العدد 597 صدر بتاريخ 4فبراير2019
ضمن فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي أقيمت دورته الحادية عشرة في مصر، قدم المسرح القومي مسرحية “المعجنة” تأليف سامح مهران، إخراج أحمد رجب، في عالم تختل فيه القيم وتتهشم المُثل العليا، يسقط نموذج الأب وتتشابك العلاقات، لدرجة تسيطر فيها ضبابية الرؤية، وتصبح الغواية بداية الحدث ولحظة تحرك الوسط الساكن، لحظة تجعل من الأب منافسا للابن في سباق على الخطيئة وفعل السقوط، ومع تطور الأحداث الدرامية تتضح شخصية الأب، التي تعد أقرب لشخصيات الكوميديا الإغريقية نموذج (الفظ) لميناندرز، حيث الأب كاره البشر الذي تتسبب تصرفاته في إبعاد الجميع عنه نظرا لفظاظته، وفي “المعجنة” تجد نموذجا لهذه الشخصية يجسدها الأب (عبده) الذي تتسبب أفعاله في نفور الجميع منه، لبخله وسوء عشرته، ويعد سلوكه هو الدافع الأول لهروب زوجته من واقعها الأسري مدقع الفقر، إلى واقع آخر تتقبله حتى وإن عملت فيه خادمة تتولى تربية ابنة ليست ابنتها، لا يكتفي الأب بإزاحة الزوجة من حياتها الأسرية بين أبنائها، وإنما يتولى أمر تشويه سمعتها في تأكيد على أنها فعلت ذلك الهروب لأنها شخصية منحرفة، رفضت العيش بشرف في مقابل فعل السقوط، بينما تتكشف الأحداث الدرامية عبر فعل السقوط وتلك الغواية الجنسية، بين الابن وشخصية (هدية) ما يوقف استمرارية هذا الفعل حضور الأب، الذي يبدأ التنافس مع الابن للحصول على هدية التي يحصل عليها متزوجا إياها إمعانا في إذلال الابن، وإرضاء لحاجاته العاجزة عن الفعل، في خضم تشابك العلاقات تجد الابنة (حكاية) تمارس نفس فعل الغواية في الخفاء في نفس المنزل، ولكنه فعل مؤجل كما أن حلمها في الزواج وارتداء الطرحة هو ذاته مؤجل، مجموعة كبيرة جدا من الرسائل يحاول تقديمها العرض المسرحي لمتلقيه، في دلالة على مدى التردي الذي وصل إليه مجتمع المسرحية، تتصاعد الأحداث وصولا إلى لحظة يسقط فيها الأب متوفيا، بعد معركة بينه وبين الزوجة الهاربة، فالزوجة الأم لا تذهب لأي مكان دون الابنة التي تربيها والتي ترمز للمستقبل فوجودها في المسرحية يبدو دائما كالطيف من حيث سرعة الحركة، واستخدامها حذاء بتيناج تتحرك به طول مدة العرض في سرعة لافتة للانتباه، عبر حيلة ميلودرامية (يسقط الأب متوفيا) تتجسد الحيلة في دعوة من الطفلة إلى الخالق بأن ينتقم من الأب وكأن أبواب السماء كانت مفتوحة في هذه اللحظة فحلت لعنة السماء مباشرة لتنهي حياته، وكأنها الحيلة الإغريقية القديمة (الإله من الآلة) أتت لينتهي ذلك الجزء من المسرحية، ليبدأ جزء يحاول فيه الجميع معرفة أين أموال الأب البخيل، وهذا ما يجعلهم يستعينون بأحد الدجالين كنوع من الابتعاد عن العلم في مقابل الاعتماد على الخرافة والشعوذة والدجل، وهنا يأخذنا العرض إلى عالم من الفانتازيا تتمازج فيه الدلالات ويتم تقديم مادة فيلمية تقدم مصر الفرعونية إلى جوار كونها قطعة من قلب أفريقيا، فيظهر شخص من أرضية خشبة المسرح وكأن الأرض انشقت عنه وهي حيلة لمهندس الديكور (صبحي السيد) فيظهر فرعون مصري يرتدي زي المصريين القدماء، ويحيط به مجموعة من الحراس يرتدون الزي الأفريقي ويحملون أسهما أفريقية، هذا الفرعون هو الأب عبده وقد يكون هو ذاته في زمن آخر، ومع ظهور الفرعون يتحول المنزل إلى تكوين أشبه بشكل الهرم وكأن هذا المنزل القديم له امتداد زمني يحيلك إلى هذا الشكل الهرمي، والحضارة المصرية القديمة الضاربة بعمقها في التاريخ، جل ما يهتم به هذا الملك الفرعون هو أن يأخذ معه (حكاية) إلى الماضي لتصبح ملكة من ملوك الفراعنة كما يرى أنها كانت كذلك في الماضي، وكأن حكاية هذه أصبحت ترمز لمصر التي يريد بعض من أبنائها العودة بها إلى الماضي، في مقابل المناضلة من قبل بقية شخصيات المسرحية، في محاولة لعدم الاستسلام وتركها تذهب إلى غياهب الماضي.
