في وداع «بهية» التمثيل المصري

في وداع «بهية» التمثيل المصري

العدد 612 صدر بتاريخ 20مايو2019

«ما قدرش أقول لمحسنة توفيق تعمل إيه» كان هذا رد يوسف شاهين حين سألته الفنانة الكبيرة محسنة توفيق ماذا تريد أن تفعل؟ جاء هذا على لسانها خلال تكريمها من مهرجان أسوان لأفلام المرأة فبراير الماضي، وقد ذكرت أن شاهين قال إنها من أفضل خمس ممثلات في العالم. أمتعتنا بدورها المميز «بهية» في «العصفور». تميزت بأدائها الفني الصادق، وكان آخر أعمالها مسلسل «أهل إسكندرية» الذي لم يعرض حتى الآن، حصلت على جائزة الدولة التقديرية وكانت أول ممثلة تحصل عليها، ومع ذلك فهي ممثلة مسرحية كبيرة لم تنل التكريم المناسب.. رحلت الفنانة القديرة محسنة توفيق عن عالمنا، تصحبها دعوات قلوب من عرفوها، ومن عملوا معها ودموعهم، وتصحبها أيضا كلمات الوداع والذكريات التي نفرد لها هذه المساحة.
قال د. كمال الدين عيد: أعود إلى عام 1964 في مسرح الجيب المصري في الحديقة الفرعونية، وإلى أول اجتماع لقراءة مسرحيتين من ذات الفصل الواحد للكاتب شوقي عبد الحكيم، جمعت الجلسة الأولى للقراءة أمينة رزق، وزوزو حمدي الحكيم، وسميحة أيوب، وإبراهيم سكر، وحسن عبد الحميد، ومحمد الدفراوي، وفور الانتهاء من جلسة التدريب الأولى لمسرحية “شفيقة ومتولي” اعتذر كل من سميحة أيوب والدفراوي، واصطدم المؤلف شوقي عبد الحكيم بالموقف، وفي مساء الليلة نفسها أخذني إلى منزل الفنانة محسنة توفيق، وقال لي إنه حضر لها مسرحية «جميلة بوحيرد» وكانت رائعة، لهذا يرشحها لدور شفيقة بدلا من سميحة أيوب، وقبلت محسنة توفيق الدور، وفي اليوم التالي كانت على مائدة التدريبات ومثلت أنا دور متولي بدلا من الدفراوي لإنقاذ الموقف.
وأضاف «عيد»: كتب جورج البهجوري في مجلة صباح الخير، 21 مايو 1964 يقول: أيها الأصدقاء، لحظة أرجوكم، هذا مسرح مصري يولد من جديد. وفي 25 مايو كتبت فوزية مهران: كانت محسنة توفيق تقف بجسدها شامخة علي المسرح لدرجة تقنع بقدسية هذا الجسد الذي تكمن فيه اللعنة. وفي التاريخ نفسه كتب نبيل بدران في مجلة الجيل إنها طاقة فنية متفجرة، سحرتني بقوة أدائها وحساسيتها المرهفة، وفي جريدة المساء كتب يحيى حقي: لم أنفعل في حياتي كلها سواء في الشعر أو في النثر أو المسرح أو الموسيقى أو النحت والتصوير بتعبير عن سيطرة القدر كما انفعلت في لوحة “شفيقة ومتولي” حين سمعت رنة الصاجات في أصابع بغي تقوم من قبرها لتفي بالمكتوب على جبينها لأنها ماتت قبل أن تتم أداء الدين كله، ومحسنة توفيق أصبحت من مفاخر مسرحنا.
