العدد 929 صدر بتاريخ 16يونيو2025
فى لحظة امتزجت فيها الدموع بالكلمات، اجتمع نخبة من النقاد والكتّاب لتوديع سيدة المسرح العربى، الفنانة الكبيرة سميحة أيوب، التى تركت بصمة لا تُمحى فى وجدان الفن والمسرح والثقافة العربية. لم يكن وداعها مجرد لحظة رحيل، بل محطة وقوف وتأمل أمام تاريخ طويل من العطاء الإبداعى، وذكرى حية لأيقونة حملت لواء المسرح والدراما لعقود. وفى مشهد مفعم بالمشاعر، عبّر المثقفون عن امتنانهم لدورها الريادى، مؤكدين أن حضورها سيبقى خالداً فى صفحات الفن وأرواح الأجيال القادمة.
ولدت الفنانة سميحة أيوب فى 8 مارس 1932 بحى شبرا العريق، ودرست فى معهد الفنون المسرحية عام 1947، وهى فى عمر الخامسة عشرة، تحت إشراف رائد المسرح المصرى زكى طليمات. سطع نجمها مبكرًا، وتمكنت بموهبتها الفطرية والتزامها الصارم بفنها أن تفرض حضورها على المسرح والسينما والتلفزيون لعقود متواصلة.
بلغت ذروة التألق على خشبة المسرح، حيث قدّمت أكثر من 170 عملًا مسرحيًا، من أبرزها: رابعة العدوية، سكة السلامة، ودائرة الطباشير القوقازية. لم تكن مجرد ممثلة، بل كانت قائدة مسرحية من طراز خاص؛ شغلت إدارة المسرح الحديث ثم المسرح القومى، وأسهمت فى تشكيل الوعى المسرحى لجيل كامل من الفنانين.
نالها لقب «سيدة المسرح العربي» عن جدارة، وقد أطلقه عليها الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد خلال تكريمها فى أحد المهرجانات، حيث منحها وسامًا سوريًا رفيعًا. كما كُرمت من قبل عدة رؤساء مصريين، أبرزهم جمال عبد الناصر وأنور السادات، وحصلت على وسام الاستحقاق الفرنسى بدرجة فارس.
وفى 3 يونيو 2025، ترجلت سميحة أيوب عن خشبة الحياة، ولكنها لم تغب عن ذاكرة الفن العربى. بقيت أعمالها، وصوتها، وتأثيرها الإنسانى والفنى شاهدًا على زمن لم يعرف التكرار.
وكان لمسرحنا أن ترصد تلك الأجواء من الحزن والتأثر لرحيلها، بين الكتاب والنقاد فى الوسط الفنى والمسرحى بوجه خاص وكانت تلك بعض كلماتهم عنها:
مؤسسة فنية متكاملة
قال دكتور محمد شيحة «أستاذ الدراما والنقد بالمعهد العالى للفنون المسرحية»:
سميحة أيوب، رحمها الله، كانت مؤسسة فنية متكاملة. عرفها الجميع ولقّبها الكثيرون بـ»غول المسرح المصرى والعربي»، لما تمتعت به من حضور طاغٍ وأداء تمثيلى متفرّد. جسّدت أدوارًا متنوعة بأسلوب لا يُنسى، سيظل محفوظًا فى ذاكرة وأرشيف المسرح المصرى لسنوات طويلة قادمة. من تابع مسيرتها منذ مسرحية سكة السلامة، التى شكّلت محطة شهيرة فى حياتها الفنية، وحتى المسرحية التى قدمتها أمام الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر أثناء زيارته لمصر، يدرك جيدًا حجم تأثيرها على الساحة المسرحية. ورغم أن أدوارها فى السينما لم ترقَ دومًا إلى مستوى إبداعها المسرحى، فإنها قدّمت كذلك عددًا من المسلسلات التليفزيونية المتميزة بجودتها العالية.
لكننى هنا أودّ أن أضيء على جانب أقل شهرة من سيرتها الثرية: سميحة أيوب المخرجة والإدارية. فقد كانت مديرة للمسرح القومى، وتولّت مناصب عدة خارج خشبة المسرح، من بينها عضويتها فى مجلس المعهد العالى للفنون المسرحية، وهو دور أدّته بجدية والتزام. شاركت فى عدة دورات من هذا المجلس، ولم تتغيب عن جلساته، وكنتُ شاهدًا على إسهاماتها الجادة خلال إحدى تلك الدورات، حيث تميزت بآرائها الناضجة وأسلوبها المنظم فى التفكير، ما جعلها عضواً فاعلًا لا شكليًا.
كما تولّت رئاسة تحرير مجلة «نادى المسرح القومي» لعدة أعداد، وهى مجلة كانت تصدر فى ظروف خاصة، لكنها حرصت على أن تترك فيها بصمة واضحة. ففى العدد الثالث، مثلًا (ص. 8)، كتبت ثلاثة موضوعات تحت عنوان «المسرح حياتي». أولها حوار إنسانى وفنى مع شاب فى بداية مشواره المسرحى، كان يتلمّس طريقه عبر توجيهها. والثانى خصصته للحديث عن الشاعر والمسرحى نجيب سرور، بمناسبة مرور عام على رحيله، مستعرضة علاقتها به وأثره الفنى. أما الثالث فكان عن الدكتور طه حسين ودعمه الكبير للمسرح القومى وإسهاماته فى تطوره.
