مستقبل السينوغرافيا

مستقبل السينوغرافيا

العدد 613 صدر بتاريخ 27مايو2019

المناسبات هي أوقات النظر إلى الخلف، مع أنها أيضا أوقات التطلع إلى الأمام. وما الذي تجلبه لنا الخمسون سنة القادمة؟ بالطبع، التنبؤ بالمستقبل هو لعبة الأغبياء. وسوف يتم نقل الممثلين إلى خشبة المسرح بناقلات، وسيتم استبدال كل مشهد ملموس بصور مجسمة، وسوف يتم إنجاز الإضاءة والتحكم في الصوت من خلال موجات دماغية، ولن يتخلف مغنيو الأوبرا عن العرض بسبب التهاب الحنجرة أو المشاكسات لأن تواءمهم المستنسخة سوف ينتظرون في الكواليس. ومن يدري؟ ولذلك، بينما من المستحيل أن نقول ما الذي يحمله مستقبل السينوغرافيا، فمن الممكن أن نتأمل المقومات التي يمكن أن تشكل فن إعداد المشاهد في النصف قرن القادم.
والتطلع إلى الأمام يحتاج نظرة إلى الخلف. إذ يمكن وصف تاريخ السينوغرافيا بأنه البندول الذي يتأرجح بين الفراغ والصورة. والفراغ في هذه الحالة يشير إلى خشبة المسرح باعتبارها كذلك. فخشبة المسرح هي المنطقة المحددة التي يتم التعرف فيها على الوظيفة المسرحية والتأكيد عليها، وهي الصيغة القابلة للتحول والتغير باستمرار، وعلى هذا النحو فهي سريعة الزوال – على الرغم من كونها ملموسة معماريا في مثل هذه المراحل. وفي حالة المسرح في اليونان القديمة أو ساحات السوق في كوميديات العصور الوسيطة، إذ يربط ما بداخل خشبة المسرح المشاهدين والعالم المحيط. كما أنه مغلف ببيئة أكبر تغلف بدورها المتلقي، على الأقل بشكل ضمني، وبالتالي تضع الحدث المسرحي في سياق العالم. وفي كثير من الأحيان، تكون خشبات المسرح المعمارية مغلقة جزئيا أو كليا (مثل المسارح الرومانية ومسرح أوليمبيكو ومسرح الجلوب وخشبة المسرح السنسكرتية) عن طريق عزل المتلقين وإزالة الانحرافات المبتذلة من أجل خلق عالم مسرحي كامل. وقد استخدمت أحيانا، بالطبع، خشبات المسرح المعمارية والفراغ قطع ديكور أو مشاهد مرسومة. وبينما يتأرجح البندول بين النقطتين، فإنه يعبر قوس الاستمرارية، عند النقاط القصوى، يكون كل شيء في المطلق.
وتهدف الصورة، من الناحية الأخرى، إلى خلق مكان معين، سواء كان مكانا مجازيا أو خياليا أو عاما أو خاصا. قد يكون غابة أو جنة أو قصر أو مطبخ في شقة سكنية. ومنذ عصر النهضة ارتبط ذلك عادة الإيهام المرسوم، ومنذ القرن الثامن عشر كان ذلك يعني خلق بيئة تفصيلية يتحرك فيها الممثلون - مداخل ذات أثاث عملي وأبواب ونوافذ.. إلخ، محاكاة لعالم المتفرجين التجريبي. ولكن بغض النظر عن التفاصيل فهي لا تزال صورة، كما يوحي اسمها الفعلي «صورة لإطار خشبة المسرح picture - frame proscenium».