وأضاف عيد مستطردا: وكتب نعمان عاشور في جريدة الجمهورية: العرض شيق ومثير وأستطيع أن أقرر بلا مجاملة أن هناك توافقا غير هين بين توفيق المخرج كمال عيد في إبراز النص بأداء منضبط الإيقاع يستند إلى قوة وبراعة المجموعة المتفوقة المختارة من ممثليه ابتداء من أمينة رزق ومحسنة توفيق وإبراهيم سكر. وكتب محمد مندور في الجمهورية: الممثلة محسنة توفيق في دور شفيقة وهي تنظر في لهفة تشبه العشق عودة أخيها متولي كانت بارعة كل البراعة على نحو أثبت جدارتها. وفي جريدة الأهرام كتب وحيد النقاش: محسنة توفيق ارتفعت بدور شفيقة إلى مستوى الشخصيات التراجيدية في امتلائها بالانفعالات المتناقضة العنيفة وفي قوة تجسيدها. وفي مجلة المصور كتب محمود أمين العالم: استطاعت محسنة توفيق أن ترتفع باقتدار وأستاذية إلى سماء الفنانتين الكبيرتين أمينة رزق وزوزو حمدي.
تابع كمال عيد: محسنة توفيق تنازلت عام 1965 وقبلت العمل مع فرقة مسرح الجيب الجديدة التي ألفها العبقري كرم مطاوع مع لجنة من المخرجين والأديب محمود أمين العالم ونبيل الألفي وأنا، وقدمت الفرقة الشابة أول مسرحية تعبيرية تأليف برتولت بريخت “طبول في الليل” وكانت بطولة محسنة توفيق والمرسي أبو العباس وبشرى القصبي وأحمد مرعي، وهو تنازل من الراحلة العظيمة أن تعمل مع شباب فرقة مسرح الجيب الجديدة.
عاشت للفن
فيما قال الفنان الكبير رشوان توفيق: كنا ندرس سويا بمعهد التمثيل عام 1955، ثم تخلت عن المعهد وأكملت دراستها بكلية الزراعة، وأعتبرها من أعظم الفنانات في بلدنا، شخصية محترمة تعتز بذاتها لم تسر في ركاب الآخرين، سعدت أن مهرجان أسوان لأفلام المرأة فكر في تكريمها فبراير الماضي، وأذكر أن يوسف شاهين كان له وجهة نظر في محسنة توفيق أنها من أعظم خمس ممثلات في العالم.
وأضاف «توفيق»: شاركنا سويا في مسرحية «الشوارع الخلفية» وهي العمل الثاني إخراجيا لسعد أردش، وكان يشارك بها عدد كبير من النجوم من كبار الممثلين حمدي أحمد، حمدي غيث، وزوزو ماضي، وشاركنا سويا أيضا في مسرحية «وفاة بائع متجول» حيث كان هناك برنامج مسرحي يذاع على التلفزيون يشمل أكثر من مائة مسرحية عالمية، ولكن أعتقد أنها لم تخضع للمونتاج وهي من المسرحيات التي أخرجها محمد عبد السلام، وكانت المسرحية مترجمة إلى اللغة العربية الفصحى وطلبت الفنانة محسنة توفيق من سهير الأتربي أن نقدمها باللغة العامية لتصل للجمهور البسيط العادي ويفهمها، وبالفعل قدمناها بالعامية، رحمها الله كانت ممثلة عالمية منحت حياتها للفن والوطن، وأتمنى أن يبحث التلفزيون المصري في مكتبته عن هذه المسرحية ويذيعها.
 ميريل ستريب
الفنان أحمد شاكر قال: لم أشاركها فقط في مسلسل أم كلثوم بل كانت لنا تجربة إنسانية عظيمة في مسلسل «حبنا الكبير» الذي مثل عودة لمحسنة توفيق للدراما التلفزيونية بعد غياب، وكنت أجسد دور ابنها وكان المسلسل يحمل طعم مصر فمنحها المساحة «لتتمطع تمثيلا»، وأنا أرى أنه في كل أعمالها لم تكن هناك المساحة الكافية التي تليق بموهبتها العظيمة، فقد رأيتها أما حقيقية وصادقة ولم أعهد ممثلة في مصر تمثل بطريقتها من حيث المعايشة الكاملة للشخصية حتى بعد انتهاء المشهد، كانت كتلة من التفاني والالتزام الدقيق بالمواعيد، والتركيز لدرجة أن أي صوت في الاستوديو يخرجها عن الشخصية، حالة تقمص لسيدة مصرية حقيقية لديها ابن هو كل حياتها وتعيش قضية فيها قصة حب لشخص هو من وجهة نظرها السبب في موت زوجها، كان العمل تركيبة إنسانية خطيرة جدا فرأيت أمامي «ميريل ستريب» وهي لا تقل موهبة عنها في هذا الدور، أتذكر أنها حادثتني هاتفيا بعد عرض مسلسل أسمهان وأبدت إعجابها بتجسيدي لشخصية فريد الأطرش وكان رأيها هو أكثر ما أسعدني، هي إنسانة راقية وذات موقف وحقيقية في زمن كثر فيه الزيف رحمة الله عليها، وأعتقد أن الله سيكافئها لأن الفن لم يعطها حقها الذي تستحقه.