لقد كانت سميحة أيوب أكثر من ممثلة، كانت كاتبة، مخرجة، مديرة، ومبدعة شاملة، تركت بصمتها على كل ما شاركت فيه، سواء على خشبة المسرح أو فى أروقة المؤسسات الثقافية والفنية.
سميحة أيوب وآخر أتوبيس للجنة!
وقال د. سيد على إسماعيل (أستاذ الأدب المسرحى بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة حلوان):
على الرغم من شهرة الفنانة القديرة «سميحة أيوب» فى مجال المسرح تمثيلاً وإدارة إلا أن مجال الإخراج المسرحى بالنسبة لها يكتنفه بعض الغموض!! فبعض الكتابات – غير الموثقة – تقول بأنها أخرجت خمس مسرحيات، وللأسف لم يذكر من كتب هذا أى توثيق لهذه المسرحيات!! وربما مسرحية «مقالب عطيات» - من إعداد سمير عبد الباقى - التى عُرضت قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973، هى الوحيدة التى وجدت لها توثيقاً وإعلانات منشورة تثبت أن سميحة أيوب قامت بإخراجها.
أقول هذا لأننى اكتشفت نصاً مسرحياً «مجهولا» بالنسبة لمؤلفه، وبالنسبة إلى مخرجه، اسمه «آخر أتوبيس للجنة»! هذا النص من 80 صفحة مكتوب بالآلة الكاتبة وغير منشور، ومكتوب عليه الآتي: فرقة المسرح الفكاهى تقدم مسرحية «آخر أتوبيس للجنة» كوميديا فى ثلاثة فصول، تأليف «أنور عبد الله»، إخراج «سميحة أيوب»! والنص نال تصريحاً رقابياً بالتمثيل فى فبراير 1976. ولو بحثنا عن أعمال «أنور عبد الله» لن نجد له أى عمل باسم «آخر أتوبيس للجنة» مما يعنى أن النص كنز أدبى مجهول لكاتب كبير، وقامت بإخراجه الفنانة القديرة سميحة أيوب!!
السؤال الآن: هل فعلا قامت سميحة أيوب بإخراج هذه المسرحية؟! الإجابة صعبة جداً حيث لا يوجد أى دليل على ذلك سوى النص الذى بين يدي! لكن.. من يقرأ سيرة الفنان «أبو بكر عزت» - فى موسوعة ويكبيديا بالإنترنت - سيجد أنه مثل فى هذه المسرحية عام 1976، وهو تاريخ التصريح بالتمثيل! وغير هذه المعلومة – غير الموثقة - لن نجد أى شيء عن هذا العمل المجهول! فهل مثل فى المسرحية أحد غير أبو بكر عزت يخبرنا عن هذا العمل، ويثبت لنا إخراج سميحة أيوب لهذه المسرحية؟ هل ستتطوع الفنانة «سماح أنور» بالبحث عن هذا العمل كونه أثراً مجهولا لوالدها؟!
ومسرحية «آخر أتوبيس للجنة» تدور حول المبدع المسكين «خميس» الذى لا يشعر بقيمته أحد ولا يقرأ له أحد ولا يجد له ناشراً، وكل من حوله يدفعه لتأليف الأغانى المبتذلة أو لسرقة إبداع الآخرين.. إلخ، فيصمم على الانتحار ويترك لصديقه خطاباً بذلك، فيستغل الصديق انتحار المبدع وينشر أخباره فى الصحف فتتهافت عليه دور النشر فيبيع إبداعه بمبالغ كبيرة، وبعد فترة يظهر المبدع لأن بعض المراكبية أنقذوه من الموت غرقاً فى النيل مع فتاة انتحرت فى التوقيت نفسه لأنها لا تريد أن تتزوج رغماً عنها، فظنوها زوجته، وللأسف بعد عودته إلى بيته أنكره كل من حوله وأنكروه حياً وعدوه ميتاً، لكنه صارع الجميع حتى أثبت حقه فى الحياة، وقرر أن يتزوج من الفتاة التى حاولت الانتحار، وتنتهى المسرحية بأغنية مطلعها: “أرقص وأضحك يا خميس واتهنى، وألحق آخر أتوبيس للجنة”.
رحيل العظماء يترك ندوبًا فى القلب
وشارك الكاتب والمخرج الاذاعى رضا سليمان قائلا:
رحيل العظماء يترك ندوبًا فى القلب بقدر عظمتهم وروعتهم، والحزن على سيدة المسرح العربى كبير بقدر روعتها. كنتُ أعرفها من قبل كما معرفتى بالنجوم عبر الدراما والمسرح، لكننى تعرفتُ عليها عن قرب حينما بدأنا العمل معًا فى الدراما الإذاعية، وقد استمر هذا التعاون منذ عام 2005 ولمدة خمسة عشر عامًا، حتى توقف إنتاج الدراما الإذاعية “أوراق البردي”، لكن لم يتوقف تواصلنا ولقاءاتنا.
