بين التنزه وقصور باغوص والمدارس الفرنسية

بين التنزه وقصور باغوص والمدارس الفرنسية

العدد 764 صدر بتاريخ 18أبريل2022

يا سبحان الله .. أبعد مقالات «العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس» التي استمتعنا بها أكثر من ثلاثين أسبوعاً، وبعد أن استفدنا من سلسلة مقالات «جمعية أنصار التمثيل والسينما»، وكذلك مقالات «بدايات المسرح في بور سعيد» .. إلخ ما كتبه الدكتور سيد علي إسماعيل من مقالات نالت إعجاب الجميع، يأتي عليه اليوم ليكتب عن «المسرح في شبرا»! الواضح أن الدكتور سيد بعد أن بلغ الستين من عمره، أصبح لا يستطيع الاستمرار في اكتشافاته المسرحية كعادته! وأصبح غير قادر على كتابة الجديد، كما كان يتباهى بكتاباته واكتشافاته التي لا يكتبها أحد غيره!! وأكبر دليل على ذلك .. عنوان سلسلته الجديدة «بدايات المسرح في شبرا» .. فهل في شارع شبرا مسرح؟! وهل هذا المسرح له بدايات؟! وهل هذه البدايات تستحق الكتابة عنها؟!
هذا الكلام تهمس به الآن عزيزي القارئ، أو على الأقل تريد أن تقوله بعد أن قرأت عنوان المقالة!! وأنا أتفق معك في ذلك مؤقتاً، وأتمنى أن تتمسك برأيك هذا وتظل متمسكاً به حتى تنتهي سلسلة المقالات!! وبعد أن تصل إلى المقالة السابعة والأخيرة .. أتمنى أن تكون صامداً ومتمسكاً برأيك هذا، لأنك ستتناقض مع نفسك ويتحول رأيك من النقيض إلى النقيض؛ حيث إنك ستقرأ عن جديد لم تقرأه من قبل، وستتابع اكتشافات لم تُكتشف من قبل، وهذا أمر طبيعي لأنك تقرأ كتابات الدكتور سيد علي!!