وقد كان (آبيا Appia) بالطبع، هو الذي سعى إلى تعديل خشبة المسرح باعتبارها فراغا ثلاثي الأبعاد، وباعتبارها المكان الذي يمكن تشكيل الليونة باستخدام الضوء. فقد توافق مع النظام المنسوب إلى (آبيا)، بشكل جيد، كل من رفض النزعة الطبيعية وتمثيلها السينوغرافي، والمفاهيم الناتجة عن العالم الداخلي للعقل التي عززها الطب النفسي، ومفهوم الروحانية في الفن عند (كاندنسكي Kandinsky). وقد ميز مؤرخ السينوغرافيا الفرنسي الكبير (دينيس بابل Denis Bablet) الدافع الأساسي للسينوغرافيا في القرن العشرين بأنها «معركة مع الفراغ». ويمكن وصفها بقدر متساو بأنها «معركة مع الصورة». إذ يمكن أن يُفهم الإعداد النموذجي المجزأ للديكور في القرن العشرين في إطار الرغبة المنسوبة إلى (لاكان Lacan)، وهي الشوق إلى غير المتحقق أو المفقود. ولكن، سواء كان إطار النافذة المعلق في الفراغ أو الباب المنعزل هو الحنين إلى حائط كامل، أو بالعكس، فإن استبعاده من أجل تحقيق خشبة مسرح مفتوحة هو أمر محل خلاف. وتمسكا باستعارتي، فقد بدا الأمر وكأن البندول قد تعطل، ولم يعد قادرا على الوصول إلى نهاية القوس.
لقد أكد التصميم بعد الحداثي على هيمنة الصورة، حتى لو كانت صورة عناصر متباينة ومتجاورة، واختلالات جمالية، رافضة للسامي المتعالي.
وإذا كانت الرؤية الموجزة للألفين وخمسمائة سنة من تاريخ السينوغرافيا توحي بالتأرجح بين نقطتين، ألا تعود إلى الخلف مرة أخرى في الخمسين سنة الماضية؟ أعتقد لن ترجع، أو على الأقل لن ترجع بنفس الطريقة. فهناك، دوريا، تطورات في التاريخ تؤدي إلى تحولات جذرية في إدراك العالم وفهمه. وهو تطور منظور دقيق رياضيا في تركبيه مع ظهور المجتمع التجاري في القرن الخامس عشر، على سبيل المثال، أو تطور فن التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر. ولا شك أن تطور التقنيات الرقمية والاتصالات الإلكترونية في أواخر القرن العشرين هو أيضا لحظة أخرى في هذا التطور. ولكن مثلما حدث تماما، تغير مفهوم المكان والزمان وتنظيمهما بشكل جذري بين العصور الوسطى وعصر النهضة، ومثلما تم تحدي ما يسميه جوناثان كراي Jonathan Crary «ظاهرة المراقب» في القرن التاسع عشر، فإن النظام المجهري في العصر الحديث يخضع لإعادة فحص صارمة الآن.
وعلى الرغم من أن خشبة المسرح كانت دائما مكانا للمتغير والمتحول، فقد أنجزت السينوغرافيا تحولاتها عن طريق المادي الملموس. وكانت الأواني المطلية والجدران المهتزة التي شن عليها ستريندبرج الحرب كانت مصنوعة من مواد فعلية هي القماش والألوان موجودة في الفراغ الحقيقي. وكان يمكن لمسها. ويمكن تحويلها بالوسائل الميكانيكية: شخص يرسمها وشخص ينقلها. حتى الأماكن يمكن استحضارها باستخدام اللغة كما فهو الحال في مسرحيات شكسبير (تستعرض الكلمات رؤية يمكن أن تعمي، كما يذكرنا الفيلسوف الفرنسي جاك رانسييه)، التي عادت إلى الحياة على خشبة مسرح فعلية، ودخل الممثلون من باب حقيقي. وربما كان المسرح أفضل تجسيد لما يسميه (رانسييه) «النظام الأكثر شيوعا للصورة.. هو الذي يقدم العلاقة بين المرئي والمقول». ولكن في عصر الوسائط الرقمية هذا، فإننا في مجال الصورة من منظور (بودريار Baudrilliard). إذ تنفصل الصور عن مصادرها المميزة بدون التزام بالعالم الحقيقي، فهي تشير إلى ذاتها فقط، باعتبارها محاكاة غير محددة لكل منها الأخرى. وبالطبع، في عصر الاتصالات الإلكترونية هذا، لا توجد الصور في أي فراغ ملموس أو مرئي، بل يوجد بالطبع فراغ إلكتروني افتراضي.
