العدد 603 صدر بتاريخ 18مارس2019
البلدي.. يا مين «ينقط»
مع تطور العصر والمتغيرات التكنولوجية والاجتماعية، حدثت تغيرات في سلوك مرتادي دور العرض المسرحي، من الجمهور، وكذلك من الفنانين وإدارات المسارح.. تبدلت العادات والتقاليد المصاحبة والمحيطة بالعرض المسرحي وطفت ظواهر جديدة منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي، فكيف يرى المسرحيون تلك المظاهر المستحدثة؟ وكيف يمكن لهم التعامل معها، الاستفادة من إيجابياتها والحد من سلبياتها.. هذا ما سنتعرف عليه خلال هذه المجموعة المتنوعة من اللقاءات.
الناقد د. أسامة أبو طالب أوضح أن هذا الموضوع يندرج تحت مسمى أدبيات المسرح، وهي أدبيات الاستعداد للذهاب إلى المسرح، والوقوف أمام باب المسرح، ودخول المسرح، والجلوس في المقاعد ثم انتظار رفع الستار. وأشار إلى أن أدبيات المسرح لا تتعلق فقط بالجمهور وإنما تتعلق أيضا بالفنانين الذين يقدمون العرض المسرحي. وذكر أبو طالب موقف الكاتب الإنجليزي الكبير جورج برنارد شو عندما أغلق باب المسرح ورفض أن تدخل ملكة إنجلترا بعد أن تأخرت دقيقتين فقط عن موعد رفع الستار.. هنا كان شو عظيما كما كانت الملكة أعظم منه حيث امتثلت لتقاليد المسرح وانتظرت إلى ما بين الفصلين، لتستطيع الدخول.
أضاف أبو طالب: هذه الأدبيات ترتبط ارتباطا كبيرا بنشأة المسرح، حيث نشأ كطقس ديني في الولادة الأولى له في مصر القديمة، في احتفال شعبي كبير يتصدره الفرعون، وحوله الحاشية وكبير كهنة آمون، ويستمر الحشد الاحتفالي إلى أن يدخلوا داخل المعبد ويظل عامة الناس في الخارج ولا يرى أحد منهم العرض الذي كان محاطا بهالة من الإجلال والتقديس، ولهذا اندثر المسرح المصري القديم لأنه لم يتنفس الهواء الطلق، لأنه لم يتحول من طقس ديني إلى عرض جماهيري. هكذا أيضا كان العرض المسرحي اليوناني مع اختلاف الجو المحيط. وفي العصر الحديث أيضا أحيط المسرح بهذه الهالة من التبجيل مع كل أشكال العلبة المسرحية. وهنا يأتي دور الجمهور الذي يستعد للذهاب إلى المسرح. فلا يمكن أن يذهب بملابس العمل، وفي المسارح الكلاسيكية لا بد أن يذهب بالملابس الرسمية وهي ربطة العنق والبذلة للرجال وهكذا السيدات لهم ملابس رسمية أيضا خاصة بهن. استمر هذا على مر العصور في عصور النهضة والوسيط والقرن السابع عشر وعصر النهضة المتأخر وحتى هذه اللحظة. مع احتفاظ المسارح بخصائصها النوعية وهذا أيضا من الأدبيات.
تابع: ففي القومي مثلا تقدم العروض الكلاسيكية، ومن جمال تلك الأدبيات: دقات المسرح الثلاث والستارة الحمراء الفخمة، وأيضا عدم التدخين، وكذلك الأداء الصوتي المرتفع والفخم الذي ينبغي أن يصل إلى السيدة الصماء الجالسة في المقعد الأخير، هذا يعني أن هذه المسارح قديما لم تستخدم الميكروفونات التي تغير الآن من الصوت، وكذلك في فن الأوبرا لا ينبغي أن تستخدم الميكروفونات التي من أسوأها الميكروفون ذو البطارية المعلقة التي تجعل مظهر الممثل خارجا عن إطار الشخصية فلا تصح في العروض التقليدية ولكن تصح في عروض الهواء الطلق الخفيفة والعروض الهزلية.