تمهيد
لن أتحدث عن تاريخ شبرا، وسبب تسميتها، وأن محمد علي باشا هو الذي حدد مكانها وخصصها لبناء بعض قصوره .. إلخ هذه المعلومات المنشورة في مواقع الإنترنت، وأنا لا أرغب في تكرار ما كتبه السابقون، لذلك سأنقل لكم وصفاً لشبرا - بعد تطويرها في عهد الخديوي إسماعيل - نشره أحد الزائرين إلى مصر في حينها، عندما زارها قادماً إليها من الأستانة العليا. وهذا الوصف نشره في أواخر عام 1870 بجريدة «الجوائب»، قائلاً فيه: 
«إن أشهى ما يلذ الآذان وأبهى ما يسر العيان ما أخبركم به عما شاهدته بمصر من التمدن والعمران مما أولاني غاية الحظ والسرور، ولهذا أريد أن تكونوا شركاء معي فيه لعلمي أن هذه الأخبار تطربكم وتسليكم، كيف لا وأنتم تودون التمدن والعدل في جميع الأمصار والأقطار فأقول: إن هذه البلاد السعيدة حاصلة الآن على تمام الأمن والطمأنينة بعيدة عن الجور والتعدي، مقيدة برباط الوحدة والحب بين الراعي والرعية، والغني والفقير. فالرعية على اختلاف طبقاتهم وشؤونهم يقدمون أنفسهم فداء عن الحكومة وهم فرحون. والحكومة تشاركهم في السراء وتعينهم على إزالة الضراء. وثاني يوم وصولي وهو يوم الأحد دعاني أحد أصدقائي للتنزه في طريق شبرا. فركبنا في كروسة – أي كارتّة أو (عربة حنطور) – وسرنا إلى تلك الجهة التي لا يقدر على وصفها إلا من رآها لكثرة ما فيها من المحاسن والبدائع، التي تقرّ العيون وتشرح الصدور، وتسلي الغريب عن الأوطان. فقد رأينا الطريق مرشوشة بالماء، والأشجار العظيمة عن كلا الجانبين، وأطراف بعضها منحنية إلى بعض لتمنع حرارة الشمس عن المتفرجين، وهو بهجة للناظرين وسلوان لكل شج حزين. وإذا كان في باريس وغيرها مثله من المناظر الأنيقة، التي تنتابها علية الناس في الكروسات وعلى الخيل، ولكن من أين لها منظر النيل المبارك الذي يُرى منساباً في حدائقها ورياضها، كأنما هو سبائك من فضة والشمس تكسوها التذهيب الناصع، والهواء اللطيف والريح تلبسه دروعاً مزرودة، وتلك الجسور البهية التي عملت فوق الترع لجلب منافع النيل بها من أعظم دواعي العمران، التي فاقت بها مصر محاسن على جميع البلدان، وهناك جسور أخرى لم تنجز بعد. وكانت طريق شبرا غاصة بالكروسات الحاملة أصناف الناس مع حرمهم، وهم مرتدون أفخر الملابس ومن بينها كروسة الخديوي المعظم تحمل ذاته الشريفة، وتلوح من طلعته البهية علائم السرور لرؤيته الناس فرحين مبتهجين، وكان يسلم عليهم لكمال حظهم وسرورهم .. إلخ».
كما أشارت جريدة «الجوائب» في ديسمبر 1872 إلى «قصر النزهة» في شبرا – ومكانه حالياً المدرسة التوفيقية - كونه من أهم القصور التي ينزل بها ضيوف مصر من الملوك والأمراء الأجانب، أمثال الأمير «الجراندوق نيقولا» شقيق قيصر روسيا، الذي زار مصر حينها، قائلة: «وصل إلى القاهرة في ثالث عشر رمضان جناب الجراندوق نيقولا، وكان قدومه من السويس في رتل مخصوص عينه له الخديوي، كما أن قدومه من يافا إلى بورت سعيد وإلى السويس كان في الباخرة الغربية التي أرسلها إليه الخديوي، فأكرمه الخديوي غاية الإكرام، وأنزله في قصر النزهة بسكة شبرا، وهو من أفخر المباني».
وفي عام 1882 – أي بعد عشر سنوات - قرأنا خبراً في جريدة «الأهرام» جاء فيه الآتي نصاً: «ذهبت الحضرة الخديوية مساء اليوم للتنزه في شبرا، وكان العالم يتيمن بطالعها التوفيقي ذهاباً وإياباً». وهذا الخبر يعني أن شبرا أصبحت المتنزه الأول في مصر، لدرجة أن الخديوي توفيق نفسه، كان يتنزه فيها!! ولعلنا نسأل: ما هي مظاهر التنزه في شبرا؟ هذا السؤال أجاب عليه «حسين شفيق» عام 1925، عندما كتب مذكراته في التمثيل، قائلاً: «كان المرحوم الخديوي إسماعيل باشا يقول مصر قطعة من أوروبا، ولكي يحقق قوله أخذ في بث روح الحضارة الغربية في هذا القطر، فأخذ القوم بأسباب المدنية الغربية، وكان من جراء ذلك انتشار الملاهي .... وكان أهم تلك الملاهي ما أقيم على طريق شبرا، وكانت تلك الطريق في أيام الأعياد والمواسم والعطلات ملتقى سكان العاصمة والبلدان القريبة من أصحاب الوجاهة والنبل والكرم المحتد ورفعة الأصل وشرف الأرومة».
هذه هي شبرا في عصر الخديوي إسماعيل، وهي نفسها شبرا التي ظلت على حالها هذا أكثر من نصف قرن!! ولعل القارئ الآن سيظن أنني سأتحدث عن مسارح وفرق وكازينوهات «روض الفرج»، بوصفها جزءاً من شبرا أو تابعة لها، كون مسارح روض الفرج هي الأساس، ولا يجوز الكتابة عن المسرح في شبرا دون التطرق إلى روض الفرج!! والحقيقة أنني سأفعل هذا الخطأ المنهجي مضطراً!! فأنا على ثقة تامة بأن المسرح في روض الفرج، يجب أن تتبنى الكتابة عنه «مؤسسة» كاملة، تخصص له فريقاً من الباحثين، وتوفر لهم كافة الإمكانيات! أما أنا فسأكتفي بالكتابة عن المسرح في شبرا بعيداً عن روض الفرج!! وسأكتب عن فترة محددة من عام 1882 إلى عام 1944.

