فلسفة البتر في مونودراما «رأس خارج على القانون»

فلسفة البتر في مونودراما «رأس خارج على القانون»

العدد 846 صدر بتاريخ 13نوفمبر2023

مونودراما «رأس خارج على القانون» يقوم فيها الكاتب المسرحي العراقي عبد الرزاق الربيعي بتوظيف السياسة في قالب مسرحي تاريخي حداثي في زمن يدرك النقاد الاستراتيجيات السياسية المعقدة التي تترجم إلى المسرح. تفتح المونودراما المجال أمام الخيال لاستنباط زوايا حرجة في الحقب التاريخية وصولا للتاريخ السياسي الحديث في العراق في عمل درامي فارق ومكثف، يتدفق فيها التاريخ بكل حمولاته السياسية والأيديولوجية فيتعانق مع الواقع الممزق والمتأزم والمرتبك، كما تلقي الضوء على أزمة المواطن العربي في عصور تتأججت فيه الفتن والقلاقل وأزمة الإنسان المفكر والذي يحاول أن يغير العالم من خلال فهمه وتجاربه لكنه لا يجد سوى التنكيل والقمع. تتناول المسرحية الرأس بصفته العضو الذي يحمل الذاكرة والخيال ومن ثم القرار.
 في كتابه “الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها” يقول حسين مؤنس: يرى فريدريك انجلز أن الأيديولوجيا عملية ذهنية يقوم بها المفكر وهو واعٍ، بينما يستخدم مانهايم مصطلح الأيديولوجيا بوصفها عبارة عن مجموع التصورات التي تعتنقها الطبقة أو الحقبة أو الجماعة وترتبط بتفكيرها لتتخذها عنصرًا تبريريًا لموقفها في البناء الإجتماعي. في مونودراما “رأس خارج على القانون” أدرك صانعو التاريخ أن ذلك الرأس سوف يعترض ويرسل إشاراته للجسد بعمل مغاير ولذا صارت عملية قطع الرؤوس بمثابة البتر عن الجذر والانفراد بالقرار وإرساء الأيديولوجيات المعينة بهدف البناء الاجتماعي. 
تبدأ المسرحية بالشخصية المونودرامية وهي امرأة تنتظر رجلا تأخر طويلا (صحفي) ويستبد بها القلق لدرجة أنها تقوم بالاتصال به في مقر جريدته لكنها لم تتلق جوابًا شافيًا حول مكانه، وفي خضم الانتظار تتداعى أمامها صور وخيالات وانفعلات حول المكان الذي تتواجد فيه، مدينة الرصافة بالكرخ في العراق والذي وضح مكانه استاذ الرسم من خلال استعراضه لموقع البيت في المجرة وفي كوكب الأرض وفي قارة اسيا وصولا الى العراق. تلجأ المرأة للضحك بصفته الوسيلة التي يُشفى منها المرء من امراضه الاجتماعية التي تسببها السياسة. 
“ عندما ينحدر كل شيء إلى قعر الهاوية لا يملك الإنسان إلا أن يضحك.”
يعرِّف الفيلسوف كانت، التنوير، بمفهوه الغربي، بأنه: مقدرة المرء على استعمال عقله، وطرح جميع أنواع الوصايا التي ورط نفسه فيها مع مرور الزمن لا سيما الوصاية الدينية، دون أن يدفعه كل ذلك إلى التعصب ونبذ الآخر. تحكي شخصية المرأة في مسرحية “رأس خارج على القانون” باستطراد عن رجل يفكر في تغيير العالم ثم تحكي عن أحد الممالك التي تفرض ضرائب على مواطنيها لكن كان رد فعلهم التظاهر فأمر بزيادة الضرائب ولكن حينما بدأوا يضحكون انتابه الخوف. تتطرق المونودراما إلى الوصايا الدينية والتنكيل بالآخر كما سنرى في القراءة.
“لا تنتظروا من امرأة وحيدة معزولة تنتظر رجلا مخلصا حكاية مضحكة”
في كتابه “Awareness, The perils and Opportunities of Reality” يقول انتوني دي ميلو في فصل الخوف، جذور العنف: الجهل والخوف، الجهل يسببه الخوف، ومنهما ينبثق الشر والذي يتفجر منه العنف. الشخص السلمي حقا، الذي لا يعرف العنف، هو الشخص الذي لا يخاف. تتناول مسرحية “رأس خارج على القانون” زاوية أخرى؛ العنف والقسوة وهي: الحجاج وحكايته مع سعيد بن جبير الذي تجادل معه فأمر الأول بقطع رأس الثاني الذي راح يضحك ويؤرق موته وضحكه الحجاج حتى مات. لكن المرأة من خلال الحجاج تدخل إلى عوالم رحبة تؤكد فيها أن كل عصر ينجب حجاج آخر، أو ثنائيات البشرية التقليدية: 
“ لكن ظلت الأرض تنجب حجاجا في كل عصر، وتنجب ابن جبير، قابيل وهابيل، جلاد وضحية، الجلاد يلوي عنق الضحية والضحية تضحك.