تنتهي أحداث المسرحية بوصول أصحاب العلم الذين يحررون حكاية (مصر) من براثن الماضي عن طريق العلم وليس الخرافة، لتؤكد طفلة المستقبل أنه من غير الممكن أن يحيا الإنسان في الماضي أو يحيا في المستقبل، وإنما عليه أن يعمل وفق الراهن وبتطور الزمن ومروره سيصل لهذا المستقبل المبتغى. مسرحية بكثرة دلالاتها مثيرة للجدل فقد ترى الدلالة التي تؤكد مدلولا ما وترى عكسها في اللحظة ذاتها.
تصميم ديكور وأزياء وإضاءة (صبحي السيد) وجميع هذه العناصر أضفت جمالا على العرض المسرحي، فالديكور استطاع التعبير عن المكان بشكل واضح وتم الاعتماد عليه بشكل هام في العرض فهو بيت كبير يتكون من طابقين ترى الغرف يمين، وعمق خشبة المسرح وثمة مستوى في الأعلى وهو غرفة الأب التي تعبر عن هينمة السلطة الحاكمة لهذا المنزل وهي سلطة الأب، السلم الذي يصل بين الطابقين يبدو استخدامه من زاوية واحدة في النصف الأول من العرض المسرحي، بينما في النصف الأخير ومع ظهور الفرعون يفرد السلم ليصبح كهيئة مثلث يعبر عن الهرم، وكأن البيت أصبح هذا الهرم الذي ستسحب إلى داخله شخصية (حكاية) حينما يغويها الفرعون للعيش في حياة ملكية، الإضاءة مصممة بشكل لافت للنظر وهي تعبر عن اللحظات الدرامية المختلفة بل وتدعمها، والأزياء بقدر ما هي بسيطة وعملية بقدر ما ساهمت في اكتمال الحالة الدرامية.
قامت بأداء دور (هدية) إيمان رجائي وأدت الدور بإتقان واضح إلى جوار أنها أضفت عليه الكوميديا، (أحمد رجب) قام بأداء دور مفتاح الابن، وقد عبر عن الابن كارها تصرفات الأب متمنيا له الموت، (ناصر شاهين) عبده والفرعون، وهو ممثل مخضرم قادر على التعبير عن الشخصية بقدر كبير جدا من التمكن، تتميز (هايدي عبد الخالق) التي قدمت دور الأم انشراح، بموهبتها الواضحة وقدرتها على التعبير عن ما يعتمل بداخل الشخصية الدرامية فتشعر أنك أمام شخصية من لحم ودم، (أسماء عمر) قدمت دور حكاية بقدر كبير من الوعي والإتقان، (محمد العزايزي) إلى جوار غنائه الموفق أدى دور الشيخ بقدر كبير من التمكن، (مريم إسلام) الطفلة التي قدمت دور تحفة، وهي موهوبة بدرجة كبيرة جدا، (محمد أبو يوسف، عمر المختار، محمد فاروق) قدم كلا منهم الدور الموكل إليه بقدر كبير من الإتقان.