قصور بوغوص في شبرا
بوغوص أو باغوص هو ابن «نوبار باشا» أول رئيس وزراء لمصر في عهد الخديوي إسماعيل. وأغلبنا يسمع عن شارع باغوص أو شارع جامع باغوص، كما نسمع عن قصر باغوص أو مدرسة باغوص .. إلخ، وهذه المسميات موجودة في حي الشرابية وفي غمّرة، وفي شبرا الخيمة .. إلخ هذه المناطق والأحياء التي كانت تتبع شبرا في زمن مضى، وربما بعضها ما زال يتبعها إلى وقتنا الحاضر!! ولكن الطريف أنني لم أسمع عن «قصور باغوص» في شبراً!! والغريب أن أول عروض مسرحية قرأت عنها، كانت في مدارس بجوار هذه القصور أو في داخلها، بناء على ما بين يدي من مقالات منشورة في الدوريات، التي نجت في الاطلاع عليها!
أول خبر كان في إبريل 1884، نشرته جريدة «القاهرة»، قائلة تحت عنوان «المدارس الخيرية الأدبية»: «في الساعة الثانية والنصف من يومي الجمعة 16 إبريل الجاري، والأحد 18 منه تحتفل المدارس الخيرية الأدبية لطائفة الروم الكاثوليك، بتمثيل روايات أدبية باللغات العربية والأجنبية، وذلك في مدرسة شبرا الكائنة بجوار قصور باغوص. وهذه هي الروايات المراد تشخيصها: في يوم الجمعة تمثل رواية «أنطيوخس الملك» من طلبة مدرسة شبرا، ورواية فرنساوية أدبية من طلبة مدرسة الشارع. في يوم الأحد تمثل رواية عربية من طلبة مدرسة الشارع، ورواية أخرى فرنساوية من طلبة مدرسة شبرا».
والخبر الآخر نشرته جريدة «المقطم» عام 1891، جاء فيه: «احتفل أمس بتوزيع الجوائز في مدرسة البنات التي تديرها حضرة السيدة «كاستانيولي» في قصور بوغوص بشبرا على المستحقات من التلميذات. وقد حضر هذا الاحتفال جمهور غفير من كبار الموظفين والأدباء والأعيان، ومثلت رواية بديعة باللغة الفرنسوية، وقد أجادت الممثلات في التمثيل كل الإجادة، ثم تليت مُلحة باللغة العربية، وتلتها محاورة باللغة العربية أيضاً، فضحك لها الحاضرون وسروا مزيد السرور. ثم وزعت الجوائز على المستحقات، وكان في جملة اللواتي أحرزن السبق في نيل الجوائز السيدات: تريزة صواف، وأليز عيروط، وإملى وإيليز صيداوي، وغيرهن من التلميذات النجيبات، ثم ختمت الحفلة وانصرف المدعون يشكرون حضرة مديرة المدرسة، ويثنون على حسن عنايتها واجتهادها».