تابع د. أسامة أبو طالب: أيضا من الأدبيات ما يسمى «الأبلاسير» أو موظف تنظيم الجلوس في مقاعد المسرح وهو مدرب تماما ويعرف جيدا كيفية الوصول إلى المقاعد بشكل بسيط، وكان هناك عادة أن يدفع أفراد الجمهور إكرامية مادية له. ومن الأدبيات أيضا عدم الحديث أو التعليق أثناء العرض. وأشار إلى أن الجمهور نسي هذه الآداب، ساعد في ذلك مسرح القطاع الخاص، ما عدا مسرح محمد صبحي. كما تبخرت في مسرح الدولة لأن الحالة النوعية للمسارح قد تغيرت.
أشار أبو طالب أيضا إلى وجود عادة رديئة جدا اخترقت تقاليد المسرح وأصابتها بالشروخ وبالتصدع هذه الأيام، وهي أن يقف المخرج والفنان ويحيون الجمهور بعد العرض وكأننا في مدرسة ابتدائية، مشددا على أن العرض المسرحي أكثر مهابة وإجلالا. كما ذكر أيضا اختفاء البانفليت، تلك المطبوعة الجميلة التي يتم فيها تقديم فريق العرض المسرحي، واستبدل بها شيء غريب جدا، وهو أن يقف مدير المسرح أو المخرج بعد العرض لتحية الجمهور وتقديم الممثلين، مشيرا إلى أن مثل هذه الأمور لا تحدث إلا في المدارس، ويجب الامتناع عنها كليا.
أضاف د. أسامة أبو طالب: من الآداب التي تم تجاوزها أيضا في مسارح الكوميديا الرخيصة تجاوز الممثلين وحديثهم مع الجمهور وتبادل القفشات معه، وهو ما يكسر هيبة الحضور والفرجة واحترام الناس للفن والفنانين. وختم أبو طالب بقوله إن هناك حلقة مفقودة وهي حلقة التربية المبكرة على حب المسرح وعادة ارتياد المسارح، وهي من مهام المسرح المدرسي الذي اختفى الآن.
صعوبة الالتزام بالمواعيد في القاهرة
أما المخرج إميل شوقي فيحلل بعض السلوكيات المستحدثة قائلا إن الازدحام الشديد بالقاهرة أوجد الكثير من عدم الانتظام، وخصوصا في المواعيد، فالناس في حياتهم العادية يصعب عليهم انتظام مواعيدهم، وعندما يكون المسرح في المرحلة الثانية بعد الفيديو والسينما يكون كل شيء مبررا. خصوصا عندما يختص الأمر ببطل العرض. أضاف: ذات مرة شاهدت عرضا للفنان محمد رمضان وكان في نفس الوقت يقوم بتصوير فيلم في مدينة الإسكندرية، واضطر للتأخر عن العرض فقام أحد ممثلي الأدوار الثانوية بأداء دوره في المشهد الأول حتى حضر رمضان واعتذر للجمهور واستكمل دوره في العمل، وقد حدث لي شخصيا أحد هذه المواقف، أثناء عرض مسرحية (حفلة أبو عجور) من إخراجي، لم يحضر الممثل علي عبد الرحيم نتيجة مرضه المفاجئ واضطررت لأداء دوره بالعرض. في الظروف الحالية يصعب على أي شخص الالتزام بمواعيده نتيجة ازدحام المواصلات في القاهرة وظروف تعطل الطرق لأي أسباب، لكن يبقى في النهاية الالتزام هو الأصح.