 محسنة تذوب في الشخصية
وقال المخرج سمير العصفوري: تعرفت على محسنة توفيق في الخمسينات من خلال فرقة كانت تضم مجموعة كبيرة من خريجي وطلبة الجامعات، منهم عادل إمام وصلاح السعدني وغيرنا من الهواة والمخرجين الإذاعيين، كانت جادة جدا ذات اهتمامات ثقافية عميقة وقوية، ولها توجه فكري قوي في هذه الفترة وصاحبة حق، ثم بدأت فترة سكون حتى بداية الستينات، اجتمعنا على خشبة المسرح القومي في مسرحية «مأساة جميلة» تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وكانت مسرحية مهمة على المستوى السياسي والعربي، وأصبحت صديقة مباشرة في فترة السبعينات من خلال مسرح الطليعة وكانت تحرص على حضورها الدائم معنا وترحب بمساندة الفرقة على الرغم من عدم مشاركتها في العرض، في السينما كانت دقيقة في اختياراتها ولا تقدم سوى الأدوار التي تقتنع بها، تهتم بفكر وقيم ومضمون العمل وهو ما وضعته شرطا ضروريا طوال حياتها لقبول أي عمل.. وأذكر دورها في “ليالي الحلمية”، الجودة والرقة والإتقان والتفاني والذوبان في الشخصية، كانت لافتة للنظر لأنها مدرسة شديدة الواقعية والحضور.
 فنانة ملتزمة أضافت الكثير للمشاهدين
فيما قال المؤلف محمد أبو العلا السلاموني: الراحلة محسنة توفيق من أهم فنانات مصر اللائي تحملن المسئولية القومية والوطنية في ظروف صعبة، وعانت الكثير بسبب اعتناقها للأفكار الوطنية التي ناضلت كثيرا من أجلها وتعرضت للكثير من المشكلات التي أدت إلى اعتقالها عدة مرات، ولكنها أصرت على أن تستمر في طريقها وفي الوقت نفسه كانت تقوم بدورها كفنانة ملتزمة، فأضافت الكثير إلى المشاهدين سواء في المسرح أو في التلفزيون، كما كانت اختياراتها متميزة تتحقق من خلالها الشخصية النموذج الذي ترجو أن تسير عليه الأجيال الصاعدة.
وقال المخرج حسن سعد: الفنانة محسنة توفيق ليست ممثلة فقط ولكن لها مشاركات مجتمعية كبيرة سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، هي ممثلة مسرح من الطراز النادر الفريد وسيدة مسرح بمعنى الكلمة، خلال مشوارها لم تحصل على التقدير الفني المناسب على الرغم من كونها ممثلة مسرح قديرة ولديها ثقافة رفيعة، وهو ما برز في جميع أعمالها المسرحية وغير المسرحية، تتميز محسنة بقدرات فائقة في الأداء، تدرس الشخصية التي تؤديها دراسة شاملة من حيث ثقافة وأبعاد الشخصية، ورغم أنها فنانة كبيرة فإنها كانت مقلة في أعمالها بسبب دقتها فيما تقدمه وحرصها الشديد في اختيار الأعمال التي تشارك فيها، لذلك كان كل ما قدمته هادفا وله أبعاد اجتماعية.. أصفها بأنها فنانة فريدة.
