العدد 608 صدر بتاريخ 22أبريل2019
شهدت بديات القرن العشرين مرحلة جديدة في تطور المسرح الإنجليزي وظهور كوكبة من الكتاب المسرحيين الكبار منهم برنارد شو، وت. س. إليوت، وغيرهم ممن غيرت رؤاهم شكل الدراما الإنجليزية وموضوعاتها التي بدأت في طرح قضايا تمس طبيعة الإنسان المعاصر، وعلى هذا النهج كان جرانفيل باركر المنتج والمخرج والكاتب الإنجليزي الذي حاول رصد سيطرة رأس المال ونفوذه وتغير قيم المجتمع الإنجليزي بدخول رأس المال الأمريكي وقيمه في نصه المسرحي “بيت مدراس”.. هذا النص ترجمه د. سيد الامام الذي أعده أيضا تحت اسم (النهارده × امبارح) وأخرجه أحمد عبد الجليل لفرقة المنصورة القومية المسرحية في محاولة من المعد والمخرج لطرح قضايا آنية تشتبك مع اللحظة المجتمعية الراهنة، ويتضح هذا من الدلالة اللفظية للاسم الجديد المختار للعمل الذي يحيل إلى هذا الطرح.
هنا تكمن الإشكالية الأهم في هذا العمل الذي عالجه المعد ببناء درامي يرتكز على محورين أساسيين: أولهما الإطار الذي قدم من خلاله العمل وهو تلك الجوقة المسرحية التي تلعب دور الراوي والمفسر والشارح للعمل، والتي تحاول كسر جدار الزمن للدخول للحكاية الأم ولعب بعض أدوار من بها من خلال أفراد تلك الجوقة، بل والعودة ببطل الرواية قسطنطين (محمد البحيري) إلى الزمن الآني، هذا الإطار يعتمد على التواصل مع المتلقي بشكل بريختي وهدم الحاجز الزمني بين زمن الأحداث في أوائل القرن الماضي واللحظة الراهنة. أما المحور الثاني فهو الحكاية التي داخل هذا الإطار ويستخدم فيها الشكل الواقعي والتطور الكلاسيكي للحدث من بداية ووسط ونهاية دون محاولة من المعد لتداخل المحورين في نسيج واحد رغم أن هذا موجود على مستوى الزمني الذي تداخل أكثر من مرة خلال العرض، أما على مستوى الشخوص فلم يحدث هذا على الرغم من دخول الراوي الأساسي إلى الأحداث بشخصية السكرتير (بيلهافن/ هاني لاشين) ولكن مع عدم حدوث أي رد فعل من الشخوص الأخرى داخل الحكاية تجاه هذا الاقتحام للدلالة على كسر حالة الواقعية والتماهي مع حالة التمسرح التي يتعامل بها مع المحور الإطار.
بالإضافة إلى أن هذا البناء الواقعي للحكاية افتقد إلى تكثيف الأحداث واستغرق في تفاصيل أثرت كثيرا ليس على الإيقاع العام للعرض وفقط، بل وعلى فكرة العمل الأساسية التي تشتتت وتوارت نتيجة الاستغراق في التفاصيل التي طرحت قضايا وإشكاليات أخرى، فنجد أن الفكرة الأساسية للعمل هي محاولة كشف الآثار المترتبة على طغيان رأس المال وما تحدثه من تغيرات مادية تطيح بالقيم المجتمعية الراسخة داخل المجتمع الإنجليزي ومتداد آثارها على المستعمرات الإنجليزية بالشرق، إلا أن المعد أضاف لها قضاية آنية كتسييس الدين واتخاذه ستارا لخداع العامة لتنفيذ أطماع شخصية وسياسية إلا أنه لم يكتفِ بتلك الجزئية وجعلها الخط الدرامي الرئيسي في العمل، بل جاءت قضايا أخرى موازية مثل الكثير من القضايا النسوية مثل حقوق المرأة وتهميشها والعنوسة والتعامل معها كمصدر للمتعة بعيدا عن إنسانيتها، وقضايا أخرى كالدفاع عن الفقراء والمهمشين والتي جاءت على لسان ابن قسطنطين (فيلب/ أحمد العموشي)، كل تلك الأطروحات تشابكت إلى حد تشتيت المتلقي وضياع رسالة العمل التي حاول صناع العمل توصيلها للمتلقي.. هذا التشتيت على مستوى البناء الدرامي المنقسم على ذاته دون رابط منطقي وكذا المضمون الفكري أضعف كثيرا القيمة الفنية للعمل.