أضاف: من الظواهر المستحدثة أيضا تحية الجمهور من خلال إمساك المخرج بالميكروفون لتقديم الحاضرين، وأنا أوافق عليها لأنني أقوم بها حيث إنني أقدم عادة عروضا شعبية، تلتحم بالجمهور وتتفاعل معه، مع وجود مساحات من الارتجال والتعامل مع الصالة، ففي النهاية يمكن أن نقوم بتحية الممثلين وضيوف العرض، وهذا يعتبر جزءا من نسيج العرض. لكن لا يجوز أن تقدم عرضتا كلاسيكيا بالمسرح القومي، ثم تقوم بتحية الضيوف، فهذا منتقد وليس من نسيج العرض.وأنا أحد الذين تربوا على التقاليد المسرحية، وكان أول عرض لي بالقومي هو عرض (رابعة العدوية) من بطولة الفنانة سميحة أيوب، وكان هناك التزام بفتح الستار في تمام التاسعة، والالتزام بالصمت في الكواليس لدرجة المشي على أطراف الأصابع، لكن ما يحدث اليوم أنه يمكن أن يحدث مشاجرة في القومي بين ممثل ومخرج، وتتبادل أبشع الألفاظ لدرجة أن يغلق العرض نهائيا. تابع: من المظاهر الأخرى الجديدة أن يجد المخرج أثناء البروفة جميع الممثلين يمسكون بأجهزة المحمول ومشغولين بها، دون الانتباه للعمل والشخصية، لكن هذا يتوقف على شخصية المخرج ومدى حزمه مع الممثلين، فلو تهاون في حقه كمخرج سيفسد العرض، لأن ما يحدث في البروفة هو الذي سيحدث في العرض وغير مستبعد أن يرد الممثل على الموبايل أثناء العرض وأمام الجمهور!
المسرح يموت بأيدي المسرحيين
ويحدثنا مدير المسرح العائم الفنان محمد شافعي قائلا: آداب وسلوكيات المسرح العربي عموما والمصري خصوصا تغيرت بشكل كبير منذ السبعينات وهناك ظاهرة غريبة جدا هذه الأيام وكأننا في أفراح، في أي عرض في مسرح الدولة نجد المخرج أو البطل يرحب بضيوف العرض بأسلوب غير حضاري وغير فني وهو ضد تقاليد المسرح لأنه يفترض أن أحيي الجمهور على العمل الفني الذي قدمته وأتلقى الترحيب والتحية ثم يغلق الستار، أما ما يحدث في معظم الجهات الآن فلا لا يجوز.
أضاف: من مكونات العمل المسرحي الكواليس الخاصة بالعرض، فقد تعلمت على أيدي كبار المخرجين أن الكواليس لها حرمة، لا يسمح بدخول أي شخص لا علاقة له بالعمل إلى خشبة المسرح، لكن الآن نجد ضيوفا كثيرة، وجلسات سمر وتناول الطعام والمشروبات، الكواليس وهذا غريب على المسرح المصري، وهنا أسجل احترامي للفنان محمد صبحي على التزام واحترام كواليسه. تابع: هناك أيضا عدم احترام موعد فتح ستار العرض، حيث تفتح الآن حسب الهوى والأبطال، فيمكن إلغاء أو تأجيل العرض من أجل انشغال أحد الأبطال بالتصوير في عمل تلفزيوني أو بالعمل في حفلة ما، والحقيقة هي أن المسرح أبو الفنون ولا بد أن نحترم عادات وتقاليد المسرح، عندما يتم تحديد موعد لفتح الستار لا بد من الالتزام به، لأن عدم الالتزام يسبب الملل للجمهور لطول فترة الانتظار بالكافيتيريا أو في ردهات دار العرض أو خارج الأبواب، وهذا من أسباب هجر الجمهور للمسرح وختم بقوله: هناك تقاليد لا بد من تعليمها دائما للأجيال الجديدة وإلا مات المسرح بأيدي المسرحيين.
مظاهر مستحبة
ويرى الفنان أحمد نبيل الألفي أن آداب وتقاليد المسرح والالتزام بها من عدمه يعود إلى إدارة دور العرض المسرحي، وأن المظاهر المستحدثة بعضها جيد وبعضها مبالغ فيه، فإذا كان الترحيب على خشبة المسرح بعد نهاية العرض يتم ببعض النقاد أو الفنانين الكبار فهي شيء مستحسن ولا غضاضة فيه. لكن إذا حدث ذلك بمبالغة واستغرق وقتا كبيرا أو تم دفع الحضور لإبداء الرأي بالإحراج فليس هذا مستحبا. أضاف: هذا بالطبع لا يحدث في الدور الكلاسيكية مثل القومي أو الأوبرا حيث تسير على التقاليد المسرحية المتوارثة والمتعارف عليها ولا يجوز كسرها. تابع: كذلك انتهي تقريبا الالتزام والانضباط أثناء العرض وهو ما كان موجودا في جمهور الستينات، حينها كان الجمهور منضبطا وملتزما الصمت أثناء مشاهدة العرض المسرحي، مقارنة بما يحدث هذه الأيام.