عروض المدارس الفرنسية
سأتحدث كثيراً – فيما بعد - عن العروض المسرحية داخل مدارس شبرا، وسأتحدث أيضاً عن العروض المسرحية التي كانت تُعرض بأسماء مدارس في شبرا، ولكن المدارس الأجنبية – أو المدارس التي تتحكم فيها دول أجنبية – كانت ملفتة للنظر في شبرا، وخصوصاً المدارس الفرنسية! ففي أواخر 1891 نشرت جريدة «المؤيد» خبراً، قالت فيه: «أمس تألفت جوقة من تلميذات مدرسة البنات الفرنساوية إدارة الست «بريولبي روه»، التي أسست منذ ثلاث سنوات على جسر شبرا، ومثلن رواية أدبية بتياترو حديقة الأزبكية، وألقين عدة مقالات بالعربية والفرنساوية والطليانية، فأعجب الحاضرون حُسن إلقائهن مع صغر سنهن، حيث الكل بين الثامنة والعاشرة من العمر».
أما مدرسة الليسيه فنالت حظها من النشاط المسرحي، واهتمام الصحافة بها في أول أعوام تأسيسها في شبرا عام 1935، وذلك عندما نشر «إبراهيم عطايا» في جريدة «المقطم» موضوعاً بعنوان «مدرسة الليسيه الفرنسوية بشبرا وحفلتها في مسرح برنتانيا»، قال فيه: «شهدت كثيراً من الحفلات فلم تترك حفلة منها تأثيراً في نفسي كالتأثير الذي تركته هذا الحفلة. وكان هذا الشعور ذاته مستحوذاً على نفوس كثيرين. ولعل السبب يرجع إلى أن أكبادنا التي تمشي على الأرض، كانوا يزينون المسرح، ثم إلى اتقان الحفلة اتقاناً ينطق بمقدار ما بُذل في سبيلها من مجهود. وكانت غالبية الحاضرين من أفاضل الجاليات الأدبية، الذين يتلقى أبناؤهم وبناتهم العلم في هذا المعهد الزاهر، وسواهم من الأجانب. وكم أثّر في نفوسنا نحن المصريين إخلاصهم البريء لحضرة صاحب الجلالة مولانا المليك المعظم، أما التلاميذ الذين كانوا قوام الحفلة، فقد أتقن كل منهم دوره التمثيلي في اللفظ والإيماء والحركة، حتى خالهم الناس ممثلين مطبوعين، بل خالوهم جميعاً لفرط براعتهم في اللغة الفرنسوية من أبناء السين [أي نهر السين في فرنسا]. وبينهم عدد غير قليل من أبناء النيل [أي نهر النيل في مصر]. أما الرواية فتدور حول حياة عائلة فقيرة عمادها شيخ هرم، وقوامها بنوه الثلاثة، وقد نشأ الابن الأول أديباً كاسد البضاعة لحداثته، والآخر صياداً لا يأتي شباكه غير الحجارة، والثالث فتى في نحو العاشرة يتلقى العلم ولكنه لا يفهمه لفرط جوعه، لأنهم جميعاً لا يجدون كسرة خبز إذ عقد الفقر معهم معاهدة، حتى اضطر الوالد إلى أن يبيع جانباً من دمه إلى ثري إنجليزي وفد على نابولي للاستشفاء، فنفحه بكيس مملوء بالذهب ولكنه ما كاد يسد مسبعة أولاده حتى انحصر منهم الاتهام بسرقة حدثت لمال ذلك الثري فأودعوه السجن، ثم ظهرت الحقيقة فوضع الثري على كوخهم إكليلاً اعترافاً بفضل عميدهم وطهارة ذيله وهو يقول: إن في هذا الكوخ من الشرف ما لا يوجد مثله في كثير من القصور. وقد تخلل الحفلة عدة أناشيد شجية على نغمات البيانو وغيره من آلات العزف. ونصبت التلميذات والتلاميذ الصغار رقصة «الورد» ولعبت بعض التلميذات على البيانو فأبدعن وأطربن».
ومن أخبار العروض المتعلقة بالمدارس الفرنسية في شبرا، ما نشرته جريدة «البلاغ» عام 1939، تحت عنوان «حفلة تمثيلية». وعلمنا من هذا الخبر أن جمعية موجودة في مصر اسمها «جمعية محبي النقابة الفرنسية بمصر»، وأنها أقامت حفلة تمثيلية في قاعة يورت التذكارية بالجامعة الأمريكية، مثلت فيها تلميذات مدرسة «الكرمينيت» بشبرا مسرحية «آدم وحواء» تحت رعاية سعادة المسيو «دي فيناس» وزير فرنسا المفوض. والمسرحية الممثلة من مؤلفات القرن الثاني عشر، وقد أعدّ حوارها المسيو «جوستاف كوهين» الأستاذ بالسربون. أما الموسيقى فوضعها المسيو «جاك شيبي». ومن جماليات العرض، ما شاهده الجمهور من مناظر تُمثل الفردوس، ويقابلها مناظر أخرى تُمثل الجحيم، وكانت الملابس والعادات والتقاليد متناسبة مع زمن أحداث المسرحية.


سيد علي إسماعيل