إنها حقيقة بديهية أننا نعيش في عالم الصور، وقد اتسع نطاق انتشار الصور بشكل كبير من خلال النشر الإلكتروني. (فأي إنسان بدأ استخدام الكومبيوتر أو الإنترنت في أيام ما قبل أجهزة «أبل» قد يتذكر عالما مكونا تقريبا من أنواع وليس صورا). والشيء ذو الأهمية العرضية هو حقيقة أن الكثير من الصور التي نواجهها تنشأ أو تنقل بواسطة أجهزة تعمل كمصادر ضوء خاصة بها. بمعنى أننا لا نفهم الصورة لأن الضوء ينعكس خارجها، إذ تشع الصورة بضوئها. وقد اقترح أحد النقاد أنه نظرا لاحتواء مثل هذه الصورة على مصدر الضوء الخاص بها، فإنها تُفهم بأنها سببه، والذي هو الله في التعريف المنسوب إلى الفيلسوف (سبينوزا). وهذا يطرح سؤالا حول إمكانية تحديد الخصائص الجمالية للصورة من خلال المظهر التقني. وهل الصورة مجرد صورة؟
ويمكننا أن نجادل بأن العصور الوسطى وعصر الباروك، على سبيل المثال، كانا أيضا عصرين بصريين، ولكنهما، علاوة على أي نظم بصرية قبل القرن العشرين، احتاجا إلى الصورة لكي تكون حاضرة في الفراغ وتمتلك درجة ما من الأبعاد. ولكن الصورة والفراغ اليوم ليسا منفصلين فقط، بل تم تجريدهما أيضا من ماديتهما، فأين توجد الصور التي تظهر على شاشات الكومبيوتر ولوحة الإعلانات ولوحة النتائج في الاستادات الرياضية والأجهزة ذات الصلة؟ أجل، تظهر الصورة للحظة على جهاز ما يجعلها مرئية مع أننا لا يمكننا أن نقول إنها موجودة في فراغ. والصور نفسها لها قليل من الثبات – إذ لها القدرة على الظهور والاختفاء والتحول والتحلل والذوبان، بغض النظر عن الحقائق المبتذلة أو فيزياء الحياة اليومية. علاوة على ذلك، بينما تم ابتكار الصور تاريخيا بواسطة الخبراء والصناع للاستهلاك بواسطة الآخرين، فاليوم وفي داخل شريحة معينة لهذا النظام المجهري الجديد، يتم استدعاء الصور المبتكرة والمتحولة إلى الوجود، ويتم محوها وفقا لإرادة المشاهد الفرد.
معظم الناس اليوم لديهم خبرة كبيرة أو قليلة بالوسائط الإلكترونية والتصوير الرقمي، ولدي القليل منهم خبرة في المسرح. (وهناك فعلا شكل من المسرح مألوف لجمهور واسع: مثل الأحداث الرياضية وحفلات الاستادات. وهذا النوع يشبع الحاجة الإنسانية للحضور الجماعي في فراغ مشترك. وليس من المستغرب أن تخلق بعض الصور المصاحبة وتعرض بالشكل الرقمي المألوف). ولا مفر من أن وضع المتفرج المعاصر في مسرح مظلم لرؤية المؤدين على مسافة ما، والذي يبدو ساكنا بالمقارنة بالسرعة المحمومة للوسائط الرقمية، على المسرح الذي سيبدو باهتا، بغض النظر عن كم الإضاءة الزاهية، مقارنة بكمية الضوء في العالم الخارجي، وهو بالفعل أمر يثير مشكلة. فما زلت مطاردا باستجابة المشاهدين (أو عدم استجابتهم فعلا) لسينوغرافيا (أندرو ويبر لويد) في عرض (ذات الرداء الأبيض The Woman in white) الذي شاهدته في برودواي منذ بضع سنوات. فقد تم ابتكار المشهد وعرضه بواسطة التقنيات الرقمية وربما كان المثال الأكثر تطورا من الناحية الفنية حتى ذلك الوقت. فبينما يصفق المتفرجون للواقعية المفصلة أو البذخ شديد البهجة للمشاهد عتيقة الطراز عندما تظهر، فإن العجائب الرقمية للمشهد عند (ويليام دودلي) لم تسفر عن أي استجابة واضحة مطلقا. يبدو أن مظهر الصورة الرقمية، والأماكن المتحولة والمتحللة، كانت شائعة جدا بالنسبة لهؤلاء المتفرجين لدرجة أنها تحدث من ظهور غير مرئي، حيث تمثل المحاكاة ثلاثية الأبعاد في العالم الواقعي حداثة رائعة لا تشبه إلا القليل من التوقعات المكانية والتصويرية للجمهور الحديث.
