيدية، ووضعها بهذا التشكيل الرائع وهذه الرؤية العبقرية، المكياج بطلاً بجدارة خاصة مكياج سوسن ربيع، وكذلك الملابس التي صممتها شيماء محمود، يغلف كل ذلك اللهجة الصعيدية، بل الحركة أيضا فلم يوجد بالعرض همسة غير محسوبة بدقة ويظهر ذلك بوضوح في جلسة المرأة والرجل الصعيدي وحركاتهما.أهم ما يميز صانع العمل أكرم مصطفى مؤلفًا ومخرجًا أنه جعل بطل العرض الحقيقي هو الغائب الحاضر طوال الوقت، فجعلنا ننتظره في تشوق لرؤية هذا الشخص الأسطوري بقدراته الخارقة فهو القوي الشجاع الذي لا يخشى شيئًا حتى الموت، العاشق الرومانسي الذي يجعل المرأة تذوب فيه حبًا، النبيل مع عدوه، إلى أن انتهى العرض دون أن يأتي، فيحيلنا جميعًا إلى تساؤل من «وطني» هذا، ولماذا اختار له هذا الاسم؟ لنكتشف أن العرض مستمر طوال الوقت ولم ينته بعد وما زلنا ننتظر، رغم أن العنوان يؤكد لنا أنه لم يأتِ.تحية كبيرة جدا لهذا الفنان الشامل، وتحية لمنتج العمل الفنان المبدع شادي سرور مدير مسرح الطليعة.