وبالطبع، كانت البدايات تحمل من المهابة بقدر ما يُحاط بالنجمة الكبيرة. بدأتُ أتخذ كل الإجراءات التى يجب أن يتخذها كاتب ومخرج إذاعى فى بداية مشواره الفنى، حينما كتبتُ وثائقيًا عن الإسكندر الأكبر، “سيمى دراما”، وهذا اللون من الدراما يعتمد فى الأساس على الراوى والراوية، يروون الأحداث، وتتخللها مسامع درامية يجسدها عدد من الأبطال. كان اختيارى للفنانة سميحة أيوب لتقوم بدور الراوية، والفنان القدير جلال الشرقاوى ليقوم بدور الراوى، والنجم ياسر جلال ليجسد شخصية الإسكندر، والفنان فايق عزب فى دور والد الإسكندر مع عدد من نجوم الدراما الإذاعية فى أدوار مختلفة.
استقبلتُ مجموعة النجوم فى صالة البروفات بالإذاعة المصرية، وبدأنا نقرأ النص معًا قبل بدء التسجيل. وبعد عدة دقائق، وجدتُ الفنان جلال الشرقاوى يترك النص ويعتذر عن المشاركة لأن دور الراوى لا يناسبه. اندهشتُ وأنا أستمع إلى تلك الكلمات وغيرها من تعبيرات الرفض، وأتأمل فى الوقت نفسه سيدة المسرح العربى، فهل تتخذ موقفه أم ماذا؟ ولكنها ظلت تقرأ بحماس وتؤكد أن العمل متميز ويحمل معلومات مهمة ودراما مفيدة وممتعة للمتلقى، فكان لهذا التشجيع فى هذا الموقف الصعب أثره الكبير معى.
وبعدما غادرنا الفنان المعتذر، قمتُ بتعديل توزيع الأدوار ليحل محله الفنان “سمير البنا” صاحب الحنجرة الذهبية. ولمن لا يتذكر، سمير البنا هو الفنان الذى قام ببطولة المسلسل التليفزيونى رفاعة الطهطاوى. تم تسجيل العمل، وشدتَّ على يديَّ قبل مغادرتها الفنانة القديرة سميحة أيوب كنوع من التشجيع والاستمرار.
المواقف كثيرة والذكريات بيننا تحتاج لمساحة أكبر، لكنى سأذكر البدايات حينما بدأت فى التجهيزات اللازمة للبرنامج الذى أصبح من علامات الإذاعة المصرية، وهو البرنامج الدرامى “أوراق البردي”، الذى قدم بشكل مبسط ودرامى تاريخ مصر القديم على حلقات يومية استمرت لسنوات، لتتخطى حلقاته ثلاثة آلاف حلقة بكثير. وكانت البطولة للفنانة القديرة سميحة أيوب، ومعها كوكبة من النجوم منهم الفنان القدير محمود الحدينى والفنان أشرف عبدالغفور والفنان مدحت مرسى وغيرهم.
ومع هذه السنوات التى استمر فيها التعاون مع سيدة المسرح العربى، لم يتغير منحنى الشخصية ولو فى موقف واحد، فهى صاحبة الشخصية القوية والملامح التى تنم عن قوة وصلابة، وصاحبة قلب رقيق للغاية. تتأثر كثيرًا وتتابع فى اهتمام بالغ أدق التفاصيل، فهى مثلا إن علمت بمرض ولو بسيط أو موقف ما تعرضتُ له، تتصل بى بشكل مستمر لتتابع تطورات الموقف.
وبالرغم من كل ما يحيط بها من أعمال وارتباطات، فإنها يوم التسجيل تُبكر لتجهز وجبة غذاء لكل فريق العمل وتأتى بها إلى الاستوديو، لأنها لا تفضل لنا أن نطلب الطعام من الخارج، مع ابتسامتها المرحة وهى تقول “بالهنا والشفا يا ولاد”، إنها روح الأم الجميلة المستقرة بداخلها.
المواقف بيننا كثيرة للغاية خاصة بعدما زارتنى فى منزلى منذ سنوات واحتوت أطفالى بود ليس عليها بغريب. تلك الصفات التى تظهر فى تعاملنا الشخصى قد لا تبدو بداخل أعمالها الدرامية وفقًا للدور بالطبع، لكنها كانت سيدة حنون، صديقة، أخت، وأم. رحمها الله رحمة واسعة.