حالة إنسانية
ويقول المخرج إميل شوقي: عندما قدمت مسرحيه “حمام شعبي” عام 96 وكان أول عرض جماهيري بالنسبة لي، كانت الفنانة محسنة توفيق ملتزمة بحضور العرض يوميا وقالت في حوار لها مع عبلة الرويني إن إميل شوقي أهم مخرج في مصر في الوقت الحالي وهو يعادل كرم مطاوع وسعد أردش، وطلبت مني أن نتعاون سويا في عمل فني، وبالفعل قدمت لها نص “سيدة الماضي الجميل” من ترجمة شوقي فهمي، وقرأناه سويا، ولأنها كانت دقيقة جدا قرأت النص الأصلي غير المترجم، وبالفعل بدأنا البروفات ولكن لسوء الحظ أصيبت بوعكة صحية واعتذرت عن العرض.
وأضاف «شوقي»: محسنة توفيق حالة نادرة من الفنانات، تبحث دائما في أدوارها والنصوص التي تقدمها عن القيمة سواء كانت نصوصا عربية أو مترجمة، وكانت صديقه للكاتب الكبير سعد الله ونوس.
واختتم حديثه بالقول إن محسنة توفيق حالة إنسانيه وفنية لها مواقف سياسية ضد الظلم والفساد والقهر، وتبحث دائما عن الحرية، وتمثل ظاهرة فنية عربية خاصة بعد ما قدمت دور بهية في فيلم “العصفور”، وكانت ترمز إلى مصر التي تقاوم حتى النصر، محسنة توفيق فنانة كبيرة تعرف جيدا قيمة ودور الفن في تغيير العالم.

 حرصها على النموذج جعلها تخسر الكثير
بينما قال المخرج مراد منير: طلب مني الراحل عبد الغفار عودة عمل عرض للمسرح المتجول وكان مديره حينذاك، واقترحت تقديم “منين أجيب ناس” وأن تقوم ببطولته الفنانة محسنة توفيق، ولكن عبد الغفار قال لن تستطع إقناعها، وطلبت المحاولة، وعندما تحدثت إليها رحبت جدا وعرضت عليها فيديو العرض الذي سبق وقدمته في قصر ثقافة الأنفوشي، ووافقت على الفور، وفي اليوم التالي أبلغت عودة أن الفنانة محسنة توفيق وافقت على العمل ولم يصدق حتى تحدث بنفسه إليها وأكدت له الأمر، وقال لها كنت أقف خلفك في أحد العروض «بحربة» والآن أقوم بإنتاج عرض من بطولتك، وبالفعل بدأنا البروفات واستمرت أربعة عشر شهرا، وكان رئيس الهيئة حينها الراحل سعد أردش وقد ذهبت إليه محسنة لتطلب منه الموافقة على العرض لكن لم نعرض المسرحية إلا بعد خروج سعد أردش على المعاش.
وأضاف «منير»: قبل بدء العرض بأسبوع طلبت محسنة عمل بروفات ترابيزة مرة أخرى، وقد انتابتها حالة من الرعب والذعر، وبعد أن غادرنا البروفة قدمت محسنة توفيق اعتذارا عن العرض، ذهبت إليها مسرعا ولكنها أصرت على رأيها، تشاجرنا سويا وظلت ثلاثة أيام مصرة على الرأي نفسه بسبب خوفها الشديد واحترامها الزائد لمهنتها، وتدخل الفنان علي الحجار وأقنعها، حتى جاء يوم الافتتاح وكان من المفترض أن يُفتح العرض في تمام الساعة التاسعة مساء وقبل فتح الستارة بخمس دقائق لم نجد الفنانة محسنة توفيق، وبعد البحث وجدناها داخل «الحمام» وترفض الخروج.. لم يكن أمامي أي خيار سوى افتتاح العرض والمغامرة، وعندما سمعت موسيقى البدء وجدتها تقف في الكالوس منتظرة دخولها، في اليوم الأول كان الجمهور يملأ قاعة المسرح، في الداخل نحو ألف شخص ومنع من الدخول أكثر من أربعة آلاف شخص، وتألقت محسنة توفيق بصورة لا يصدقها عقل، وبعد انتهاء الفصل الأول دخلت حجرتها ووجدتها تبكي بكاء شديدا وقالت: لم أؤدِ الدور كما يجب أن يكون.