في كتابه “النقطة المتحولة، أربعون عاما في استكشاف المسرح” يقول بيتر بروك: إن المسرح مثل الحياة يقوم على صراع لا يهدأ بين الانطباعات والاحكام، تعايش مؤلم بين الوهم وانتفاء الوهم لا يمكن فصل أحد جانبيه عن الآخر. يتضح من حوار المرأة تنامي الحدث الدرامي الذي يقع ما بين الواقع والوهم أو المزج بينهما، فتتطرق فيها الشخصية المونودرامية إلى موضوعات مختلفة تتفجر من خلالها قضايا تاريخية وثيقة الصلة بالتاريخ الحديث للعراق، لم تكن تلك الاستدعاءات مجرد سرد تاريخي محض ولكنها جاءت لتبني الدراما. جاءت لتدلل على أهمية الضحك من خلال اقتباس لنيتشه الذي يؤكد على أهمية الضحك: 
“ونيتشه يقول:” لقد أتيت بشريعة الضحك، فيا أيها الإنسان الأعلى تعلم كيف تضحك “
الدكتورة سامية أسعد تعرّف المسرح السياسي بأنه مسرح ذو مضمون سياسي يستهدف تعليم جمهور شعبي عريض، له صبغة سياسية معينة. يتطرق الربيعي إلى السياسة التي تسببت في قطع الرؤوس عبر التاريخ من أجل هدف محدد يسعى إليه سوف تتضح ملامحه في نهاية القراءة. تستدعي الشخصية الرئيسية في المونودراما الحرب ولا تتحدث عنها ولكن ترمز إليها: 
“ منذ أن تسللت الحرارة إلى الخطوط بعد الحرب والهواتف ترن من تلقاء ذاتها.”
تتضح بعد ذلك الأزمة النفسية التي تعيشها تلك المرأة بعد أن فرضت على نفسها العزلة وأصبح الهاتف هو الوسيلة الوحيدة التي تتواصل من خلالها مع العالم. تتطرق إلى موضوع بداية علاقتها مع ذلك الرجل وكيف كان يدللها ويلقبها بالملكة، وحينما لعبت معه الشطرنج تجلت الرمزية وتتطرق إلى سقوط القلاع والرؤوس كما تتطرق إلى القضية التي سوف تفندها لاحقا. ينتابها الخوف إثر استدعاءات مختلفة من خلال مسألة قطع الرؤوس، وتعود للتاريخ من جديد إذ تتناول قطع رأس الحسين في كربلاء ومن ثم قطع رأس عبيد الله بن زياد، قاتله، ويتجسد أمامها التاريخ الدموي من قطع الرؤوس الذي تخللته نوبات الضحك.
تعود الأبعاد السياسية في تاريخ المسرح العالمي إلى زمن التراجيديات التي تتحدث عن الأنظمة الحاكمة والحروب والقرارات المصيرية، وصولا إلى مسرحيات شكسبير وموليير وراسين أو سترندبرج أو بيكت والتي كانت عبارة عن مسرحيات سياسية غير مباشرة، والتي عادة ما تغلب عليها الرؤية الوجودية أو التاريخية أو الإنسانية. تتخذ مونودراما “رأس خارج على القانون” أبعادا سياسية حينما تذكر الشخصية الرئيسية حوارا بين عبد الملك بن مروان وعبد الملك بن عمير اللذين يتحدثان عن مسألة قطع رؤوس المتكررة في عصر الأول، ويصفه أحد الجالسين بأنه مهرجان الرؤوس وصولا إلى قطع رأس مسلم بن عقيل، ثم تتطرق إلى الطقوس الحسينية. ومن قلب التاريخ تلامس الواقع المرير في حقبة صدام حسين (دون أن يذكره) إذ صار الناس يخافون على أنفسهم إذ صاروا يمشون في الشوارع بدون رؤوسهم فيسئلون عنها، إذ يصبح من بلا رأس مرتكب جريمة ويتم التحقيق معهم:
“ المحقق: أنت متهم بالضحك بلا سبب، وبإخفاء وجهك عن العدالة” 
إن مفهوم المسرحية السياسية عند الدكتور عبد العزيز حموده هو استخدام خشبة المسرح لتصوير جوانب مشكلة ما من خلال تقديم وجهة نظر سياسية محددة بغية التأثير في الجمهور كما حدث في العصر الإليزابيثي. يقوم الربيعي تصوير جوانب العنف والقسوة في بتر الرؤوس بشكل عام ثم يتطرق إلى فلسفة البتر عند الجلادين أو متخذي القرار فتذكر الشخصية على لسان الجلاد:
“ الجلاد: إن المتهم يخفي سرا خطيرا بضحكه هذا، خصوصا انه بلا رأس ولا وجه، والوجه مهم جدا في دولتنا.”
