(المسرحُ أبو الفنون)، جملةٌ ذات حضور مباشر في الذهن عندما نتداول كلمة (مسرح)، المسرح عالمٌ إبداعيٌّ متحركٌ، يتمتع بخصائص فنية متعددة، يجمع بينهما على خشبة المسرح في صورة منظمة ومنسقة ومعبِّرة، يعرضها للمشاهد على هيئة مأدبة فنية؛ ليخلق من خلالها جوًا من المتعة.والمسرح بوصفه ظاهرة أدبية، ضم تحت طياته عناصر درامية مهمة ساعدته على الاختلاف والتفرُّد والتميُّز، أهمها: الفضاءات الدرامية المنظورة على خشبة المسرح وغير المنظورة-المتخيلة-، التي لعبت دورًا حيويًّا في قراءة النص المسرحي، فمن خلالها نستطيع أن ننتج قراءات عديدة من النص الواحد التي تتولد من قصدية المؤلف للنص، ومن المسكوت عنه الذي يظل غائبًا يمكن استحضاره من خلال البعد التخيلي، وعليه فإن مادة النص المسرحي تتشاكل بين الحضور المباشر الدال المتمثل في البنية المسرحية والغياب الذي يشكِّل غموضًا لدى المتلقي التي تتطلب منه قسطًا كبيرًا من العمق والتخيُّل.إذن الحضور في النص المسرحي يدور حول العلاقات الشكلية بين عناصر البنية المسرحية وهو عنصر ملموس ومرئي؛ بينما الغياب هو العلاقات الباطنة التي تنتج من استحضار دلالات الترميز والمعاني والإشارات الذي يظهر بوضوح مع فعل القراءة والتحاور مع النص.إن الناظر بعين الفاحص في أعمال كتَّاب المسرح يجد هذه الظاهرة (ثنائية الحضور والغياب) متأصلة ومتجذرة داخل أعمالهم المسرحية، وخير مثال على ذلك: أعمال الكاتب المسرحي يسري الجندي. يسري الجندي قيمة إبداعية كبيرة في أدبنا المسرحي الحديث والمعاصر، فهو كاتب متعدد المواهب، دؤوب في الإبداع والفن، له العديد من التجارب المسرحية المهمة التي أضفت على الكتابة المسرحية نوعًا من التميُّز والثراء المعرفي، هذا الكاتب عاصر أحداثًا سياسية وقومية خاصة بمجتمعه وأمته، منها: آثار كامب ديفيد ووهم التطبيع مع العدو الصهيوني ونكسة 67 والانتصار في 73 وغيرها من أحداث المجتمع المصري والعربي، كلُّها أحداث أثرت في الحركة المسرحية لدى كتَّاب المسرح في فترة الستينيات والسبعينيات وخصوصًا عند الكاتب يسري الجندي.ناقش الجندي قضايا مهمة تخص مجتمعه الصغير والكبير وظهر ذلك من خلال الحضور المهيمن للشخصيات والجمل الحوارية والأحداث والصراع واللغة داخل نصوصه المسرحية؛ ليبرز غيابًا يدور في فلك وطنيته وقوميته، فقد وقف من خلاله على الحياة الاجتماعية الخاصة بالمجتمع المصري وما آل إليه من تحولات فكرية وثقافية وتطلعات مستقبلية، ونلحظ ذلك عند الوقوف على بعض أعماله الدرامية، ففي مسرحية واقدساه: جاء الحضور متمثلًا في استدعائه لشخصيات تاريخية لها دور مهم في التاريخ سواء كانت بالإيجاب أم السلب، ومنها: صلاح الدين الأيوبي الذي استرجع القدس من أيدي الصليبيين، والعاضد آخر خلفاء الدولة الفاطمية في مصر، وشاور الذي سعى إلى الحكم والسلطة، وفي مقابل نجد شخصية ابن شاور (الشجاع) الذي يُشهَد لها بالوطنية والانتماء والذي سعى إلى تجميع شمل العرب للتخلص من العدو المستبد، وجاءت الأحداث التاريخية من منظور حقيقي تارة وفني تارة أخرى؛ ليدفع الصراع إلى الأمام، ويتولد الغياب -عبر الإسقاط الفني- ويكشف دور حكَّام العرب السلبي في التصدي لمغتصبي الأراضي المقدسة، وانشغالهم بالسلطة وبصراعاتهم الداخلية؛ وانحيازهم للمصلحة الشخصية عن مصلحة العامة.