إذن، أين يتركنا هذا؟ المسرح الحي لن يختفي، ويبدو أن ثنائية المؤدي - المتلقي، في المكان والزمان الحقيقيين، مرتبط بالسلوك البشري. ويتطلب المسرح الحي أن يواجه المشاهدون الصورة والفراغ الفعليين ويعايشونهما. وفي نفس الوقت، لم تعد شريحة كبيرة من المشاهدين تقرأ – وربما لم تعد قادرة على القراءة – الفراغ والصورة كما تفهم خلال عدة مئات من السنين. وبالتالي، سوف تكون المشكلة كيفية استيعاب الحاجات المتصارعة لهاتين القوتين. قد تكمن المشكلة في مفهوم الإسقاطات، وقريبا سوف تكون الأشكال المجسمة مجدية على نطاق واسع – ولكن مثل هذه التقنيات لا تستخدم في الوقت الحاضر. ومع استثناءات قليلة، كان تاريخ الإسقاطات على مدار المائة سنة الماضية بديلا عن المشهد المرن (مع الاستمرار في التعامل معه على أنه يعمل بطريقة متطابقة) أو كنظام صور تكميلي لخلق حالة مزاجية، ونقل المعلومات، وتعزيز المخاوف الموضوعية، وما إليها. ولكن إذا كانت المفردات الجمالية والإدراكية لمثل هذه التقنية مفهومة بشكل أفضل فمن الممكن نقلها بشكل أفضل إلى خشبة المسرح بنفس الطريقة لكي تكون متاحة وذات معنى للمشاهد المعاصر: مشاهد الصورة غير المادية والفراغ المصاحب لها. وحتى يتم رأب ذلك الصدع، سوف يظل التصميم المسرحي غارقا في شكل عفا عليه الزمن.
وأنا باعتباري مؤرخا أستطيع أن أوضح أن الفراغ السينوغرافي والصورة يعكس دائما حساسية وتقنية عصره. ولذلك من الأمان أن نقول إن السينوغرافيا في الخمسين سنة التالية سوف تعكس عصرها وتقنيتها. وباعتباري مراقبا للحاضر أستطيع أن ألاحظ ببساطة أن معايشة وفهم الفراغ والصورة يخضع إلى تغير جذري، وقد تغيرا عميقا. وباعتباري مبشرا، إذا لجأت إلى شكل من الإسقاط لم يتحدد بعد باعتبار أنه مستقبل السينوغرافيا، فإن ذلك فقط لأنني أسير العالم الذي أعرفه. وأشعر بالأمان في توقع العوامل التي يجب معالجتها. وأنا في حيرة من كيفية معالجتها.
........................................................................................ أرنولد أرنسون يعمل أستاذا للمسرح في جامعة كولومبيا.
 نشرت هذه المقالة في مجلة Theater Design & Technology في عدد صيف 2010.


ترجمة أحمد عبد الفتاح