أضاف منير: عُرضت المسرحية أكثر من سبعين يوما، ثم عرضت بمهرجان بغداد المسرحي وفوجئنا في أول ليلة عرض بعدد كبير من الجمهور داخل وخارج المسرح، وطلب الأمن وقتها إلغاء العرض حتى لا تحدث كارثة، واقترح عودة إقامة حفلتين للعرض ووافقت محسنة، وحصلت في المهرجان على أفضل ممثلة وحصل العرض على الكثير من الجوائز، وقال القائمون على المهرجان وقتها إن مصر عادت لتكون الأم والنموذج.. هكذا كانت محسنة بسبب حرصها على أن تكون النموذج الصادق تخسر الكثير.

 فريدة ليس لها بديل
فيما قال الفنان أشرف عبد الغفور: محسنة توفيق منذ أن بدأت وهي تحدث تأثيرا كبيرا جدا، كانت بدايتها المسرحية في المسرح القومي في “مأساة جميلة” ثم قدمت عروضا في مسرح الجيب مثل عرض “أجاممنون” وكان لهذا العرض تأثير كبير لأنها تعمل بحساسية شديدة على المسرح، وكان هذا الأمر جديدا في الأداء المسرحي، خاصة في مسرح الجيب الذي يمتاز بكونه مسرحا صغيرا والجمهور قريب جدا من الممثل، لذلك تركت أثرا كبيرا جدا على الجمهور. وخلال مشوارها السينمائي قدمت فيلم «العصفور» وأثبتت أنها ممثلة مميزة وفريدة وليس لها نظير أو بديل، بالإضافة لامتلاكها رؤية في الحياة السياسية ودور مهم في الحراك المجتمعي.
واستطرد: أتذكر حين كنت نقيبا للممثلين عام 2011 لم تكن جوائز الدولة التقديرية تمنح للممثلين بل للإخراج فقط وتقدمت بطلب لتخصيص الجائزة للممثلين ورشحت الفنانة محسنة توفيق وكانت أول من حصل عليها، وأدرجت الجائزة منذ ذلك الحين ضمن جوائز الدولة التقديرية.
أما الفنانة ماجدة منير فبدأت حديثها قائلة: محسنة توفيق فنانة حتى النخاع، تبذل مجهودا رهيبا في الحفظ وكانت «قلوقة» جدا، لدرجة تجعلها تعتذر عن عرض قبل بدايته بأسبوع بدافع القلق والرعب، رغم كونها نجمة كبيرة، الفن لديها كان شيئا مختلفا، وكانت بالغة الحساسية واليد التي تطبطب على كل من حولها، وكانت عيناها تتحدث في كل لحظة.
وأضافت «منير»: عملت معها بعرض “منين أجيب ناس” ولطالما أعطت كل الممثلين حولها على خشبة المسرح إحساسها من نظرة عينيها وهذه الصفة لا يمتاز بها إلا الممثلون الحقيقيون، وعلى المستوى الإنساني كانت محسنة توفيق متواضعة للغاية وحساسة جدا، وكانت تحب الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وحين كنت أقيم حفلات لهما تكون أول الحضور. محسنة توفيق للأسف لم تأخذ حقها الطبيعي بين الممثلين، ولكن هذا هو حال فناني المسرح بشكل عام.