أعمالها الدرامية مدرسة
وقال دكتور عصام عبد العزيز «أستاذ الدراما والنقد بالمعهد العالى للفنون المسرحية»:
لا شك فى أن حيوية سميحة أيوب وحضورها الرائع على المسرح يرجع إلى أنها لم تكن تمثل بل كانت تؤدى الشخصية الدرامية التى تنبع من النص الدرامى، ومن خلال اللحظات الدرامية المتتابعة والمتغيرة، لقد كان لديها القدرة على اقناع المتلقى بأنها الشخصية الدرامية التى يتفاعل معها والتى تؤثر فيه بشكل عفوى دون صخب ومبالغة.
إن أعمالها الدرامية قد أصبحت مدرسة لكل من يرغب فى مشاهدة الأداء الحيوى، علما بأن هناك فرقا كبيرا بين التمثيل والأداء المنضبط للشخصية الدرامية.
لا نستطيع أن ننسى أدوارها المختلفة فى المسرحيات المختلفة، رحم الله الفنانة الكبيرة سيدة المسرح المصرى والعربى أيضا.
حالة فنية استثنائية ومتفردة
وقال دكتورة ياسمين فراج: «أستاذ الموسيقى والنقد الفنى بأكاديمية الفنون»:
وُلدت الفنانة الكبيرة سميحة أيوب عام 1930، وكانت من أوائل الخريجين فى معهد الفنون المسرحية، لتبدأ بعدها رحلة فنية استثنائية امتدت لأكثر من سبعة عقود، على مدار 70 عامًا، أثبتت سميحة أيوب أنها فنانة من طراز نادر، إذ استطاعت أن تحقق نجاحًا متوازنًا على عدة مستويات؛ لم تكن فقط ممثلة بارعة فى المسرح والتليفزيون والسينما، بل كانت أيضًا أمًا ناجحة، كونت أسرة وأنجبت أحفادًا، وهو أمر ليس سهلًا فى حياة الفنانين الذين غالبًا ما يواجهون تحديات فى التوفيق بين الحياة الفنية والشخصية.
لكن ما يميزها بشكل خاص، هو دورها الإدارى البارز فى المسرح، فقد تولت إدارة المسرح القومى لعدة سنوات، وتمكنت من قيادة هذه المؤسسة المهمة بكفاءة واقتدار، وهو ما يعكس شخصيتها القوية وقدرتها على العطاء المتجدد.
لم تكتفِ سميحة أيوب بالأدوار الكبيرة، بل كانت حريصة على التواجد والمشاركة، حتى وإن كانت مشاركتها بسيطة أو شرفية. أذكر ظهورها منذ عامين فى أحد مسلسلات رمضان، حيث أدّت دور متهمة فى السجن. رغم صعوبة الحركة فى ذلك الوقت، أصرت على أداء الدور بنفسها، دون استبدال أو استثناء، فى مشهد يعكس إصرارها واحترامها لفنها وجمهورها.
التقيتها فى عدة مناسبات مسرحية، منها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى، وكانت دائمًا حاضرة بروحها ودعمها للفنانين الشباب، لا تتأخر عن حضور أى نشاط مسرحى، وكأن المسرح كان بيتها الأول والأخير.
سميحة أيوب ليست مجرد فنانة، بل حالة فنية متفردة، ورمز من رموز المسرح العربى. ورغم غيابها الجسدى، فإن إرثها الإبداعى سيظل حيًا، فالفن الحقيقى لا يموت، بل يبقى نابضًا فى أعمال أصحابه.
فى الختام، أنعى ببالغ الحزن والأسى رحيل سيدة المسرح العربى، التى أعطت للفن عمرًا وحبًا وصدقًا. وداعًا سميحة أيوب، ستظل ذكراكِ خالدة فى ذاكرة المسرح والفن العربى.
سميحة أيوب.. أيقونة الفن الجميل
وشاركت الكاتبة والناقدة دكتورة وفاء كمال قائلة: سيدة المسرح العربى، أيقونة الفن الجميل، كيان استثنائى مدهش، عاشت معنى الشغف والكشف والتساؤلات والجموح، بصماتها الفريدة تبوح وتروى، هى صاحبة الوعى النارى والحضور العبقرى، بعثت لحظات فارقة فى تاريخ الابداع، غيرت المسارات وبحثت عن النجوم والأحلام، هى مثل النخيل، جذورها فى جسور مصر، فروعها فى هواها، عانقت شمسها وقمرها، فتحت آفاقا رحبة تليق بالكبار الذين قبضوا على جمرات الوعى، وامتلكوا جوهر الخبرة، التى تزلزل المفاهيم السائدة، وتسقط الحدود الفاصلة بين الأرض والسماء، عانقت المعرفة والابداع والفن والرونق والبهاء، كان عالمها رحبا، يموج ثراء وجمالا، وظل حضورها مدهشا متمردا، مسكونا بالنبض والروح والحياة، بالعقل والجموح والتساؤلات.
استطاعت سميحة أيوب أن تدير مع الحياة حوارها، اختارت لون بحارها، قررت من سيدخل جنتها، وقررت أيضا من سيدخل نارها، إبداعها يشبه رقصات الفالس على موسيقى الحياة، جاءت أعمالها الفنية رفيعة المستوى، تمثل قطعا نادرة من الوعى والجمال، التقت بالزعماء والرؤساء والمفكرين وكبار المؤلفين، الذين غيروا مسارات الوجود، فكان حضورها دائما مضيئا عارما جامحا ومتوهجا.