تتسق رؤية الربيعي في المونودراما مع رواية “فهرنهايت 451” للقاص الأمريكي برادبري التي قالت عنها مجلة “نيويورك تايمز” الشهيرة أنها: “تحمل مضامين مرعبة، إنه مبهر حقًّا ذلك العالم المجنون الذي رسمه “برادبري”، والذي يدق أجراس الخطر لكونه يحمل ملامح كثيرة من عالمنا”. كما تتسق مع رؤية جورج أورويل “1984” الذي استخدم عبارة “الأخ الأكبر” لكن الربيعي استخدم عبارة “المواطن الأكبر”
“ فأين يصفعه الشرطي؟ وكيف ينتزع منه اعترافاته، وكيف سيعترف وهو بلا لسان؟ واللسان ضروري أيضا في دولتنا من أجل أن يعترف على الذين ينتشرون في كل مكان في دولتنا ويقلقون راحة المواطن الأكبر.”
يُعرف المسرح السياسي العالمي، ببسكاتور الذي فسر فلسفة المسرح السياسي، بأن يكون الفن معملًا وتربية أخلاقية ووسيلة من الوسائل التعليمية. ويسعى هذا المسرح إلى إبراز الإنسان السياسي الثوري، حيث أن مثل هذا الإنسان جدير بالصعود على خشبة المسارح لإظهار أبعاد التاريخ، وإظهار موقف الإنسان في مواجهة المجتمعات الظالمة، وإظهار قدر الشعب كمجموع، قبل قدر الإنسان كفرد، بل والتعرض إلى قدر العصر نفسه. يتطرق الربيعي إلى أبعاد مسألة الرأس الأخرى وموقف المواطن في هذا المجتمع ويشير إلى ما أن ما يحدث في تلك الحقبة العكس إذ يصبح من بلا رأس هو المدان، في ترميز إلى عملية غسيل المخ التي تجرى للمعارضين: 
“الشرطي: تركيب رأس له جديد يليق بدولة المواطن الأكبر، وهو جاهز للعملية الجراحية واثقا من براعة أطبائنا.”
“ الشرطي: نعم فلو لم يكن يصغي إلى الأفكار المعادية لدولة المواطن الأكبر لما نسي أن يدهن رأسه بالأحلام الجميلة، فصار لقمة سائغة للكوابيس وبالنتيجة سقط رأسه في بئر احدها!!”
يقول السيوطي: “عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله؛ إنه مادة لغوية ترتبط بموضوعها الكلي  الذي تعنونه، وتعمل على تلخيص المقاصد الكبرى والرئيسية منه. يدق العنوان “العبة الأولى” لنص “رأس خارج على القانون” ناقوس الخطر محذرًا من مسألة عودة مسألة قطع الرؤوس في قالب جديد، إن العنوان شديد الالتحام بالنص نظرًا لما يعطيه من معرفة وفهم مدلولات النص، ويرمز إلى امتهان العقل وعدم تفويت الفرصة من أجل وقف مسألة الفكر ومن ثم المشاركة في اتخاذ القرار. ومن الناحية التركيبية  يُعرب رأس مبتدأ مرفوع وخارج خبر مرفوع وعلى القانون جار ومجرور. هناك نوع من الغموض يكتنف تلك العلاقة الدينامية بين العنوان والمتن وهو ما يحفز المتلقي إلى الولوج إلى المتن لسبر أغواره، بالإضافة إلى أن تلك العلاقة تؤثر بشكل مباشر في ذهنية المتلقي وتجذبه وتستهويه لمتابعة عملية القراءة وتجعله في تفاعل دائم مع النص، كما توجهه نحو عوالم درامية تنتظر أن يعاين أسراراها.
“ المحقق: ومن أين نأتي بالرأس المؤقت؟
الجلاد: من بئر أحد الكوابيس، فتشوها حتما ستجدون واحدا منها.”
“ الجلاد : نبقر بطنه  
المحقق: وماذا لو مات؟
الجلاد: نكون قد تخلصنا من أحد المعادين. 