أما على مستوى الرؤية الإخراجية للمخرج أحمد عبد الجليل، فنجد أن كل الإشكاليات الخاصة برؤيته جاءت في مجملها ترديد لإشكاليات النص، فعلى مستوى الديكور جاءت الرؤية التشكيلية للمصمم الديكور (محمد جمعة) قائمة على منظر مسرحي واحد لإطار خشبي خارجي يشبه الشكل الأرابسكي، لكنه مجرد يتبعه ترديد لهذا الإطار مرتين بعمق المسرح بشكل متدرج ليعمل عمقا يعلق على الأخير بعض الأزياء دلالة على مصنع الأزياء المملوك لقسطنطين بإنجلترا، أما بقية مساحة المسرح فهي خالية، واكتفى بتغيير قطع الأساس من مقاعد صالون ومكتب صغير للإشارة إلى تغيير المكان.. إلا أن هذا الإطار التشكيلي المجرد الذي يعبر عن فكرة الزمن والإحالة إلى الشرق وثباته، ورغم دلالاته على تشابه الأحداث وتداخل الأزمان، فإنه جاء مع طول زمن العرض شكلا ثابتا رتيبا لا يتماشى مع الأحداث الواقعية وكثرة تفاصيلها التي تدور في المحور الدرامي الثاني من البناء الدرامي، فجاء غريبا محدثا فجوة بصرية بينه والحدث الدرامي المعروض على خشبة المسرح فأحدث نوعا من عدم التجانس بين ما يقدم وبين التشكيل البصري الذي يحتوي اللحظة الدرامية.
أما على مستوى الحركة والتشكيل، فجاءت كلها فقيرة حركيا بما فيها تلك المشاهد الخاصة بالجوقة التي احتوت على أكثر من خمسة عشر مؤديا، فمعظم تلك المشاهد اصطف فيها المؤدون على مقدمة المسرح في مواجهة الجمهور، ويصبح المنظر على المستوى التشكيلي والحركي فاقدا للدلالة وللثراء البصري الذي له ركن رئيسي ومهم في إضافة المتعة للمتلقي.
الأغاني والألحان وإن جاءت راقية في معانيها وجملها الموسيقية ولكنها لم يكن لها التوظيف الدرامي الذي يجعلها مطورة للحدث، ولكنها جاءت كأحد الزخارف، ورغم المتعة المضافة التي صنعتها فإنها كانت أحد العوامل التي أشعرت المتلقي ببطء الإيقاع العام للعمل.
أما العنصر الأهم فقد كان الأداء التمثيلي الجماعي الذي سيطر عليه المخرج واستطاع صنع تناغم بين كل عناصر الفريق بمختلف خبراتهم (القدامى والجدد) ليبرز أكثر من ممثل بأداء واعٍ بطبيعة الشخصية وطبيعة التجربة ككل مثل الفنان أسامة إبراهيم الذي أدى شخصية صديق فيليب دون افتعال مجسدا للحظات الحرجة في حياة تلك الشخصية ببساطة وعمق، فقد جاء مشهد رفضه لخيانة صديقه دالا على وعيه وفهمه وخبرته في التعبير عن اللحظة الدرامية وسيطرته على أدواته كممثل.. أيضا تميزت ياسمين سعد في أداء شخصيتي (إيما – ماريون) ونجحت في إحداث الفارق بين تفاصيل الشخصيتين.. تميز أيضا ياسر موافي في أداء شخصية هنري في أداء متوازن هادئ رغم طول سنوات غيابة عن اللعبة المسرحية، وعودته مكسب حقيقي لفرقة المنصورة القومية.
في النهاية، نحن أمام عرض مسرحي ينبئ عن مجهود ضخم لكل فريق العمل، ومغامرة في الطرح تحسب لصانعيه رغم كل الإشكاليات التي واجهتها، ومخرج استطاع بخبراته الطويلة تقديم عمل مثير للجدل، إلا أن الإشكالية التي قوضت جهود أفراد العمل هي عدم القدرة على تكثيف اللحظة الدرامية التي أدت إلى الفشل في إنتاج معادلة تحتوي على وحدة المنهج الذي يساعد في توصيل رسالة العمل غير منقوصة ودون تشتيت للمتلقي على مختلف ثقافته وميوله.