لقد تجاوزت سميحة أيوب حدود الجمال المألوف، لامست قلوب الجماهير، فى مصر والعالم العربى، وظل وجودها عناقا مع الضوء واليقين والحرية، وجدلا مع الفن والحقيقة والانسان.
سيدة الأداء المسرحى المصرى
وقال الكاتب والناقد المسرحى أحمد خميس الحكيم:
الحديث عن شخصية فنية بحجم الأستاذة سميحة أيوب يتطلب الرجوع لكثير من الدراسات التى تتناول فنون الأداء، إذ أن طبيعة الأدوار التى لعبتها تنوعت بين عدة مدارس تقليدية وطليعية، فلا يمكنك أن تتصورها كأحد رواد الواقعية بشتى أنواعها، ولا يمكنك أن تحكم عليها كأحد علامات التعبيرية أو الرومانسية أو حتى العبث والميلودراما، فتنوع أدوارها وتشابك شخصياتها جعلها تخرج من النموذج المعلب لرحابة الإلمام بشتى الطرق والأنواع، أيقنت مع بداية التزامها بحضور حصص كبار الفنانين المصريين فى معهد المسرح أن امتلاك ناصية الأداء لا يمكن أن يمر عبر الاهتمام بالصوت وحده أو الحركة وحدها أو الإيماءات وردود الفعل المحفزة للزملاء فقط، وإنما يتطلب تدريب شاق واهتمام فائق بكل تفاصيل الصناعة، وأن للتدريب المتنوع أهمية قصوى فى تشكيل وجود الممثل على خشبة المسرح وبيان مرونته وكفاءة أدواته بين زملائه وعند المتلقى، وقد ساعدها فى ذلك الأمر احتضان كثير من مخرجى الإذاعة والسينما لموهبتها الفذة فى وقت مبكر.
لم يثبت يوما أن سميحة أيوب سعت للتشبث بدور البطولة أو دور الفتاة المدللة، وإنما تفهمت المعنى الحقيقى للاحتراف، واستطاعت أن تحقق نجوميتها من خلال الأعمال ذات البطولة الجماعية مثل (كوبرى الناموس وسكة السلامة والسبنسة والسلطان الحائر)، وحتى حينما احتفى بها النقاد والصحفيين واهتم المخرجين الكبار بإسناد الأدوار الأولى لها فى أعمالهم الإبداعية وأصبحت تقدم دائما أدوار البطولة فى الأعمال المسرحية كبطولتها لمسرحية سارتر الشهيرة (المومس الفاضلة) من إخراج حمدى غيث، كانت دائما تحافظ على الوجود الحى داخل نسيج العمل لزملائها فى العرض المسرحى، إذ إن النجاح سوف يتحقق حين تتضافر جهود الفريق، وهو أمر تعلمته من فهم الأستاذ زكى طليمات لنفوس طلابه، فإن أعطى لإحداهن دور البطولة فى عمل ما، كان يحرص على أن تلعب دورا ثانويا فى العمل التالى، وحتى فى الأعمال التى قدمتها مع مخرجين ليس لهم تاريخ طويل فى العمل المسرحى كـ (محمد عمر) المخرج الموهوب، كانت متفهمة لأهمية العمل وتأثيره الجمالى، ففى مسرحية (الناس اللى فى الثالث) لعبت دور الأم التى تعانى تشتت الأسرة، ورسمت مع زملائها طبيعة خاصة وفهم عميق لطبيعة المجتمع فى ذلك الحين، والحقيقة أنها كممثلة كانت تتشكل حسب الفهم العام لطبيعة العمل، بحيث يمتزج أداؤها هى وفريق العمل، ويتبعوا منهجا واحدا لا يشذ منهم أحد، فعلى طريقة ستانسلافسكى حينما يتطلب العمل الإبداعى ذلك، وعلى طريقة برشت إذا كان العمل ملحميا، وعلى طريقة المسرح الشعبى الخشن إن كانت تقوم بدور تحيطه الأجواء الشعبية البسيطة، ويمكنها ببساطة وتلقائية أن تنوع فى طبيعة الأداء داخل نسيج العمل الواحد دون أن تربك فريق العمل آو تعرضهم لمشاهد لم يعتادوها وأداء لم ينسجموا معه من قبل.
