نوح الحمام.. نواح على الحاضر الغائب

نوح الحمام..  نواح على الحاضر الغائب

العدد 616 صدر بتاريخ 17يونيو2019

قدم البيت الفني للمسرح من إنتاج مسرح الطليعة على قاعة صلاح عبد الصبور، العرض المسرحي “نوح الحمام” تأليف وإخراج (أكرم مصطفى). والنواح من صفات المرأة عندما تبكي على الميت بجزع وعويل. تدور فكرة العرض عن انتظار شخص يدعى وطني، وكل شخصيات العرض بداخلها نواح وعويل لغيابه وتتمنى أن يعود، ففي دار وطني، نتعرف على أمه نجيبه (سوسن ربيع) التي تنتظر ابنها لتضمه إلى حضنها، وهي التي تزهو بابنها على الرغم من أن حكايتها عنه لا تتعدي كونه مجرما وقاتلا وله علاقات نسائية غير مشروعة، مع اقتناعها بأن القتل هو القتل، والقتل والعشق مثل بعضهما، وعلى الرغم من ذلك فليس لديها اعتراض على أن يكمل ابنها حياته على هذا النحو فهي تعطي صفية زجاجة عطر يحبها وطني لتضعه أثناء علاقتهما المحرمة. والزوجة وديدة (نشوى حسن) تنتظر وطني فهو زوجها ووالد أولادها فهي التي تقف بجواره وتصونه كما أنها تحبه لدرجة العشق، وتتمنى أن يعشقها، ويكون لها وحدها، فلا مانع من استخدامها أسلوب السحرة التي تقوم بتنفيذه بنفسها عندما يتردد خبر قدومه إلى البلدة. ثم نتعرف على صفية (إيناس المصري) عشيقة وطني التي تأتي إلى داره بعد سماعها خبر قدومه، لتروي ظمأها بممارسة العلاقة المحرمة معه، فهي تشبه عمتها صافية عشيقته الأولى، لدرجة أنها تتخيل وطني هو من يمارس معها العلاقة الحميمية أثناء ممارستها مع زوجها، ونعرف من حكايتها أنها مصابة عقليا من فرط إعجابها بوطني، وأنها تخلط الواقع بالخيال كما نعلم أن وطني هو من اختارها عشيقة له.
وعلى قارعة الطريق، في المكان المنتظر أن يمر منه وطني للوصول إلى داره، عند وصوله البلدة، يجلس سلام (أكرم مصطفى) في انتظار وطني ليقتله، وذلك ليثأر منه لقتله عمه سليم وأخيه محمد وهذا هدفه الوحيد، فهو يهمل زوجته وأولاده وداره وأرضه لهذا السبب، وهو شخص جبان مهزور مهزوم، وضعه القدر في طريق وطني، فكعادة أهل الصعيد لا بد من الثأر، وهو معجب بوطني كما أنه على يقين أن وطني سيقتله، ولكنه لا بد من مواجهته. ويجلس مع الأخرس (أحمد مجد الدين) أمام داره، فالأخرس هو الذي يهون على سلام مرارة الانتظار، كما أن الأخرس إنسان له عقل ومشاعر وأحاسيس، فعلى الرغم من أنه يفقد النطق فهو يعلم أن سلام لا يستطع قتل وطني، وعندما تمر عليهم صفية للذهاب لبيت وطني، يعاكسها، فهو شخص يعلم كل ما يدور بالبلدة.
وفي البار نتعرف على شخصية علاء السباعي (ياسر عزت) الضابط الفاسد الذي كان يعمل في هذه البلدة منذ خمس سنوات، وكان يأخذ كل ما يريده عن طريق تخويف الآخر، الكل يخشاه ويهابه إلا وطني الذي أطلق عليه الرصاص حينما كان يريد القبض عليه ولم يهتم، ثم دخل داره، وبعد فترة خرج من الدار فوجد الضابط ما زال حيا، أخذه ثم وضعه أمام المستشفى، وعلى الرغم من أنه فصل من الخدمة لسوء سلوكه، فإنه ذهب إلى البلدة لينبش في ذكرياته القديمة وهل ينتقم من وطني أم يسامحه فقد أصبح سكيرا مهزوما لا يهابه أحد، ومقتنع تماما بأنه كان على حق فلكي يكون ناجحا في عمله لا بد من أن يهابه الآخرون. وكذلك نتعرف على خلف رجل البار (إبراهيم البيه) فهو يعمل في صمت، فيسمع كثيرا ويعرف الكثير، تعلم الحكمة لا يخشى إلا الله.