عَمِدَ الكاتب من خلال العلاقات الشكلية بين عناصر البنية الدرامية داخل النص على إظهار الأفعال الوحشية التي قام بها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني من حرق وقتل تحت أقنعة الدين؛ كما أن الكاتب اتخذ من حضورية شخصية صلاح الدين داخل النص؛ غيابًا يُدلي من خلاله بآرائه السياسية وتطلعاته الفكرية، مستفيدًا من رمزيتها ومبتعدًا بها عن مواجهة السلطة؛ فيقول:صلاح الدين: «والليلة تتعرى الأشياء الليلة تخرج من قمصان الوطن السوداء أقماراتمطر للأشجار ظلالاودروبًا آمنة للعشاقالليلة تتعرى الأشياءالليلة ابتدع الجسر الصعبواصعد نحويأفرط حزني وصب دمي في الأقداحالشاب والفتاة: صلاح الدينالرجل: البطل المخلص(1)اتسمت لغة الحوار بالحضور، وظهر ذلك في استدعاء «الجماعة الإصلاحية» ودورهم الجماعي في إنقاذ صلاح الدين من الحصار؛ ليظهر غيابًا دور شعب مصر الحيوي في تحرير القدس: الفتاة: جماعة الإصلاح .. أول صوت للعامة في تلك الفترةالرجل: وفيم كان الإصلاح يا آنسة؟ فالكل في هذا الزمان يزعم الإصلاح .. ولا إصلاحالفتاة: إصلاح حال العامة وفساد الحكم.(2)جاء حضور صوت (الرجل) بوصفه غيابًا يرمز لصوت (الكاتب)، يكشف عن رؤيته السياسية المضادة للسلطة الداخلية المتمثلة في الواقع الداخلي والسلطة الخارجية المتمثلة في الواقع الخارجي (الوطن العربي). وعلى كُلٍّ تشكَّل الحضور في هذا النص وأفرز صور فكرية داعمة للقضية القدس العربية من خلال حضور الشخصيات التاريخية وتأثيرها في الفعل الدرامي؛ كما تشكَّل الغياب قناعًا وظيفيًّا يعطي حرية في التعبير ومساحة في التعليق على الأحداث الغامضة في كتب التاريخ.فالحضور والغياب في أعمال الجندي لم ينحصرا في التراث التاريخي؛ بل تجاوزا ذلك وظهرا في التراث الشعبي، فعند الوقوف على مسرحية (الهلالية) نلحظ أن ثنائية الحضور والغياب متأصلة داخل النص، فالكاتب عَمِدَ إلى لعبة الأقنعة والرموز والدلالات السياقية، فأظهر رمزية (أبو زيد) بالحاكم العربي المتأصلة فيه النزعة الوطنية والقومية، وفي المقابل الآخر يظهر رمزية دياب ابن غانم وبدير وحسن، بالحكام العرب الذين تسيطر عليه جموح الأنا والانتماء الذاتي والولاء للمال والسلطة وانعدام الهوية القومية العربية. وهذا كلّه حضور من ناحية البنية؛ أثر على الفعل الدرامي وفي الصراع القائم بين الشخصيات؛ ليظهر غيابًا يعرض الكاتب من خلاله قضايا جوهرية مهمة تخص الواقع المعيش منها: الصراعات العربية من أجل السلطة، الرغبة في توحيد الأمة العربية.كما شكَّل حضور الشخصية اليهودية والفلسطينية في مسرح الجندي؛ غيابًا ذا أبعاد دلالية؛ لذلك ارتكز الكاتب في عرض القضية الفلسطينية على الحدث الواقعي تارة والحدث التخيُّلي تارة أخرى، يقول في مسرحية (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر؟) على لسان سرحان بشارة الفلسطيني: «في5 يونية سنة 1968 أطلقت أنا سرحان بشارة سرحان الفلسطيني رصاصتي على الأمريكي روبرت كيندي..»(3).تأسس الحضور هنا على الحدث الواقعي هو (إطلاق سرحان بشارة الفلسطيني رصاصته على الأمريكي روبرت كيندي) ومن خلال هذا الحضور انطلق الكاتب لغيابات عديدة، عرض من خلالها: معاناة الشعب الفلسطيني وصراعهم مع العدو الصهيوني وتراخي الدولة العربية تجاه القضية الفلسطينية- الادعاءات الكاذبة من قبل الصهاينة في إقامة دولة على أرض فلسطين، كما أثبت الغياب في نهاية النص المسرحي أن الصراع بين الشرق والغرب صراع أزلي، وظهر ذلك من خلال المفارقات الدرامية داخل النص المسرحي نفسه.وبعد:التجربة المسرحية عند الكاتب المسرحي يسري الجندي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثنائية الحضور والحضور المضاد على مستوى البنية الدرامية وعلى مستوى التخيُّل والقضايا المطروحة وهذا يرجع إلى غزارة الإنتاج الإبداعي لدى الكاتب وخصوصيته في التناول والطرح.رحم الله صديقي المحترم النبيل- يسري الجندي.الهوامش1 - مختارات من أعمال يسري الجندي، مسرحية واقدساه، مصدر سابق، ص 113.2 - المصدر السابق، واقدساه، ص132. 3 - مؤلفات يسري الجندي (1)، ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر، مصدر سابق، ص205.