كواليس غير منضبطة
كما أشار الفنان القدير سيد عبد الرحمن إلى تعدد المظاهر السلبية المحيطة بالمسرح ومنها استقبال الضيوف في الكواليس أثناء العرض، واستدعاؤهم بعد نهاية العرض إلى الخشبة للترحيب بهم، والمجاملات بإشراك الأصدقاء أو الأقارب أو المقربين في العرض تحت أي مسمى رغم أنهم ليسوا من أصحاب الموهبة أو المهنة أصلا، مما يؤثر بالطبع على جودة العمل. أضاف: من السلوكيات السلبية أيضا إدخال مأكولات مشروبات صالة العرض، والان إدارات المسارح تترك عمال الكافتيريا يتجولون داخل الصالة، لدرجة أنهم يصعدون إلى الكواليس أثناء العرض لتقديم المشروبات والمأكولات للفنانين المشاركين، ولم يعد إلا أن يدخلوا إلى الخشبة، وتساءل: كيف سيندمج الممثل في دوره بهذا الأسلوب. كما أن الممثلين يمسكون بالموبايلات في البروفات، لذلك لا يوجد أي تعايش مع الشخصية ولا أي احترام للعرض المسرحي. أضاف: قديما كان كبار الممثلين لا يتصرفون أي تصرف يخرجهم عن الشخصية لدرجة أنهم كانوا لا يستقبلون ضيوفهم قبل العرض.. كان كل فنان يحترم مسرحه وعرضه وكان الجمهور يحترم ما يقال على خشبة المسرح.
نوع من الدعاية
وقال الكاتب المسرحي سعيد حجاج: لكل سلوك حديث في المسرح ما يبرره، وما يحدث بعد نهاية كل عرض من ترحيب بالجمهور، هو نتاج عدم وجود دعاية كافية تستطيع أن تلقى الضوء على العرض المسرحي، مما يدفع المبدعين لاتباع آلية حديثة تتناسب مع التطور التكنولوجي وأهمية السوشيال ميديا في إلقاء الضوء على الفاعليات الثقافية. وهو عمل رغم أنه يعطى صورة زائفة عن العرض المسرحي إلى حد كبير، حيث يسود النقد الانطباعي سواء من أصدقاء وعائلات الفنانين المشاركين في العرض، أو حتى على مستوى النقاد الذين لا يستطيعون التصريح بحقيقة رؤيتهم للعرض بشكل علمي رصين.إلا أنه في الوقت نفسه يعد بديلا مناسبا عن الدعاية التي لا تتوفر للعرض المسرحي الشاب أو سواه.
آراء موجهة ومجاملات
ثم تحدث الباحث المسرحي شريف دياب قائلا: معظم تلك البدع والعادات المستحدثة لا تروق لي، ببساطة لأنها لا تناسب مسرح الدولة، فمثلا فوجئت في أحد العروض أن طلب مخرج العرض مجموعة سماعات وعلقها علي أبواب المسرح لاستقطاب الجماهير وهو أمر غير مقبول في مسرح الدولة، كذلك سعي العاملين في العرض لأخذ رأي زملائهم من النجوم والفنانين في العرض. لذلك تخضع الآراء للمجاملات، وتكون موجهة بدليل، أنك لا ترى فنانا واحدا يتحدث في سلبيات العرض، بل الكل يسير علي وتيرة واحدة ويثني علي جمال وروعة العرض. وهناك اعتقاد سائد أن رأي أي فنان يساعد علي استقطاب الجماهير، ولا اعتقد أن مسرح الدولة الذي يرتاده مجموعة مثقفين في الأساس تجذبه آراء نجم ما في عرض مسرحي.
كذلك فقد أفردت مجموعة من مقالاتي عن «السيلفي» الذي تم استحداثه في العروض مؤخرًا باعتباره قوة جذب جماهيري أيضا. أضاف: الأمور المستحدثة لا تعني بالضرورة الجودة والتطوير الذي يخدم العرض المسرحي.