جاءت اللغة في المونودراما تفاعلية ومعبرة ودالة ومناسبة للحوارات الخاصة بكل شخصية متخيلة؛ وتم مزج الحوار أو السرد مع الحوار والسرد التاريخي مما جعلها تساهم في التطور الدرامي بشكل كبير، وساهمت في تشييد البناء الدرامي بشكل عام. 
“هو: أشعر بخفة في رأسي.
المحقق: نعم، فلقد عوضناك عن ذلك الرأس الذي  كان مملوءا بالأفكار السوداء.”
إن سمة التحول وعدم الثبات في الشخصية المونودرامية تعتبر ميزة تساهم في تنشيط التحول الذاتي الدلالي وإخصابه داخل المسرحية وذلك من خلال مراعاة البعد الاجتماعي والفكري أو بالأدق البعد الأنثربولوجي وهو ما جعلها تساهم في نمو الحدث بشكل كبير، كما ظهر فيها البعد النفسي الذي ظهر من خلال الارتباك وتجسيد الشخصيات التاريخية والترميز الذي لم يتوقف طول النص، مما جعل الرؤية الدرامية تتضح شيئا فشيئا.
“هو: وكيف سيتعرف علي أهلي وأصدقائي؟
المحقق: لا توجد أية مشكلة، سنغير صورتك في رؤوسهم.”
“ المحقق: زرعنا لك رأسا ممتازا يليق بمواطن صالح.”
ثم يعلن الجلاد عن فقدان الرأس القديم الذي كان الجميع يخشاها فيقول:
“الجلاد: فقدان رأس مواطن.”
إذ تعرض ذلك الرأس للتعذيب.
يمتلك الربيعي رؤية درامية ورسالة فكرية يرغب في إيصالها من خلال اعتماد التاريخ باعتباره أحد الروافد التوثيقية التي تسهم في بناء المسرح وتحمله رؤية اجتماعية وسياسية في عصر مليء بالتناقضات من خلال تقديمه للنماذج التاريخية في المجتمعات. جاء البناء الدرامي لمسرحية “رأس خارج على القانون” متسقًا مع موضوعها المتناغم مع الطرح السياسي، كما أنه جاء متوافقًا مع الشكل أو القالب المونودرامي. 
“ هو: إني المواطن فلان بن فلان الفلاني أعلن عن فقدانَ رأسي الشخصي، ذات كابوس، العلامات الفارقة : كدمة في الجانب الأيسر إثر هراوة بوليسية، صفعة مؤلمة على الخد الأيمن، قطع  في الأذن اليسرى.”
ثم يتجلى الكشف الدرامي:
“ الشرطي: اكتب أنا الموقع أدناه أقر بأنني سأسلم رأسي الشخصي حال عثوري عليه، وإذا عثر عليه بحوزتي تترتب علي َكل  قوانين العقوبات المنصوص عليها في معاقبة  كل من يتستر على رأس خارج على القانون.”
تتجلى قدرة الربيعي في كيفية استنبات الحدث الدرامي والذي يمكن للمتلقي أن يلحظه منذ البداية من خلال نظرية المؤامرة التي حيكت للحسين، وكيف ساهمت في نموه من خلال حبكة محكمة فيما بعد ووصوله إلى فترات من الذروة وليس ذروة واحدة وهو ما جعل نهاية المونودراما تبدو صعبة التوقع إذ لا يمكن للمتلقي أن يتوقع الحدث الذي تنتهي عنده المسرحية نظرًا لتشابك الخيوط الدرامية وتعانق عنصري الزمن والمكان.
وحينما يرفض تسليم رأس يهوي الجلاد بسيفه على عنقه، ثم يتضح لنا أن المرأة قد استسلمت للنوم ثم تصحو مذعورة إثر طرقات عنيفة فتحسبه الرجل الذي تنتظره لكن يصيح صوت أجش قائلا:
“الصوت: افتحي، لا مكان لأعداء المواطن الأكبر في وطننا، لا مكان للمخربين، المتآمرين، الجواسيس، لا مكان للرؤوس العفنة.”
في نفس الوقت يكسر زجاج النافذة وتُلقى رأس بجوارها فتستسلم للضحك. ويسدل الستار.
تعتبر مونودراما “رأس خارج على القانون” عملًا مسرحيًا مهما استخدم فيه الربيعي الشخصية المونودرامية ووظفها بشكل فني ورسم أبعادها الاجتماعية والنفسية وحملها بقضايا سياسية تاريخية من أجل الإسقاط على التاريخ الحديث في العراق، وجاء الرمز فيها بشكل فني دون خطابية أو مباشرة يمكن أن تفسد النص، ويظل هذا العمل المسرحي وثيقة مهمة لتقديم تاريخ القمع البشري وفلسفة البتر بالعراق في أعلى تجلياتها.


ترجمة عبد السلام إبراهيم