العدد 591 صدر بتاريخ 24ديسمبر2018
البحث عن الحقيقة يتطلب شجاعة؛ في كثير من الأحيان يشعر المرء أنه مقيد؛ ولكي يشعر بالارتياح يوكل هذا القيد إلى من يعلوه، ويعطيه حق التحكم والسيطرة. من هذه الفكرة انطلق عالم عرض “بلو لاند” الذي قدمه فريق كلية دار العلوم (جامعة القاهرة)، والذي عرض ضمن فعاليات مهرجان جامعة القاهرة للعروض القصيرة 2018 (فنون 2) الذي قدم على مسرح المدينة الجامعية، من تأليف مجيب أحمد وإخراج مصطفى محمود.
تدور أحداث العرض حول رسام يدعى فرنسوا رسم لوحتين (أرض الضباب، ومدينة المعجزات) لندخل إلى عالم اللوحتين والمعاناة التي يعانيها أبطال اللوحات والنابعة من الفنان الأصلي وتمثله.
تدور الأحداث في ثلاثة عوالم (أرض الضباب - مدينة المعجزات - بيت الرسام) ننتقل بين العوالم الثلاثة من خلال الشخصيات المعبرة عن كل عالم والديكورات والملابس والإضاءة العامة للمشهد حيث تدور الأحداث حول اعتقاد أهل مدينة أرض الضباب ومدينة المعجزات أن سر اختلاف سلوكياتهم داخل الحلقات لا يعلمه سوى الجوكر والملكة لنكتشف أنها خرفات صنعوها ليستعبدوا أنفسهم، فيصبح المقيد هو الذات وليس الآخر.
ربما كان أهم ما يمكن التوقف أمامه في عرض “بلو لاند” هو ذلك الاهتمام الذي أعطي لبناء صورة مسرحية غنية ودالة على الأفكار التي يحاول العرض طرحها، فأرض الضباب تم تصميم الملابس والمكياج الخاصة بمشاهدها باللون الأزرق كذلك الإضاءة التي يغلب عليها اللون الأزرق وشخصية “كوكرس” و”فلورا” اللذان حاولا الإجابة عن سؤال سبب وجودهم وتغير سلوكياتهما خلال المواقف التي يمرون بها تغير والتي تبدل من مكنوناتهم وتجبرهم على تصرفات خارجة عن إرادتهم، وهي مدينة دائمة الغيوم يفصلها عن الشمس جبل عالٍ.
بالمقابل، فإن مدينة المعجزات تميزت بالألوان المبهجة في ملابس الأقزام والخلفيات الحمراء والصفراء وشخصيات الجوكر والملكة اللذين يعتقد الجميع أن لديهما سر الحقيقة وتغير الشخصيات ما بين عالمهم وعالم الحلقات.
أن اختيار اللون الأزرق لأرض الضباب، والألوان المبهجة لمدينة المعجزات، والألوان التقليدية الحية الواقعية لعالم الرسام، لم تكن محض صدفة، ولكن كان عاملا لتمييز كل عالم على المستوى البصري، فبيت الرسام تميزه شخصية الرسام “فرنسوا” ولوحاته الثلاث (لوحة البلو لاند - ولوحة مدينة المعجزات - واللوحة الأخيرة) والديكور الذي يغلب عليه اللون الأبيض والآريكة، الجانب الواقعي داخل العرض الذي لا ينتمي إلى عالم الخيال، بل إنه المشكل له.
هناك ذات دائمة البحث والتشكك عن ماهيتها وتحاول الوصول إلى سبب وجودها لتعلم مهمتها على هذه الأرض، وهنا نتكلم عن شخصية «كوكرس» الذي خرج من عالمه في أرض الضباب بحثا عن هويته وهوية العالم المحيط.
خروج شخصية “كوكرس” من عالمه استطاع التأثير في العوالم الأخرى، وجد أن الجوكر الذي يظن الجميع أنه المتحكم، ليس متحكما ولكنه صنع من جبن الآخرين، ما هو إلا صورة صنعوها وأجبروا أنفسهم على الخضوع لها.
رغم اختلاف العوالم فإن الملابس استطاعت إبراز هذا الاختلاف، فنجد أن عالم الجزيرة غلف باللون الأزرق في الملابس وتميز شخصية “كوكرس” بما يشبه الدرع والمكياج الأزرق والنظارة التي توحي إلى عالم الكارتون مثل شخصية “درانزيدر” الشخصية الآلية الشجاعة، ملابس فلورا الفستان الأزرق، شخصيات الأقزام والملابس الملونة المرقعة، رغم حزنهم والجهد المضاعف في تسخرهم للعمل فإن صوتهم وملابسهم توحي بالفرح.
“الجوكر” التي لعبها أربع شخصيات من بينهم فتاة جميعهم كانوا ظلا لكوكرس، على المستوى الرمزي هم أفكاره التي تحاول عرقلة إتمام رحلة البحث عن هويته، حركة الأجساد غير التقليدية، الخفيفة الرشيقة التي تعبر عن أسمائهم “جوكر”. ورغم أن الصورة الذهنية لكلمة جوكر تحيل إلى لعبة “الكوتشينة” وأنها الورقة الرابحة، فإن داخل حبكة العرض استطاع كوكرس التغلب على الجوكر بداخله ليكمل الرحلة.
تداعى لي أثناء مشاهدة العرض نص للكاتب براندلو بعنوان “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” وجود مستويات للحقيقة والخيال، سمة العرض الأساسية وهي الشخصيات التي تحاول البحث عن هويتها، تحاول الوصول إلى الحقيقة لتجد أن الحقيقة هي المرور بالرحلة.
أعتقد أنه لا يوجد من يتحكم، فلم يبرز العرض عالما أو فكرة سيطرت على الأخرى، ولكنها عوالم تدور في فلك واحد وتكمل بعضها، خاضعة لما أسمته “فلورا” القدر، ولكن أثارت تسأل هل نحن مسيرون أم مخيرون؟
ظهر العرض كلوحة فنية تكاملت عناصره بحرفية واختلاف منسجم لا يشعر بالتشظي، وإنما هي حالة جمالية أمتعت الحضور تتخلل هذه اللوحة الجميلة الرتوش السوداء وهي الإظلام لتغيير المشاهد “بلاكات” التي ساهمت بصنع نوع من التشويش في الانتقال من عالم إلى آخر.
رحلة ممتعة صنعها القائمون على العمل بجولة بين عوالم مختلفة ولكنها متكاملة، لم تكن هناك رسالة واضحة ولكنني أرى أنها ومضات وتساؤلات.
هل هناك عالم آخر غير الذي نعيش فيه؟ من هم سكان هذا العالم؟ كيف نستطيع التعرف عليهم؟
وهنا تكمن رحلة البحث التي بدأتها Blue Land