لا أنسى دورها الآسر فى مسرحية (سكة السلامة)، حيث الممثلة الفاتنة التى تعيش بدايات النجومية والتى تجذب كل من تاهوا على الطريق، ويذكر التاريخ دورها المميز فى مسرحية ( يا سلام سلم الحيطة بتتكلم ) حيث مثلت دور المرأة صوت العدالة وضمير الشعب.. إنها ولادة فى (الوزير العاشق) لفاروق جويدة، وضاربة الودع فى مسرحيته الجميلة (الخديوي)، وصفية فى (دماء على أستار الكعبة)، كما أنها كانت (ست الملك) فى مسرحية سمير سرحان المسماة بنفس الاسم، و(الساحرة ) فى مسرحية يسرى الجندى المسماة بنفس الاسم، و(رابعة العدوية) فى مسرحيته المسماة بنفس الاسم، ونعمت فى رائعة يوسف السباعى (العمر لحظة)، كما لعبت الأدوار الرئيسية فى مسرحيات الدكتور فوزى فهمى (الفارس والأسيرة ) و(عودة الغائب) و(لعبة السلطان).. و(الفتى مهران ) لعبد الرحمن الشرقاوى، وهى المسرحية التى اعتبرتها سميحة أيوب مسرحية طليعية. ومن ثم فقد قدمت شخصيات لا تنسى فى تاريخ المسرح المصرى. وعلى المستوى العالمى يكفى أن نقول أنها قدمت (أنطونيو كليوباترا) لوليم شكسبير، و(أجاممنون) لاسخيلوس، و(أنتيجون) لسوفوكليس، و(البخيل) و(المتحذلقات) لموليير، و(الجلف) و(الخال فانيا) و(النورس )لأنطون تشيكوف، و(الذباب) و(المومس الفاضلة) لسارتر، و(فيدرا) لراسين، و(الإنسان الطيب) و(صعود وهبوط ماهاجونى) لبريخت. من كتابى سميحة أيوب وتنوع فنون الأداء..الصادر عن الهيئة العربية للمسرح.
حملت المسرح على كتفيها، وتقدّمت الصفوف
وقالت الكاتبة والناقدة رشا عبد المنعم:
حين يُذكر اسم سميحة أيوب، لا نستدعى مجرد فنانة قديرة أو ممثلة عبقرية، بل نستحضر سيدة حملت المسرح على كتفيها، وتقدّمت الصفوف حين تخاذل الكثيرون، أول مرة شاهدتها عن قرب كنت أمينة للجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، وبمجرد دخولها قاعة الاجتماعات وقف الجميع كما يقف التلاميذ للمعلم.
ولكن هل تتصورون أن هذا الجمع الذى هبا واقفا إجلالا لها كان من بينه ألفريد فرج وسعد أردش و كبار المسرحيين المصريين.
كانوا يقبلون يدها وفقا لإتيكيت استقبال الهوانم، وكانت هى هانم كما يجب أن تكون الهانم، ضحكة قوية، نبرة صوت واثقة من نفسها.. تحسب كلماتها ولا تنطق بكلمة فى غير مكانها...لم تتكلم أو تعلق أثناء الاجتماع إلا مرات قليلة، لكنها كانت فى كل مرة تشرع فى الكلام ينصت الجميع.
وداعًا سميحة أيوب.. وداعًا لمن جعلتنا نؤمن أن الفن التزام، وأن المرأة يمكنها أن تقود دون أن تثرثر أو تصدر أصوات عالية لكن جوفاء، فقط بعينيها وصمتها وصدقها.
موهبة وعطاء وتواضع لم ولن يتكرر
وبشهادتها عنها قالت الناقدة الفنية والمسرحية لمياء أنور :
لم يكن رحيل الفنانة سميحة أيوب نهاية لمشوارها الفنى ولم ينته عطاؤها بغيابها الجسدى عن عالمنا، فكم من الفنانين الذين غابوا وهم باقون بتراثهم وإرثهم الفنى، سميحة أيوب أيقونة المسرح، أنارت دروبها بفنها وموهبتها، فهى إلكترا، رابعة العدوية، فيدرا، سوسو، كليوباترا.. موهبة وعطاء وتواضع لم ولن يتكرر.
ففى سياق عملى على كتاب عن الفنانة الرائعة عايدة فهمى بالمهرجان القومى للمسرح المصرى فى دورته الخامسة عشر، كنت أجمع شهادات عن الفنانة عايدة فهمى ومن ضمن تلك الشهادات شهادة الفنانة القديرة سميحة أيوب، فلم تكن زيارتها بنزلها بحى الزمالك مجرد مقابلة مع ناقدة او كاتبة، فلقد استقبلتنى سميحة أيوب بابتسامتها الدافئة التى لطالما عهدناها، وفى عينيها بريق المحبة والكرم، كان منزلها يعج بالدفء والأناقة، يعكسان ذوقها الرفيع وشخصيتها المتميزة، مكتبة ضخمة، وكانت الصور والجوائز والأوسمة تزين الجدران، لتُذكّر بمسيرة فنية حافلة بالعطاء والإبداع، فجاءت المقابلة فى إطار الغوص فى بحر من الذكريات، وتنقلا عبر صفحات تاريخ الفن والمسرح المصرى بشكل عام، شخصية فنية مُلهمة، وكنت محظوظة بفرصة التحدث إليها، والاستماع إلى حكاياتها عن المسرح والفن وعن العزيزة عايدة فهمى.