تشع بهجة وإنسانية
بينما يقول الفنان مجدي عبيد: محسنة توفيق الإنسان والموقف والفن ليسوا منفصلين عن بعضهم البعض، فهي ممثلة قديرة ولا تحتاج لشهادة من أحد على قدرتها كممثلة، فهي غاية في الروعة، إن كنا في بلد تقدر الفن لكانت أصبحت وزيرة للثقافة منذ زمن، محسنة توفيق صاحبة موقف لصالح الحياة والجمال والخير، محبة طوال الوقت وعاشقة للإنسانية، وهذا لا ينفصل عن موقفها السياسي، كانت طوال الوقت مهمومة بقضايا الوطن والمواطن، ولدينا الكثير من الذكريات خارج المسرح، في اللجنة المصرية للتضامن مع الشعب الفلسطيني واللبناني كانت محسنة توفيق دائمة الحضور والدعم، وكانت بمثابة سفيرة لهذه القضية، وحين هموا بجمع التبرعات من ملابس وطعام لتخرج بها سفينة الإغاثة إلى بيروت كانت محسنة توفيق من أوائل من قاموا بجمع التبرعات والذهاب على متن هذه السفينة، أيضا في اعتصام الفنانين لرفض قانون 102 كانت من أوائل المشاركين حتى تم التراجع عن القانون وتم اعتقالها عام 59.
محسنة توفيق صاحبة موقف واضح ومحدد وهذا جانب لا يعرفه الكثير فهي بهية مصر وهي نعيمة التي قال عنها نجيب سرور: حضورها في المسرح يشع بالبهجة والإنسانية والمحبة.. كانت دائما ما تساعد زملاءها ومنزلها مفتوح دائما وكانت عيناها تطمئن من حولها.

حدث ولا حرج
الفنان محمد عبد الهادي قال: في نهاية السبعينات كنت أعمل مساعدا للإخراج، بالمسرح القومي، وفي مسرحية “دماء على ملابس السهرة” من إخراج د. نبيل منيب، وكانت محسنة هي بطلة العرض مع النجم عزت العلايلي، وكانت محسنة تدخن بشراهة، وفي يوم طلبتني في حجرتها، وأعطتني سجائرها، وطلبت مني أن أحتفظ بها، وأن أعطيها سيجارة واحدة فقط بعد نهاية الفصل الأول، وأخرى بعد نهاية الثاني، وثالثة بعد نهاية العرض، وأكدت بإصرار على الالتزام بهذه المواعيد، وافقت ورحبت بالطبع، ولكني فوجئت بها بعد نهاية المشهد الأول تطلب مني سيجارة، فرفضت، فراحت تلح وترجو بإصرار مليء بالمشاعر الصادقة التي يصعب مقاومتها، فلم أستطع المقاومة وأعطيتها واحدة، فشكرتني وبدأت تدخن بسعادة، وتكرر الأمر في اليوم نفسه عدة مرات وفي غير المواعيد المتفق عليها، وفي اليوم التالي أخبرتني بأنني لا أصلح لهذه المهمة، لأنني أضعف أمام رجائها وإلحاحها، وأخبرتني أنها سوف تكلف صديقي علي خليفة بهذه المهمة، وكان يقوم بأحد الأدوار في المسرحية، وخليفة لمن لا يعرفه يتسم بالجدية التامة التي قد تصل لحد «الغلاسة» الشديدة، وحدث بعد المشهد الأول - ما حدث معي بالأمس – وطلبت محسنة سيجارة من خليفة وبالطبع رفض، فبدأت تلح وترجو بعواطف جياشة وهو كالصخرة لا يلين أبدا، فلما يئست منه قررت إبعاده عن هذه المهمة، وطلبت سجائرها منه، فلما رفض، كادت تجن غيظا منه، وأرسلت عامل البوفيه لشراء علبة سجائر أخرى، وفوجئت بها تعطيها لي، وتؤكد على اتفاقنا من جديد!
تابع: على المستوى الإنساني هي عاطفية جدا، وتستقبل كل من حولها بأحاسيس ومشاعر ودودة، وعلى المستوى الفكري فهي مثقفة جدا ولها مواقف فكرية ومبدئية. أما على المستوى الفني فحدث ولا حرج، ممثلة عظيمة من حيث الالتزام واحترام المهنة والموهبة، فقد كانت تحضر قبل العرض بساعة، ودائما كنا نتبادل الأحاديث والمناقشات التي لا تنتهي.


شيماء منصور - روفيدة خليفة