«سجن النسا» برؤية عصرية

«سجن النسا»  برؤية عصرية

العدد 931 صدر بتاريخ 30يونيو2025

نشرت الكاتبة فتحية العسال رائعة «سجن النسا» عام 1993م، والتى قدمت من خلالها مشكلات مجموعة من النساء جمعتهن زنزانة سجن، لتقدم لنا نصًا نسويًا يهتم بنظرة المجتمع للمرأة، وأثر متغيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية عليها، بالإضافة إلى اهتمامها بتقديم نماذج مختلفة للمرأة المصرية من خلال سجينات الزنزانة وحكاياتهن.
  يبدأ العرض المسرحى «سجن النسا وينتهى بمشهدين يضمان البطلتين» ليلى وسارة يفصل بينهما زمن من الأحداث والحكايات، تتجسد تلك الحكايات من خلال سجينات تجمعهن زنزانة واحدة، وتؤدى إلى التحول الذى طرأ على شخصية ليلى، وهى الشخصية المتغيرة الوحيدة فى العرض، وليلى منقادة ساذجة أفنت عمرها فى تلبية رغبات زوج أنانى مستغل، وعلى النقيض “سارة» الفتاة المهتمة بقضايا المرأة بل والمدافعة عنها. وتمثل الفتاتان نموذجين متناقضين للمرأة، وإذا تناولنا شخصية ليلى بالتحليل بين المشهد الأول والأخير، سنجد أنفسنا أمام امرأة أخرى أكثر قوة وإحساسًا بالآخر؛ اختبرت الحياة وشاهدت الكثير من المآسى والمواقف، من خلال النساء الللاتى جمعتهن زنزانة واحدة وعشن آلام الخذلان والظلم، قدمهن “منير» دفعة واحدة على المسرح فى إضاءة كاملة.
فى السجن تتقاطع حكايات ليلى وسارة مع حكايات السجينات فتروى «صرصارة” بعد صدور الحكم عليها قصة فقد أسرتها تحت الأنقاض، والشارع الذى لم تجد غيره مأوى فتعرضت للإغتصاب والإنكار المجتمعى، كما تحكى «ندم» كيف وجدت نفسها بمفردها فى مواجهة الفقر والمرض، “إنصاف» المرأة التى أدانها زوجها قبل القانون، رغم مسانادتها له سنوات طويلة بالكد والخدمة فى البيوت، فأنكرها كأنه لم يعش معها يومًا و كغريبٍ حكم عليها دون رحمة. تستقبل إنصاف مولودها الذى تحلم بأن يكون رجلها وسندها فى هذه الحياة القاسية وتستقبله مع فرحة السجينات لكن يحرمها الزوج والقانون والزنزانة من وجوده معها فى مشهد تراجيدى، فيبكى معها الجمهور قبل السجينات. “عدلات» الأم التى حكم عليها بالإعدام بعد أن قتلت زوجها دفاعًا عن شرف ابنها. ثم تقابل “شفيقة” الراقصة التى قتلت زوجها بعد خيانته لها، وتقول جملتها الحوارية المتكررة «حبيت، اتخميت، قتلت، ارتحت “ لتتعرف ليلى من خلال حوارها معها معنى السجن الحقيقى، ومنهم للمعلمة «خوخة» التى تضحى بحريتها وتدخل السجن بدلًا من زوجها؛» فهل ترى المرأة نفسها غير مستحقة للحرية؟» ليطلقها الزوج فتكسرها الصدمة وتسقط مغشيًا عليها.كل هذه الحكايات تترك أثرًا عميقًا فى نفسية ليلى وتجعلها تتساءل عن قيمتها، وقيمة التضحية فى العلاقات، و معنى السجن وقيمة الحرية، والإيمان بالنفس وقضايا الآخرين.