فقد كانت سميحة أيوب أكثر من مجرد فنانة؛ لقد كانت صوتًا للمرأة المصرية والعربية، سعت جاهدةً إلى تمكينها من خلال فنها، دافعت عن حقوق المرأة، وتصدت للقضايا الاجتماعية، عبر أدوارها التى جسدت معاناتها وأحلامها، كانت تؤمن بأهمية الفن فى إحداث التغيير الاجتماعى، وكانت مثالا للمرأة القوية والمُستقلة.
وفى نهاية اللقاء، شعرت بالامتنان العميق لسميحة أيوب، ولفرصة الحديث إليها، لقد كانت زيارة لا تُنسى، تركت فى قلبى أثراً عميقاً، وزودتنى بالكثير من المعلومات والذكريات و لقد أدركت خلال هذه الزيارة أن الفن الحقيقى هو ما يترك أثراً فى القلوب، شكراً سميحة أيوب، على كرم ضيافتك، وعلى حكاياتك الثمينة التى ستظل محفورة فى ذاكرتى، رحمك الله يا من تركت بصمات لا تمحى فى عالم الفن والمسرح.
صاحبة أطول مسيرة فنية
وقال الكاتب المسرحى هانى قدرى: بوفاة سميحة أيوب يغلق الستار على صاحبة أطول مسيرة فنية ليس فى المسرح فقط لكن فى السينما والدراما التليفزيونية والإذاعية لكن تبقى أعمالها خالدة، وكذلك رسالتها القوية خاصة فى المسرح، فرغم تقدمها فى العمر، فإنها كانت حاضرة بقوة فى غالبية الفاعليات المسرحية؛ لتؤكد أن دورها فى خدمة المسرح العربى لم يتوقف عند مجرد أدوار بارزة أدتها، أو أعمالا مسرحية أخرجتها، أو حتى مناصب إدارية تقلدتها، بل دورها امتد لما هو أكثر من ذلك؛ لتصبح رمزا مسرحيا وأيقونة للأجيال القادمة لتؤكد أنها سيدة المسرح العربى بلا منازع.
تمتلك طاقة الشباب وفضوله
وقالت الناقدة منار خالد:
علاقتى بالفنانة القديرة سميحة أيوب، رحمها الله، قد تبدو للوهلة الأولى كعلاقة تقليدية بين مبدع ومتلقى. فأنا من جيل النقاد الشباب الذين لم يسعدهم الحظ بمشاهدتها على خشبة المسرح، لكن الحقيقة أن تلك العلاقة كانت أعمق من مجرد تلقى فنى.
كنت محظوظة برؤيتها على أرض الواقع، ليس فقط من خلال المسرحيات التى درستها فى النقد المسرحى، مثل «السبنسة» التى تركت فى نفسى أثرًا عميقًا، بل منذ سنوات بعيدة، حين كنت أشاهدها فى الأفلام والمسلسلات قبل حتى أن أفهم معنى المسرح.
اعتاد الجمهور أن يراها كسيدة قوية، وقورة، وسيدة المسرح بحق، وهذا ما لا ينتقص من حضورها شيئًا. ولكن فى رأيى، الفنانة سميحة أيوب كانت أكثر من ذلك بكثير. ففى فيلم أرض النفاق رأيتها سيدة جميلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفى أغلى من عينيه – مع النجمين عمر الحريرى وسميرة أحمد – لعبت دور خطيبته وكانت ساحرة الحضور، أنيقة، وجذابة، إلى جانب كونها فنانة مهيبة.
هذا التلون، وهذه القدرة على الأداء بأطياف مختلفة، جعلت علاقتى بها تبدأ قبل أن أدخل مجال المسرح من بابه النقدى. وعندما عرفته عن قرب، وتعمقت فى دورها فيه، ازددت يقينًا بعظمتها.
وحين بدأت العمل فى مجال المسرح، كنت أراها دومًا فى الفعاليات والعروض المختلفة. كانت حريصة على الحضور، لا ترفض دعوة أحد، ولا تُقيّم الدعوات بناءً على مكانتها الكبيرة، بل كانت تهتم بالتواصل، وبأن تكون جزءًا من المشهد. كانت تمتلك طاقة الشباب وفضوله، وهذا – فى نظرى – أحد أسرار عظمتها.
لم يكن دورى تقييم تجربتها المسرحية العظيمة، لكنها كانت حاضرة فى وجدانى دائمًا. وحدث ذات مرة أن قررت أن أحييها، رغم أننى لا أفعل ذلك مع النجوم عادة. فتوسط أحد الأصدقاء ليعرفنى بها، لكنها قاطعتهم قائلة ببساطة وعفوية: «كل اللى بتقولوه مش مهم، كفاية إنها جميلة، وأكيد شخصيتها جميلة زيها.»
بكلماتها البسيطة هذه، بدّدت كل رهبة كنت أشعر بها، وجعلتنى أتحدث معها بسهولة. تحدثنا عن المسرح، وقدمت لها نفسى، ووجدتها طيبة القلب، دافئة الحضور.
