الإشارات.. ما بين التسرع والإلباس

الإشارات.. ما بين التسرع والإلباس

العدد 609 صدر بتاريخ 29أبريل2019

الكثير من المخرجين حين يتصدون لإخراج نص مسرحي، وخصوصا إذا كان نصا مشهورا أو لكاتب أجنبي، فهم في الأغلب يبحثون عن بعض جمل أو كلمات من الممكن أن تتفق مع وجهة نظرهم أو مقولتهم المبتغاة مسبقا، أو على الأقل قابلة للتحوير أو على أضعف الإيمان يبحثون عن المتن الذي يمكن وضع بعض الكلمات داخل سياقه بحيث لا تبدو غريبة عن السياق بصرف النظر عن تواؤمها أو تنافرها مع المضمون العام. وتكون النتيجة إلباس النص ثوبا أضيق بكثير من ثوبه الأساسي، وربما غير مناسب له تماما، جريا وراء ادعاءات بالثورية وما يشابهها.
والحقيقة إن المعرفة ولو اليسيرة بالكاتب والظروف التي أدت لكتابة النص، ومجتمعه وقت الكتابة، لربما خرجت بالتفسير الإخراجي لرحاب أكبر، ولربما وجدوا أن مقولتهم المباشرة المبتغاة، موجودة بشكل أكثر عمقا في الثنايا وعليهم فقط إبرازها؛ لا وأدها بالمباشرة المقحمة أو التناول السطحي.
نص (طقوس الإشارات والتحولات) لسعد الله ونوس هو واحد من النصوص التي انتشرت بكثرة في مسرح الهواة المصري، التي يمر عليها المخرجون دون معرفة بظروف كتابتها، ودون معرفة بالكاتب وظروف تحولاته هو نفسه؛ ومن ثم كتاباته، خاصة بعد انهيار المعكسر الشرقي والنظر بعين الواقع للمجتمع، والبحث عن المشكلات والحلول التي تنبثق منه دون الحاجة لنموذج مستورد.
وقد قدمت هذا النص مؤخرا فرقة الفيوم القومية المسرحية في فعاليات المهرجان الحتامي لفرق الأقاليم بالهيئة العامة لقصور الثقافة، من إخراج سامح الحضري.
ولأن سامح الحضري كمخرج يتمتع بالموهبة والقدرة على التفسير والإدهاش، وهذا الحكم من خلال التجارب السابقة له، بدءا من محاولاتة الأولى في فرق نوادي المسرح، ثم لم يجعل الموهبة والتعلم الذاتي من خلال المشاهدات والمناقشات، هي مرجعيته الأولى، فذهب للدراسة الأكاديمية لهذا الفن المسرحي، لذا كنا نتوقع منه أكثر ما نتوقعه من غيره في هذا المجال، ولكنه يبدو قد انساق وراء التسرع بعد الاختيار، ثم أن تقديمه للعرض ينم على أن له مقولات معينة يود أن يقولها بصوت عال، ظنا منه بأن تلك المقولات التي تخرج بالعملية الفنية لإطار المباشرة؛ هي مؤشر الجودة والبطولة!
لم يلتفت الحضري إلى أن هذا النص الذي ينتمي للحقبة الثانية والأخيرة من مسيرة ونوس الكتابية، التي فيها لم يعد يهتم بالمقولات المباشرة أو إلقاء اللوم كله أو معظمه على المقهور أو الشعب الذي لا يرى جيدا، ولا يسير وراء المثقف/ الفنان/ الثائر... إلخ في معظم نصوص المرحلة الأولى.
وإنما انصبت اهتماماته على محاولة تعرية النموذج للشخصية العربية بكل أبعادها، سعيا لإصلاحها من الداخل، وقد يكون هناك بعض من محاكمات شخصية له أو للفيلق الذي كان ينتمي له سابقا؛ مع إشارات عميقة لمثالب الطبقة الحاكمة، ولكن ليس عن طريق الهتاف، بل بالتعرية والتحليل والكشف عن الأسباب، حتى لومه للمجتمع والمقهورين القانعين بالخنوع يأتي بالمناقشة لا الصراخ.
وهو كمعظم نصوصه يستقي مادته من الحوادث التاريخية أو الموروث الشعبي أو كتابات الآخرين، فقد اعتمد في هذا النص على حادثة تاريخية وقعت أيام الحكم العثماني للشام وقت ولاية راشد باشا، تلك الحادثة التي أوردها فخري البارودي في مذكراته. والجدير بالذكر أن البارودي كان بطلا من أبطال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي لسوريا.
تلك الواقعة التي أوردت أنه رغم الخلاف الشديد بين مفتي البلاد ونقيب الأشراف، أي أن المفتي تدخل لصالح النقيب، بعدما أمسك به مقدم الشرطة في وضع مخل بالآداب مع بائعة هوى.
ولكن في نص ونوس _ في عجالة _ يقوم المفتي بالتخلص من نقيب الأشراف ومقدم الشرطة معا، فتدخله لإنقاذ النقيب يمنحه القبول بين الأشراف والعامة، بتدبير أن تحل زوجة النقيب مكان بائعة الهوى في المحبس، وبذا يكون المقدم فد أخطأ بالقبض على زوج وزوجته، ولكن كان شرط قبول لهذا الأمر، أي أن تحل مكان بائعة الهوى، أن يعدها المفتي بنيل الطلاق.