  استخدم المخرج يوسف مراد منير فى عرض هذه الحكايات مدارس مسرحية متنوعة لتقديم المشاهد؛ ما أضاف تنوعًا وتجديدًا للعرض ففى مشهد ولادة إنصاف استخدم الطبيعية، كما استخدم التعبيرية فى مشهد دخول الراقصة “شفيقة” وجعلنا نعيش معها الخيال، الواقعية فى مونولوج “ليلى” هذا التنوع فى الأساليب المسرحية ساهم فى تفادى الملل والتكرار، وأبقى الجمهور متفاعلًا مع العرض.
تتجلى الرمزية فى العرض المسرحى من خلال عدة عناصر، منها ظهور عقارب الساعة فى مشاهد الفلاش باك التى ترمز إلى الوقت والزمن، حمل السجينات “عاطف» مولود إنصاف الذى يرمز إلى الأمل والبداية الجديدة
قسم الديكور لأربع مناطق:
غرفة نوم ليلى - منزل كاميليا - الملهى الليلى - الزنزانة
والزنزانة هى المكان الرئيسى للعرض وقد أثرت تأثيرًا بالغًا على الأحداث والشخصيات ؛ فوجودهن جميعًا فى حيز جدرانها ومعايشة كل منهما معاناة الأخرى ؛فتتقاسمن معاناة بعضهن البعض؛ أدى إلى تحول منطقى وتدريجى لشخصية ليلى، كما أدى إلى مزيد من الحيمية والمساندة بينهن. وبقية الأمكنة تذهب إليها الأبطال بطريقة الفلاش باك ثم تعدن إلى حيث هن بزنزانة السجن الضيقة التى تحمل الكثيرمن الألم والمرار.
إن بنية العمل وشخصياته وأماكنه تضافرت لتكتمل بأداء الممثلات اللاتى قدمن بكثير من المعايشة والوعى بطبيعة الشخصيات اللاتى يجسدنها، لقد ظهرت ليلى بشكل أكثر ثباتًا فى المشاهد الأخيرة ولعلها الشخصية الوحيدة المتحولة وسط شخصيات ثابتة تعرض مآسيها وترفض مصائرها. اعتمد “منير» على تمرير أداء متميز تنتقل بعضهن بين الواقعى والطبيعى والخيال، معتمدًا على كفاءة ممثلاته.
وعلى جانب آخر بدت الإضاءة بطلًا من أبطال العرض، يعتمد «كاجو” على الإضاءات المختلفة فينوع بين الإضاءة الخافتة والبؤر الضوئية فى المونولوجات الفردية، والألوان الموحية بإحساس كل مشهد، بالإضافة لإضاءة جانبية فتشعر بأن الجدران تطبطب على سجينات الزنزانة، ثم ينتقل ليستخدم إضاءة كاملة للمسرح مع دخول كل شخصية. للمرة الأولى وكأنها بطاقة تعريف للشخصية. وكان للأشعار والموسيقى دور كبير فى نجاح العرض وإيصال رؤية المخرج، فاختيار أغنية «على الطريق» لمشهد البداية والنهاية، والتى تمثل الفكرة الرئيسة والتى بلورت كثيرًا من الأحداث وحددت النهاية، فالنساء جميعهن على الطريق فهل نستطيع إنقاذهن أم سيستمر ظلمهن؟ هل سيدفعن ثمن المتغيرات المجتمعية والحكم المسبق والتقاليد التى تجعل من المرأة مصبًا لكل اللعنات؛ فوحدهن يدفعن ثمنًا لأخطاء مجتمع كامل.هل سيبقين فى القاع أم سيمد لهن المجتمع يده وينقذهن؟ ومن الزار للسبوع لإعدام عدلات قدم المخرج المشاهد بمصاحبة الأغانى وأشعار أحمد الشريف بأداء السجانة “بخيتة»، والتى لعبت دور الراوى ليس بشكله التقليدى وإنما بشكل جعل من الأغنية راويًا مؤثرًا، معقبًا ومشاركًا للأحداث.
 كل هذا جعل من “سجن النسا” عرضًا مميزًا، يخاطب عقل ووجدان المشاهد، فتصاحبك بعد مشاهدته شحنة من المشاعر المتناقضة، بينما أنت على أبواب الخروج.


أماني عبد الرحمن