وكانت هناك لحظة مميزة أخرى تربطنى بها بطريقة غير مباشرة: عندما حصلت على جائزة المقال النقدى فى المهرجان القومى للمسرح المصرى، فى دورة حملت اسمها. كان شرفًا لى أن أحصل على هذه الجائزة، وزادنى شرفًا أن تكون مرتبطة باسمها وصورتها.
فى النهاية، وإن كانت علاقتى بالفنانة القديرة سميحة أيوب غير مباشرة، فهى تظل علاقة قائمة على الإعجاب الصادق، والتأثر العميق بفنها وشخصها.
رحمها الله رحمة واسعة، وأسكنها فسيح جناته.
كان لى نصيب كبير فى دعمها
وقال الكاتب والمؤلف أحمد سمير: كعادة كل أبناء جيلى وخاصة من ارتبط منهم بجوائز دعم شباب المبدعين الشباب، كان لحضور سيدة المسرح العربى الفنانة القديرة سميحة أيوب اثراً رائعاً على تتويجهم وتشجعيهم للاستمرار بحضورها الهام ودعمها الكبير لفاعليات ومهرجانات كثيرة من المعنية بحضور الشباب، وكان لى نصيب كبير فى دعمها حقيقة من خلال فوزى بمسابقة التأليف المسرحى بمهرجان شرم الشيخ الدولى للمسرح الشبابى عام 2019، والذى كانت ترأسه شرفيا، وتواجدت طيلة ايام المهرجان وفى كل ندواته ومؤتمراته الصحفية، وكان لتواجدها حقيقة أثراً بالغا فى نفسى.. فقد كانت تلك الجائزة هى الأولى لى فى مسيرتى حينها حيث بدأت الكتابة عام 2018 وكل علاقتى ومعرفتى بسيدة المسرح العربى كانت عبر الوسائط المصورة من أفلامها التى تذاع على التلفاز، شأنى شأن ملايين المشاهدين من جمهورها.. وحين علمت بوجودها وتسليمها لجائزتى يدا بيد كان هناك شعور لا يصدق.. مزيج بين أحلام الطفولة فى رؤية فنان أحبه وأشاهده من خلف شاشة زجاجية وبين واقع يقول إننى صرت مؤلفا يُكرم من مهرجان مسرحى كبير ترأسه سيدة المسرح العربى.. وزاد من هذا الشعور كلمات لها لم أنسها.. كلمات حملت تشجيع ومباركة ودعوة للاستمرار، وأن المسرح مستقبله فى شبابه فهكذا كانت ترى سيدة المسرح دور الشباب وأهميتهم فى الحراك المسرحى، وربما كانت كلماتها دافعا قويا لى. كى أكمل وأستمر.. وأن يكون لى شغف متواصل بالمسرح أملا فى أن أكون يوما من رواده أسوة بسيدة المسرح العربى.. سميحة أيوب.
تجربتها فى الإدارة المسرحية نموذجًا يُحتذى
وقالت الناقدة رنا عبدالقوي:
كانت دائمًا داعمة للشباب والموهوبين من نقاد وكتّاب، وتمتلك تقديرًا بالغًا لكل من يعمل فى الحقل المسرحى، مهما كانت طبيعة دوره. فقدّرت الكتّاب، والمخرجين، والممثلين، وكذلك صنّاع الديكور والأزياء والموسيقى، وكانت تحترم النقد وتؤمن بأهمية الكتابة النقدية ودورها الفاعل فى تطور الحركة المسرحية.
لن أتحدث عنها كممثلة، فمكانتها الفنية معروفة ومقدّرة على نطاق واسع، بل أود أن أسلّط الضوء على جانب آخر لا يقل أهمية فى شخصيتها، وهو كونها إدارية من الطراز الرفيع. لقد كانت نموذجًا نادرًا فى الإدارة، خاصة خلال فترة توليها إدارة المسرح القومى، حيث أثبتت كفاءة استثنائية ومسؤولية عالية.
إدارة المسرح القومى لا تقتصر على تنظيم العروض فقط، بل تشمل وضع استراتيجية إنتاجية، واختيار النصوص ذات التأثير المجتمعى، ومنح الفرص للمخرجين، وتقديم موضوعات وقضايا ملحة تستحق الطرح المسرحى. وقد نجحت خلال فترة إدارتها فى تحقيق هذه المهام بكفاءة واضحة، مما جعلها واحدة من أنجح من تولوا هذا المنصب.
رغم أننى لم أعاصر تلك الفترة، فإن صداها لا يزال حاضرًا حتى اليوم، من خلال النجاحات التى حققتها والعروض المميزة التى قُدمت خلالها. وهذا الجانب الإدارى فى شخصيتها يُعد أحد أهم ملامح تميزها، فهى جمعت بين العقلية الفنية والإدارية فى آنٍ واحد، وكان لذلك أثر بالغ فى تطور المسرح القومى والحركة المسرحية فى مصر عمومًا. لذا، فإن تجربتها فى الإدارة المسرحية تُعد نموذجًا يُحتذى وتستحق أن تدرس.