ويدخل المقدم السجن، وتطلق الزوجة، وتتحول اسمها من (مؤمنة) لـ(الماسة) وتأخذ دروسا من بائعة الهوى لتصبح هي الأشهر والأكثر طلبا، ويجنح النقيب للزهد والتقرب لله وتنتابه رؤى يحاول تفسيرها وجعلها واقعا، وتنشر حالة من عدم الثبات بين العامة والخاصة، لدرجة أن المفتي يهيم بها ويطلبها للزواج ولكنها ترفض، ويحاول والدها الشيخ ردعها، فتواجهه بأنه كان السبب في جعل بائعة الهوى كذلك بعدما علمها أساليب الفسق والمجون حتى قبل أن تبلغ، حينما كانت تعمل خادمة في منزلهم، وبعدما يضج البعض من الحالة التي أشعلتها الماسة من لهو وعربدة، يصدر المفتي فتوى بإهدار دمها ومحاصرة كل أوجه الخلاعة، ويتحول الوالد لتقي، والوالي يصدر أمرا بعدم تنفيذ أمر المفتي ويعفيه من منصبه. أما الماسة بعدما أشاعت الفسق والفجور فإنها تقتل على يد أخيها صفوان.
هذه التحولات الرهيبة والمتلاحقة كانت لها أسبابها عند ونوس، أسباب تدخل في لحمة المجتمع وتكوينه،  محاولا التخلص من الحواجز الموضوعة بين المدنس والمقدس. وتتحول الماسة لامرأة قوية تعلن رغباتها وتسعى إليها وتنالها، رغم تعارضها مع كل القوانين والأعراف. باختصار هي تفضح كل ما كان مسكوتا عنه اجتماعيا، وتأخذه من مجال السر للعلانية.
وإذا كان الكثير من رجال الدين قد وقفوا ضد هذا النص، بل ونجحوا في إيقاف عرض له بالفعل في حلب سوريا 2011، فإن ونوس قد قال، ربما ليتقيهم: إنه لا يقصد شخصيات عامة أو مؤسسات، وإنما هي شخصيات تحمل أهواء بشرية قد تعصف بأي إنسان.
ولكن النص على العموم حتى وهو يحمل رسالة ونوس إلا أنه يناقش فساد السلطات الدينية المتعددة المتمثلة في المفتي والنقيب والشيخ.. إلخ. وفساد السلطة نفسها متمثلا في الوالي ومقدم الدرك. ولو كان قدم كما هو لقال كل ما صرخ به العرض على حساب البناء الأصلي.
ولكن عند الحضري كان التركيز على مقدم الدرك وقوله بأنه هو الحكومة مرارا! ثم بعد سجنه زاره النقيب في سجنه وباح له بالحقيقة، فخرج من السجن ليعود قويا ويؤدي وظيفته! ولا نعرف كيف، مع أن الوالي وأعوانه اتهموا الناطق بالحقيقة بالجنون وطردوه! ربما كان السبب ما ذكرته سابقا. وعند الحضري أيضا تكون النهاية بأن يتنازل المفتي عن كل شيء، بعدما أصدر فتواه الأخيرة ويذهب للماسة ويخبرها بأنه زهد في الدنيا وسيسير هائما، فتحدث حالة من التوحد بين المحب والمحبوب كما عند الصوفية، ولكن هنا بين الماسة والمفتي، فهو سيرحل منها إليها. وتنطق الماسة بأن يرحلا معا للوصول للحقيقة، وكأن ما كان من الماسة هو درب من دروب التوحد والتكشف والتجلي!
والغريب أن العرض قد اعتمد على راو استخدمه المخرج أكثر من مرة في بداية العرض ثم تناساه بعد ذلك، وتأكيدا على أن ما قلناه سابقا كان هو المسيطر، فإن المعادل المرئي للعرض الذي صممته/ شيماء عبد العزيز تمثل في بناء عال له سلالم من الجانبين يؤديان للمستوى الأعلى، وجعل من هذا البناء مقرا لكل الرموز الحاكمة، فهو منزل المفتي من الناحة اليمنى، ومنزل النقيب من اليسرى، وفي يسار الوسط منزل الوالي وكرسيه. تأكيدا على أن كل العلية/ السلطة تنتمي لمكان واحد! - مع أن النص اعتمد أساسا على الصراع بين أقطاب السلطة. ومع هذا التعامل، فإن الحركة المسرحية لم تبين استحواذ المنتصر في مرحلة ما على مكان الآخر.
حتى إن سلمنا بهذا، فإن اللون الأبيض الذي اعتمدته شيماء لم يكن رامزا للطهر والفضيلة، بل في اعتقادي أنها اعتمدت هذا الأبيض لقدرته على التلون/ من خلال الإضاءات المختلفة التي تسقط على كل بقعة على حدة وتميزها عن غيرها من جهة، ومن جهة أخرى لتلوين كل البناء طبقا للحالة خاصة في المناطق التمثيلية التي تدور خارجه، ولكن في الوقت نفسه فإن البناء يكون أمامنا يحاول أن يكون موحيا بلونه عليها، ولكن شيوع الأبيض وعدم قدرة الإضاءة على التحديد، ربما جاء لعدم التعامل الجيد مع المنابع الإضائية خصوصا أنه يوم عرض واحد.
ولا يأتي أحد ليقول إن هذا البناء يرمز للبيت الأبيض، وقد يكون هذا مقبولا اتساقا مع الأسباب التي ذكرناها قبلا، ولكن لو كان هذا فعلا، لكان الحضري جعل الملابس والإكسسوارات عصرية على الأقل.
صحيح أن العرض قد يكون قد واجه بعض المشكلات في ليلته الوحيدة على مسرح طنطا، قد يكون أبرزها التعامل مع الإضاءة التي قد تكون أخرجت الديكور عن وظيفته، وعدم البحث عن مكان جيد للرواة ووضعهم بمكان لا يسمح بالرؤية من قبل الجميع.
ولكن أكثر ما في الأمر من وجهة نظري هو التسرع في التفعيل بعد الاختيار، ومحاولة إلباس النص رؤية وتعبيرا محددا سلفا.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