يتمركز النص المعروض حول الشخصيات، ويجعل الحدث في المرتبة الثانية، فلم يهتم المؤلف بالحكاية ولم يشغله البناء الدرامي الأرسطي (بداية ووسط ونهاية) فلا توجد عقدة وحل، بل إن النص المعروض يرصد حالة بوضع معين؛ تتحرك داخله الشخصيات تحمل من تناقضاتها الذاتية وتناقضاتها مع بعضها فيتولد الصراع ومن لغة الحوار نعلم أنها بلدة في أعماق الصعيد والزمان غير محدد.
اعتمد المخرج على كل أدواته لتحقيق رؤيته التي اعتمدت على التكنيك السينمائي (مونتاج التوازي) فنجد ديكور (فادي فوكية) عبارة عن بار في اليمين وفي المنتصف بيوت ريفية تظهر من الخارج وفي اليسار منزل وطني من الداخل مع وجود إكسسوار حقيقي للبيئة الريفية (طشت، زير، عدة شاي) وقد جعل مقاعد المتلقي على هيئة مصاطب مغطاه بسجاد الترك لاستكمال الجو الصعيدي فيشرك المتلقي في علاقة حميمية مع الممثلين، فاستغل المخرج قاعة العرض بشكل جيد بوضعه الديكور بشكل مستعرض وفي الجهة المقابلة مكان جلوس المتلقي.
وبالنسبة للملابس (شيماء محمود) فقد كانت مناسبة لكل شخصية فنجد الأم والزوجة والعشيقة ملابسهم سوداء خارج الدار التي تعتاد على لبسها نساء الصعيد، أما بداخل المنزل نجد الأم ترتدي اللون الأسود والزوجة الألوان العادية، أما العشيقة فترتدي اللون الساخن المثير. أما سلام والأخرس فيرتديان الجلباب والطاقية ككل رجال الصعيد أثناء الخروج. ويرتدي رجل البار زي البار مان والضابط يرتدي قميصا عليه حمالة المسدس وبنطلون.
استكمل مكياج (أدهم عفيفي) رسم الشخصيات وبخاصة الشخصيات النسائية لاستكمال رؤية المجتمع الصعيدي.
أما الإضاءة (عمرو عبد الله) فحققت للمخرج فكرة مونتاج التوازي بأن يستخدم الكشافات في تغييب مكان عن المتلقي انتهت الأحداث فيه وإضاءة مكان جديد يدور فيه حدث آخر، وذلك باحترافية شديدة، وكانت ألوان الإضاءة الأزرق والأصفر.
إعمالا لتفعيل اسم العرض المسرحي (نوح الحمام) استخدم أكرم مصطفى (المؤلف والمخرج) جملتين قصيرتين من التراث الصعيدي (ليه ياحمام بتنوح ليه، فكرت عليا الحبايب، مكوي ومجروح على فراج الحبايب)، وهو موال تغنى به الكثير من المنشدين، وقد عزفت الموسيقى والألحان (محمد حمدي رؤوف) تنويعات لهذه الكلمات، باستخدام العود والمزمار والناي مع الآلات الإيقاعية، استغلها المخرج في الانتقال من مشهد إلى مشهد مع الإضاءة.
وعندما ينتهي العرض يتضح للمتلقي الذي اشتاق للتعرف على شخصية وطني بأن هذا الشخص الأسطورة الذي حضر بقوة أثناء العرض لم ولن يأتي.
سرب المخرج حالة الملل للمتلقي من كثرة الانتظار، فبعد الانتظار انتظار وانتظار، ولكن بحرفية شديدة وإيقاع محسوب وحرفية من كل ممثلي العرض الذين تنافسوا في هذا العرض، فقد فازوا جميعا.
تحية لكل من ساهم لخروج هذا العرض للنور.


جمال الفيشاوي